انتفاضة الأنبار وسامراء.. ربيع سني أم ربيع عراقي؟

                                        

                                             طارق الهاشمي*

منذ ما يربو على ثلاثة أسابيع عاد العراق مجددا وبقوة إلى واجهة الأحداث، لا على الصعيدين العربي والإقليمي فحسب، وإنما على الصعيد العالمي أيضا.

المثير للاهتمام هذه المرة ليس خرقا أمنيا كبيرا، أو فضيحة فساد مدوية، أو تعديا إيرانيا صارخا على سيادة العراق، أو تجاوزا كارثيا على حقوق الإنسان.. لا، هذه المرة الأمر مختلف تماما. إنه انطلاق انتفاضة تبشر بربيع عراقي.

من باب الإنصاف القول إن سياسة نوري المالكي في الظلم والتمييز والفساد وسوء الإدارة ألحقت ضررا بالغا في الأوضاع العامة للوطن والمواطن على حد سواء، بل لا أتردد في القول إن فساد المالكي ظلم الشيعة في المحافظات الجنوبية عندما حرمهم من حقهم في ثروة العراق الهائلة، حيث ما زال الملايين منهم يعانون من ثالوث الفقر والجهل والمرض، بل إن المعاناة تتفاقم رغم أن الميزانية السنوية تسجل زيادات حادة.

أما في الوسط والشمال (نينوى) حيث الأغلبية العربية السنية، فإن ظلم المالكي يأخذ شكلا آخر يتمثل على العموم في حرمان المواطنين من حقهم في الحريات العامة، من خلال مداهمات واعتقالات لا تتوقف والكل فيها متهم ومطلوب إن لم يكن اليوم فغدا، والمادة 4 إرهاب حاضرة وتقارير المخبر السري لا تنقطع وفرق التعذيب مدربة والتهم الكيدية جاهزة والقضاء مسيس والحكم بالإعدام لا ينجو منه أحد، حتى من يتمتع بحصانة دستورية!!

الظلم هو الظلم، وهو يكفي أن يكون دافعا للانتفاض والثورة، كما حصل في دول الربيع العربي وكان من المأمول أن ينتفض الجنوب أولا، لكن المفارقة أن الانتفاضة انحصرت حتى الآن في المحافظات ذات الأغلبية العربية السنية، ولا بد أن يكون وراء ذلك من سبب يبقى بحاجة إلى تفسير.

المحافظات ذات الغالبية العربية السنية تشعر - وهي مصيبة في ذلك - بأنها لم تنل قسطها من الظلم الذي تعرضت له بقية المحافظات فحسب، بل إنها تتعرض فوق ذلك لحملة تطهير مذهبي مقصودة ومخطط لها بعناية تستهدف استئصال المكون والقضاء عليه والأدلة والقرائن ماثلة ولا مبالغة في ذلك، إذ إن المحافظات لم تعد فقط مناطق غير صالحة للحياة، بل إن الفرد لم يعد يأمن على حياته أو ماله أو عرضه، والحكومة الطائفية وأجهزتها القمعية مصدر الخطر. والشعور العام الماثل اليوم: «أن تكون عربيا سنيا إذن أنت متهم». والمحظوظ الذي يفلت من قانون المساءلة والعدالة، يبقى قانون مكافحة الإرهاب بمادته الرابعة سيئة الصيت له بالمرصاد!

التطهير ليس بالضرورة أن يأخذ على الدوام شكل مذابح وجرائم ضد الإنسانية، بل قد يأخذ شكل القتل بالتعذيب أو بالمسدس الكاتم وعلى نطاق واسع، والتضييق بالرزق، والتهجير على الهوية، والاعتقال التعسفي، الحكم الجائر، كسر الكبرياء بالتعدي على الشرف بالاغتصاب والحط من الكرامة وعزة النفس بالسب والشتم والسخرية الطائفية.. وهذا ما هو حاصل في العراق اليوم.

وهنا يحضرني ما فعلته محاكم التفتيش وكانت وسيلة ملوك إسبانيا الصليبية لتطهيرها من المسلمين في القرن الخامس عشر، حيث اعتمدت قائمة محظورات رغم بساطتها اعتبرت كافية للاتهام، والحكم بالموت، كالعثور على مصحف أو سجادة صلاة مفروشة باتجاه القبلة، مظهر الختان، رجل يغتسل لصلاة الجمعة أو يتزين للعيد.. إلخ، حصيلة التطهير الديني كان قتل وتهجير ما لا يقل عن ثلاثة ملايين عربي مسلم في الأندلس.

وفي عراق اليوم، ذبح الآلاف من العرب السنة لمجرد انتمائهم، كما شرد وهجر الملايين منهم، حيث تكتظ مكاتب الأمم المتحدة في الدول المجاورة منذ سنوات بطوابير لا تنقطع من العراقيين أغلبهم من العرب السنة انقطعت بهم السبل وفقدوا الملاذ الآمن وأصبحوا غرباء على بلد الآباء والأجداد، كيف نفسر حصول ذلك بغير التطهير الطائفي بعد أن بات الشحن والتحريض العقائدي ضد السنة ممارسة على مدى اليوم والساعة، حتى الاسم والانتساب للعشيرة والمحافظة باتا كافيين للاتهام أو القذف أو الحط من الكرامة والكبرياء، لا أذكر القتل بالمثاقب والمناشير الكهربائية وأبطالها ما زالوا نشطاء سياسيين وقد بلغت الحملة أوجها خلال سنوات 2006 و2007 كما هو معروف للجميع. لكن القتل يتواصل والوسيلة الجديدة المفضلة هي المسدس الكاتم، حيث تنشط فرق الموت التابعة لأجهزة حكومية بالاغتيالات دون ضجيج وبدم بارد.

عندما نقول إن العرب السنة يتعرضون لتمييز طائفي فإن الاتهام لا يوجه لشيعة العراق، لا بل للنخبة السياسية النافذة والموالية للمشروع الإيراني، والتي ارتضت أن تكون بيادق وأحجارا على رقعة شطرنج يحركها ولي فقيه طهران، علما بأن ما يتعرض له العرب السنة في العراق من تمييز وظلم لا أصل له في الثقافة العراقية، بل هو متجذر في نهج دولة إيران التي نقلت ثقافتها في قمع السنة في إيران إلى العراق من خلال نهجها في تصدير الثورة. وبات السنة في كلا البلدين يعانون، كما هو عليه الأمر في سوريا في ظل الحكومة العلوية.

في ظل سياسة التهميش والإقصاء يبدو أن من غير المسموح لأهل السنة أن يرفعوا أصواتهم ويقولوا ظلمنا.. وإلا اتهموا بالطائفية، رغم أن الطائفية لا علاقة لها بالاعتزاز بالنسب والانتماء.. بل هي ثقافة الغطرسة والشعور بالتمييز الذي ترافقه نظرة دونية للآخرين، ومثل هذه الثقافة لا وجود لها في أجندة المنتفضين ولكننا نجدها واضحة في نهج الطرف القابض على السلطة في بغداد، والذي يتهرب من مواجهة مطالب مشروعة متوسلا بخطاب طائفي ما عاد مجديا، وعلى هذا الأساس حرك المظاهرات القسرية المضادة بلافتات وخطاب تشمئز منه النفوس.

في توثيق حوادث من هذا النوع، ترقى للتطهير والإبادة الجماعية، اعتاد العالم وكتاب التاريخ أن يتحدثوا بلغة الأبيض والأسود، وإلا ضاعت الحقيقة ولم يعد لتوثيقها مغزى، غرف الغاز في الحرب العالمية الثانية كانت وسيلة النازي في استئصال اليهود، والحروب الصليبية استهدفت المسلمين، ومذبحة صبرا وشاتيلا تولتها الكتائب اللبنانية ضد الفلسطينيين، وحملة الأنفال عام 1988 استهدفت أكراد العراق. ومجزرة حماه عام 1982 إنما وقعت على «الإخوان المسلمين» وليس عموم الشعب السوري.. وهكذا تجري تسمية الأسماء بمسمياتها الحقيقية.. لماذا لا نقول إذن إن العرب السنة وليس عموم الشعب العراقي هم وحدهم من يتعرض للتطهير؟

إنها حرب نفسية وإرهاب متعمد يتعرض له العرب السنة في العراق، والغرض أن يحرموا حتى من مجرد أن يرفعوا صوتهم ويخاطبوا العالم: ذبحنا نحن العرب السنة، وإن من يذبحنا هم صفويون جدد.. هذا يذكرني بتهمة محاربة السامية كتهمة جاهزة لإلصاقها بالمعارضين.

عموم العرب السنة وهم معتدلون وسطيون لم يجرحوا مشاعر إخوانهم الشيعة وليس في أجندتهم استهدافهم وقد شاركوهم منذ البداية عام 2003 مهمة تشكيل النظام البديل، وتحملوا في سبيل ذلك أعباء تنوء بها الجبال وتعرضوا لتحديات ومخاطر وفتن تشيب لها الولدان، لكنهم مع ذلك صبروا وتأملوا بشركائهم من نافذي الشيعة خيرا، لكن الخير لم يأت، بل جاء نقيضه.. غدرا.. وجحودا.. ونكرانا لجميل.

دعونا نحسن الظن بموقف الذين اعترضوا على خطاب الانتفاضة وفسروه حسب أهوائهم بأنه خطاب طائفي وهو ليس كذلك، هؤلاء وهم يشاهدون بأم أعينهم البؤس والمظالم والتخلف في كل مكان.. نسأل لماذا تأخروا ولم يبادروا بالانتفاض، بل لماذا لم يلتحقوا بالأنبار وسامراء والموصل وتكريت وديالي وبغداد.. لا نقول دفاعا عن أهل السنة، بل دفاعا عن حقوقهم التي سلبها الفاسدون واعتراضا على تردي الخدمات، بل على الجوع الذي يعانون منه.. إلخ. هل سكوتهم عن فشل نوري المالكي مبرر، أم مشروع، أم هو نوع من أنواع الاصطفاف الطائفي الذي تروج له منابر وخطباء، أم هو سوء فهم لحديث المصطفى، صلى الله عليه وسلم «انصر أخاك ظالما أو مظلوما»؟ لقد كررتها مرارا وأقولها لله وللتاريخ مجددا، لا يهم السنة من يحكم، بل يهمهم كيف يحكم، وكنا سننتفض ضد الظلم والفساد حتى لو كان الحاكم سنيا عربيا، ألم ينضم عرب سنة إلى المعارضة التي نشطت في إسقاط النظام السابق رغم هيمنة الشيعة والكرد عليها؟

العرب السنة تحملوا مسؤوليتهم وانتفضوا من أجل رد الظلم الذي وقع عليهم وعلى غيرهم، وكذا من أجل إيقاف حملة التطهير التي يتعرضون وهكذا بقيت أجندتهم وطنية تعني بكل العراق، هم ليسوا طائفيين، بل هم انتفضوا ضد التمييز الطائفي، هم ضحايا الطائفية البغيضة، وهم اليوم لا يطالبون بالعدل لأنفسهم ولا لوقف الهدر بالمال العام لذواتهم أو تحسين الخدمات لمحافظاتهم.. لا.. إنما هم انتفضوا من أجل عراق أفضل.. وبالتالي فإن من مصلحة العراقيين أن يلتفوا حولهم.

انطلق القطار بقيادة عربية سنية، لكنه يتسع لعموم العراقيين ولن يتوقف حتى يبلغ غايته ونأمل ألا يتخلف عنه أحد.

*نائب الرئيس العراقي

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1143 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع