عبدالوهاب الجواري
في ذكرى الأخ الحبيب .. كلمات .. تروي حكاية رجل صنع تأريخه
(( نودي للصلاة من يوم الجمعه الساعةالثانية والعشرين دقيقة 3 جمادى الاخرة من سنة 1408 الهجرية المصادف 22 كانون الثاني من سنة 1988 الميلاديه ,
وحين كان النداء يرتفع الى عنان السماء ويسعى المسلمون الى الجوامع لذكر الله تخلف الاستاذ الحكيم احمد عبدالستار الجواري عن السعي الى الجامع الجار لاءول مرة في حياته لاءن روحه في تلك اللحظات التي ارتفع فيها النداء لصلاة الجمعه ارتفعت الى جوار الله . وحمل نعشه في الساعة الخامسة والسابعة والعشرين دقيقة مساء حين كان صوت المنادي يتعالى لصلاة المغرب من ذلك اليوم المشهود )) ... بهذه الكلمات ابتدأ صديق عمره ورفيق دربه اللواء الركن الحاج محمد شيب خطاب رحمه الله رثاؤه للفقيد في احتفال المجمع العلمي العراقي الذي اقيم لتأبين فقيد المجمع والعراق (الدكتور احمد عبدالستار الجواري ) يوم الثلاثاء 9 شباط 1988 ...
وهكذا انطوت صفحة من المجد والتأريخ لشخص عاش في برديته العصامية والذكاء وطوى في عمره القصير اعمارا طويلة في تحصيل العلم والعمل الدوؤب من اجل تحقيق ما آمن به .. عاش عف اليد والضمير واللسان وزاهدا في الدنيا وبهرجها ..
شغل الدكتور الجواري مناصب علميه وسياسيه مختلفة طوال حياته العملية التي ابتدأت بعيد تخرجه واكمال دراساته بحصوله على شهادة الماجستير بمرتبة الشرف من جامعة القاهرة ( فؤاد الاول ) عام 1947 حيث عين مدرسا في دار المعلمين العاليه فمساعدا لعميدها وفي عام 1953 نال درجة الدكتوراه بمرتبة الشرف من الجامعة نفسها وعاد الى العراق حيث بدا في شغل المناصب العلمية والادارية الى ان أنتخب نقيبا للمعلمين مرتين الاولى عام 1962 والثانيه عام 1968...وتولى وزارة التربيه قي 1963 وفي 1968 واصبح وزيرا لشؤون رئاسة الجمهوريه ووزيرا للدولة واخيرا وزيرا للاوقاف حتى عام 1979... وأنتخب عضوا عاملا في المجمع العلمي العراقي عام 1965 . . وأختير عضوا مراسلا في مجمع اللغة العربيه بالقاهرة وأنتخب عضوا عاملا فيه عام 1985وهو واحد من عدة عراقيين انتخبوا لهذه العضوية في المجمع الذي يسميه الاخوة المصريين (مجمع الخالدين).. كما اختير عضوا مراسلا في مجمع اللغة العربية بدمشق وعضوا مراسلا في مجمع اللغة العربية الاردني وعضوا عاملا في المجمع الملكي لبحوث الحضارة الاسلاميه في الاردن...
ومن نشاطاته الساسية القوميه توليه رئاسة جمعية ( الدفاع عن عروبة الجزائر ) وعضوية نادي ( المثنى) ونادي (البعث العربي) و( نادي التضامن) ورئاسة اتحاد المعلمين العرب..
شخصيته .. علاقاته ... صداقاته
أجمع جميع من يعرفه على ماتمتع به المرحوم الدكتور الجواري من دماثة خلق وطيب معشر وخشية في الله متأسيا بقوله تعالى (( وابتغ فيما اتاك الله الدار الاخرة )) في جميع تعاملاته الشخصية والرسميه.. كان يحترم الناس لايفرق بين غني وفقير في ذلك ... يقوم بخدمة فراش مكتبه اذا ما زاره في بيته كما يقوم بها لغيره من زواره.. وعرف بورعه وتقواه التي نشأ عليها منذ نعومة اظفاره .. حافظا للقرآن الكريم قارئا له يوميا .. دابا على أداء الفروض الدينية والصلوات باوقاتها في المسجد المجاور لداره .. واذا كان في اجتماع رسمي او غيره ينهض لاداء الصلاة بوقتها..
وامتازت علاقاته باتساعها لتشمل العراق بجميع اطرافه ومن ثم الى كافة الاقطار العربية تقريبا ...فقد كانت صداقاته التي وعينا عليها مع زملائه بدار المعلمين العاليه وكذلك اقرانه من ابناء منطقتنا فكانت الدار تحتفي دائما بهؤلاء الاصدقاء الذين تجمعهم رابطة الصداقة المجردة عن كل غرض فثمة مع حفظ المقامات ( عبدالهادي محبوبة وجابر الشكري وعلي الصافي والشيخ محمد رضا الشبيبي والشيخ علي الصغير ورشيد الكليدار وعبدالرضا الصادق ... وجابر عمر وعبدالرحمن البزاز وابراهيم شوكة ونجم الدين السهروردي وابراهيم الكيلاني والسيد جمال الدين الالوسي والسيد عبدالحليم عبالغفور الشيخ ) وغيرهم كثير .... وعلى صعيد علماء الدين فكانت له صلات بمن درس عليهم وبمن ارتبط بعلاقات شخصية معهم مثل ( الحاج كمال الدين الطائي والشيخ عبدالكريم المدرس والحاج نجم الدين الواعظ والشيخ امجد الزهاوي والاستاذ عبدالوهاب السامرائي )...
ومن جانب آخر كانت للدكتور الجواري صلات وثيقة بالمرجعية في النجف الاشرف يعرفها الكثيرون من ابنائها وعوائلها التي ارتبط بها فقيدنا الغالي بعلاقات صداقة ومحبة اخوية.... فقد كان المرجع السيد محسن الحكيم رحمه الله يكتب له بصيغة ابوية (ولدي الحبيب احمد ) .... كذلك تولى الجواري كتابة ( مقدمة ..( اقتصادنا ) للامام محمد باقر الصدر ...( الا ان الاخوة قاموا برفعها من الطبعات التي صدرت بعد2003 )....... وكان ملفتا لنظر احد الاصدقاء حضور عددكبير من العمائم السوداء والبيضاء لمجلس فاتحة والدي رحمه الله .. ولما استفسر مني ذلك الشخص عن هذه الظاهرة اوضحت له مدى اتساع علاقات شقيقي بالنجف وأهلها وعلمائها..
كما كان الدكتور الجواري حمامة السلام بين المركز وشمال العراق حيث هو موضع ثقة الرئيس البكر من جانب والملا مصطفى البرزاني من جانب آخر وقد وثق ذلك الاستاذ محسن ديزئي اطال الله بعمره في مذكراته المنشورة في اربيل...
وكانت له صلات وثيقة برجالات الدين الاكراد ورجال الطرق الصوفية الذين يكنون له تقديرا عاليا ويحتفون بزياراته لهم بما يليق بمكانته لديهم .. ومن اوثق اصدقائه الذين ارتبط بهم بعلاقة عمرية الدكتورالشيخ عبدالله النقشبندي ....
وكذلك المفكر والفيلسوف والعالم الاستاذ مسعود محمد رحمهم الله جميعا ... ومن الوفاء ذكر ما قاله الاستاذ مسعود محمد بحق الدكتور الجواري بعد ان انتقل الى جوار ربه في لقاء اجراه معه الصحفي المرحوم لطفي الخياط ونشرته مجلة ( الف باء ) حيث قال المفكر والسياسي الكردي متحدثا عن جسامة فقد شخص بمكانة الجواري قائلا ..(( أني أرى غول الفناء قد فتح شدقيه الى آخرهما ليبتلع جبلا من الكرامة ))...
علاقاته العربيه وقناعاته المبدأيه :
تأثر الفقيد الغالي بما عاشه في مصر بداية اربعينيات القرن الماضي حيث كانت القاهرة في اوج عطاءها وقمة تطورها المختلف عن باقي المنطقه, وقد أمتها جموع من شباب الوطن العربي لتنهل من مختلف صنوف العلم في رحاب الازهر الشريف وجامعة ( فؤاد الاول ) القاهرة حاليا .. ويومئذ كانت بواكير العمل القومي تدب في صفوف الشباب حيث ( ياسر عرفات ورشيد كرامي وتقي الدين الصلح ) وغيرهم ممن دفعتهم القضية الفلسطينية وملابساتها الى العمل المبكر لتجاوز تداعياتها .... وقد أسهم فقيدنا العزيز بنشاط في اعمال اتحاد الطلبة العرب بجامعة القاهرة وتمكن من عقد صداقات مع كثير منزملائه العرب امتدت طوال حياته ومنهم القائد الفلسطيني ( ياسر عرفات ) الذي التقيته اول مرة في بيروت ولما عرف اني شقيق المرحوم الجواري قال لي ضاحكا وبطريقته في الكلام السريع ...... (بالله سلم لي عليه وقل له ابو عمار يهديك تحياته .... الا انه تراجع مبتسما .. لا لا قل له ياسر عرفات ) ....ومرة في مطار بيروت وكان قادما اليها في طريقه الى احدى العواصم العربية .. وما ان دخلنا صالة الشرف الا ووجد فيها الشيخان ( سنان ابو لحوم وعبدالله الاحمر ) اللذان استقبلاه بالاحضان والقبلات ...
ومازالت الجزائر تكرمه في ذكرى الاحتفال بانتصار الثورة الجزائرية لدوره في نصرة الثورة عندما كان يرأس جمعية الدفاع عن عروبة الجزائر ......
وكانت للفقيد الحبيب صلات شخصية بالرئيس جمال عبدالناصر توطدت من خلال علاقته بزميله المرحوم ( سيد يوسف ) وزير التربية والتعليم يومذاك في مصر وعديل الرئيس عبدالناصر رحمه الله وكان لهذه العلاقة الخاصة اثرها غير المعروف لدى الرأي العام في البلدين في تخفيف وتبريد الاجواء بين القاهرة وبغداد في ذلك الوقت من اواخر الستينات وبداية السبعينات من القرن المنصرم ..... كما كان يحظى من لدن الرئيس عبدالناصر بأهتمام خاص عند زياراته للقاهرة .. ففي احدى المرات قطع الرئيس جمال عبداناصر زيارة كان يقوم بها للاسكندرية لتمكين الدكتور الجواري من اللقاء به ...
كما استطاع فقيدنا الغالي من توثيق صلته الشخصية بالملك فيصل بن عبدالعزيز آل سعود رحمهما الله ... وقد بلغ الدكتور الجواري ذلك بحكمته وبعد نظره وقناعاته الخاصة .. ورغم ما كان للراحل الملك فيصل من مواقف متشددة ازاء القضايا التي يختلف العراق والسعودية بشأنها الا ان الجواري تمكن من كسب مشاعر( الداهية فيصل ) بحيث غدا واحدا ممن يحظى من لدن الملك فيصل بالتقدير والاحترام في كل مناسبة يزور فيها السعودية حيث يصطحبه الملك في جولة بالشوارع ولا يتقدمه باعتباره ضيفا له مكانته المميزة .... ولما علم الملك فيصل رحمه الله بأن الدكتور الجواري يهوى جمع المسابح اهداءه مسبحة ظل يحتفظ بها ويفاخر بها كونها من أبن عبدالعزيز آل سعود وطاف بها حول قبر الحبيب المصطفى عليه أفضل السلام وأتمه ..
وجميع ساسة اليمن يتذكرون الدكتور الجواري وما بذله من أجل رأب الصدع بين الاشقاء في اليمنين الشمالي والجنوبي..
وكان لرئاسته اتحاد المعلمين العرب التي امتدت من 1969الى1982دورها في ان يقدم ما يستطيع لخدمة المباديء التي آمن بها ...
وفي عام 1978 وكنت يومها اعمل بسفارتنا في بلجيكا وردتنا برقية رمزية من وزارة الخارجيه تفيد بترشيح العراق الدكتور الجواري لمنصب ( أمين عم جامعة الدول العربيه ) .. وقد علمت منه رحمه الله انه لم يكن راضيا عن هذا التصرف الذي جرى دون علمه كون ذلك لاينسجم وقناعاته التي ترفض الصراعات الناجمه عن الطموحات الشخصية للحكام والتي تؤدي الى تمزيق الصف العربي..
وهكذا غادر هذه الدنيا رجل آمن بالله واليوم الاخر وقدم كل مايستطيع لخدمة وطنه وأمته بقناعات تؤكد على التلازم مابين الاسلام والعروبة تنطوي على ماتحمله الرسالة المحمدية من ابعاد انسانيه أحتوت على قيم حفظت للانسان مكانته رغم اختلاف الجنس واللون ...
وأذ أسسطر هذه الكلمات مذكرا بأخي وشقيقي ومتذكرا له أخا ووالدا نفعنا بعلمه وتأدبه وخلقه وسيرته التي مازالت لنا نورا يضيء دروب حياتنا ... أستمطر شآبيب رحمة العلي القدير جلت قدرته على جدثه الطاهر وروحه السامية سمو الرسالة التي آمن بها ونصرها مقتديا بأمام المتقين صلوات الله عليه .
عبدالوهاب عبدالستار الجواري
في العشرين من كانون الثاني 2013
583 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع