د. محمد عياش الكبيسي
ليس في المريخ إلحاد، غير أن للعنوان قصة تحكي تاريخاً من الصراع بين الإيمان والإلحاد، والذي بدأت بوادر عودته اليوم بأشكال مختلفة.
قبل بضعة عقود كان الفكر الإلحادي يكتسح المنطقة بحماس غير مسبوق ولا معهود، وكان الحزب الشيوعي ذو التكوين الشمولي والعالمي يحقق مكاسبه في أكثر من دولة عربية وإسلامية.
كان الشباب الشيوعي يملأ الساحات والمقاهي والمنتديات العامة بالمجادلات والنقاشات التي لا تهدأ أبداً، وكانوا أكثر نهماً للقراءة والتثقّف من باقي الأحزاب، وأذكر بهذا الصدد ذلك الشاب الذي كان يحمل شهادة الماجستير في الاقتصاد الشيوعي من إحدى الجامعات الروسية كيف كان يأتينا إلى كليّة الشريعة في جامعة بغداد ليفتح مواضيع متنوعة للنقاش، ثم يصر بعض الأيام على توصيلنا بسيارته «الفولفو» إلى مدينة الفلوجة ليكسب مزيداً من الحوار ثم يرجع لبيته في بغداد، بمسافة 120 كم تقريباً، كانت لحيته كثة وطويلة تشبه لحية ماركس، وكان يصر هو وأهل بيته على تحمل الملاحقات الأمنية في أيام خلافهم الحاد مع حزب البعث، التي تصل إلى الاعتقال والتعذيب الشديد، بحسب روايات متعددة منه ومن بعض أقربائه.
أذكر مرّة وهو يحدّثنا عن ضرورة «تفتيت الثروة» تناولت معه أنصبة الزكاة ومقاديرها في الشريعة الإسلامية، وكيف أن الإسلام مثلا جعل نصاب النقد عشرين مثقالا من الذهب، بينما جعل نصاب البقر ثلاثين بقرة، وأن معدل زكاة الغنم إذا كثرت %1 بينما زكاة النقود 5/2% مهما كثرت، توقف كثيراً ثم قال: هذه حسبة معقدة تساهم في التنمية والحد من ادخار النقد، لكن كيف لي أن أصدّق أن محمداً -صلى الله عليه وسلم- هو الذي علمكم هذه الحسبة؟!
لقد كانت تلك النقاشات حافزاً كبيراً للتزوّد العلمي والفكري المستمر، وأنا هنا أعترف بفضل صديقي «قحطان» في إذكاء هذه الروح، رغم بون الخلاف بيننا في كل شيء.
في مشهد آخر يعبّر عن عمق التحدّي وطبيعته يقف أستاذنا أبو القيم الكبيسي في حوار مع عتاة الشيوعية، وهو أحد أبرز مشايخ السلفية (الوهّابية) ومع هذا كان أول من درّسنا المنطق! وكان يستخدمه ببراعة في حواراته كلها، ليقول لهم أمام الملأ: بمناسبة غزو السوفيت للفضاء، ما قولكم لو أن المركبة السوفيتية حطت على المريخ، فاجتمع أهل المريخ عليها، فقال الشيوعيون منهم: هذه المركبة لم نشاهد صانعها ومن أطلقها إلى كوكبنا، فإذن ليس هناك إلا الصدفة! بينما قال المسلمون منهم: نعم إننا لم نشاهد صانعها لكن العقل يجزم بوجوده، إذ لكل مصنوع صانع؟
أذكر أيضاً المناقشات العلمية الواسعة التي كان يجريها معهم شيخنا الوافد إلينا من مصر الشيخ محمود غريب -رحمه الله- الذي كان يسمّي نفسه «عاشق بغداد» الذي كان يردد: إني أجد متعة في النقاش مع شباب العراق لا أجدها مع غيرهم.
أتذكر ذلك التاريخ وأنا أرى موجة جديدة من الإلحاد، في العراق خاصة وفي المنطقة بشكل عام، إلحاد لا يستند إلى فلسفة، ولا إلى فكر، إلحاد ساذج وأبله، يهتم بالأشخاص والأحداث أكثر من اهتمامه بالأفكار، وعسى أن تكون لنا وقفة مع هذا الإلحاد الجديد!
1131 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع