د.علياء الكندي-بريطانيا
ما زلتُ غير متأكده ان كنت احب موسم العيد ام لا...
فمنذ طفولتي وانا اعيش هذه المشاعر المتداخله .. مشاعر الحب واللاحب والخوف والفرح ..
كأي طفل ، كنت احب زينة العيد .. وشجرة الميلاد حين تزينها امي.. وأغاني الميلاد.. وصوت الاجراس القادم من الكنيسه التي في بداية شارعنا.. لم يكن هناك الكثير من العوائل المسيحيه في مدينتنا ، لكن الحال يتغير في موسم العيد .. فما أن تدق الاجراس معلنةً موسم العيد .. تضج الكنيسه بزحامٍ عجيب ، وكأن الناس تكاثروا.. وكأن تمثال سيدتنا (مريم) الواقفه في وسط واجهة المبنى أسفل الصليب، بثوبها الأزرق، حاملةً طفلها الصغير .. قد نادى وجمع الناس من كل صوبٍ وثُقب.
كنتُ أرتدي ثوباً جميلاً يليق بيوم العيد.... وأذهب إلى حيث يتجمع أطفال الحي .. ليقودنا أكبرنا إلى الكنيسة ، نقفُ على مدخل القاعه الكبيره، ذات السقف العالي ،نتأمل ونتسائل من أين أتوا كل هؤلاء الناس .. هل حقاً جميعهم من سكنة (بابل) .. أم أن أرض سومر قد نادت على تاريخها ليحتفل بالعيد معها .. فَحَضَر.
التقي هناك باصدقائي.. نيفين ومتّي ورامي.. يذهبون مع أهلهم للصلاة ونقف انا و عمر ورقيه نراقبهم . وما أن ينتهوا.. نذهب معهم لنضيء الشموع ونتمنى جميعاً نفس الأمنيه .. أن تشفى (ست فليحه) معلمة الرياضة من مرض السرطان وتعود إلينا..
لكن ، مع كل هذا الفرح.. كانت هناك غصّة لا زالت حتى اللحظه تمرّ في قلبي كزوبعة حُزن كلّما تذكرتها.. موسيقى العيد وأجواءه تذكّرُني دائماً بقصة (بائعة الكبريت) عادةً ما تُعاد الحلقه في إحدى ظهيرات الجمعه قبل أو بعد عيد الميلاد.
تلك الطفله التي لا أهل لها ... تبيع الكبريت لتعيش.. تسير في الشوارع المغطاة بالثلج .. يمزّقُ المطر حذائها.. تتوسل بالمارّه أن يشتروا منها في ليلة العيد . لكن الكل يركض مستعجلاً هرباً من البرد ولهفةً لقضاء مساء العيد مع عائلته.
لا زلتُ حتى اللحظة، اتذكر بالضبط كيف كان يبدو وجهها وهي تنظر عبر النوافذ.. للمدافئ وزينة العيد والطعام على الموائد وتبكي، وابكي معها.
تضيء أعواد كبريتها واحده تلو أخرى كي تشعر بالدفء.. لكن الكبريت ينفذ منها.. والليل ينتهي.. والعيد ينتهي.. وتبقى هي على قارعة الطريق .. وحين تشرق الشمس على وجهها الشاحب، يبدو أكثر شحوباً .. وجهٌ ميت.. متجمد...
وكمحاوله من مخرج الحلقه لتقليل الوطء على الأطفال الذين يشاهدونها.. يقوم ببعض الدراما التصويريه ،فتظهر روح بائعة الكبريت تلك وهي تخرج مبتسمه وتطير في السماء وتلتقي بامها وابيها.. وهناك تجد مدفئه وبيت وطعام لذيذ بانتظارها.
لطالما تسائلت.. في طفولتي.. عن اسم بائعة الكبريت.. وكيف مات أهلها.. ولماذا انتهت وحيده .. أين جدها.. وجدّتها.. أين أقاربها.. أين جيرانها؟؟! ألم يكن لها اصدقاء في المدرسه؟؟
ففي عقليتي تلك .. وايامي تلك .. كان من الصعب جداً أن اتخيل ان الانسان ممكن أن يموت وحيدآ.. فقد كنت أرى نفسي محاطه بالأهل من كل مكان !!
ولاني كنت صاحبة خيالٍ واسع .. كنت كلما شاهدتُ حلقة من حلقات (حكايات عالميه ) يوم الجمعه .. اتخيل نفسي مكان بطلة القصه .. تخيلت نفسي ومثلتُ دور جميعهن.. إلا بائعة الكبريت... لأني كنت متأكده ا ن في حال مكروهٍ حصل لعائلتي (لا سامح الله) فإني لن أُترَك وحيده على قارعة الطريق .. قد يأخذني عمي (حسين) أو خالي (فاروق) أو جارتنا(أم آزاد) أو ربما اذهب عند بيت (يعقوب الصبّي) فلديهم مطعم كبير فيه مدينة العاب ،وبناته صديقاتي في المدرسه!
أو قد أذهب الى الكنيسه وانام قرب سيدتي(مريم) حيث الشموع والدفء والسلام . المكان الوحيد الذي لم أكُن لأذهب إليه ابداً حتى وإن متُّ برداً هو بيت المدير، فقد كنتُ اخافهُ كثيراً .. كان طويلاً ضخماً وله شاربٌ كثيف ونظره غامضة.. كان يقفُ في باب المدرسه يراقب التلاميذ وأهلهم في الصباح ويسجّل ملاحظاته في دفتره الذي ما فارقهُ يوماً وقلمهُ الذي لطالما تفاخر انهُ هديه من (الريّس) وعليه نسر السلام الجمهوري .. وزاد خوفي منهُ كثيراً حين سمِعتُ خاله (أم عيسى) الفراشة تقول لست (حوراء) المطبقة الجديده.."ديري بالج منه ..ترا هذا بالمخابرات!!" . لم أفهم وقتها ما عنتهُ كلمة (مخابرات) لكن تعابير وجه(أم عيسى) حين قالتها ، جحوظ عينيها وارتجاف شفتيها وانخفاض صوتها وهي تهمس بالكلمة، أوضحت لي انها شيءٌ مُخيف..مخيفٌ جدآ.
فكيف يا الهي ؟؟
كيف لم يكُن لبائعة الكبريت مكاناً تذهبُ اليه؟
ام ان كل من عرَفتهُم كانوا يشبهون مدير المدرسه ، ففضّلت مثلي ان تموت برداً على ان تذهب اليه؟!!
تلك الذكريات .. بفرحها وحزنها مرت على خاطري اليوم وانا اتأمل في غربتي أجواء أعياد الميلاد.
هذا العام وكما كل عام .. في مثل هذا الوقت.. أتذكر كل تلك الوجوه والأماكن.. اترحم على من مات ،وافكّر بمن هاجر.. واتسائل أين اختفى من اختفى منهم .. كهذا انا ..اكرر نفس الطقوس كل عام.
شيءٌ واحد اختلف هذه المره، لقد عرفتُ يا ساده .. من هي بائعة الكبريت... عرفتُ من تكون .. وأين بيتها.. وماذا حل بأهلها..
عرفتُ لماذا عمها حسين وخالها فاروق لم يعودوا موجودين.. عرفت أين رحل أصدقائها.. وعرفتُ أن الكنيسة الدافئه التي كانت ستلجأ إليها قد أُحرقَت.. (وان كل ما تبقى منها هو ركامٌ و حائطٌ مهدوم كُتِب عليها حرف ن)
عرفتُ ان بائعة الكبريت هي نفسها تلك الطفله الصغيره التي ماتت برداً في العراء على أطراف الموصل. رايتُ روحها تصعد إلى السماء لتلقى الدفء والأمان مع أصدقائها القدامى، بلا مؤثراتٍ تصويريه.
المفارقة اني ايضاً لم اعرف اسمها ..
فكل الاخبار والصفحات الالكترونيه قد تناقلت خبر طفلة الموصل المتجمده.. كما تناقلت القصص والأفلام الكرتونية قصة بائعة ًً الكبريت..لكن ، أحداً لم يذكر اسمها.
وكأنهما سرُّ من اسرار الكون .. او ملائكة عيد يمرّون من خلف اضواءه دون ان يراهم احد ..
وكأنهما تلك النسمه المجهولة المصدر التي تحرّك نار المدفئه .. تخطفان قليلاً من الدفء دون ان نشعر .. وكأن اللغات والحروف قد عجزت.. أن تجد اسماً لهما .. تماماً كما تعجز ذاكرتي، ورغم محاولاتي اليائسة كل شتاء،أن تنسى ذكريات العيد في أرض الوطن.
علياء الكندي
377 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع