عشاق وفونوغراف وازمنة رواية مائة عام من احتلال العراق

 

تقديم - إيمان البستاني

     

   عشاق وفونوغراف وازمنة رواية مائة عام من احتلال العراق

               

للكاتبة الروائية العراقية المبدعة ( لطفية الدليمي) ، التي أنجزت في مسيرتها الطويلة ما يزيد على الخمسين كتاباً، في حقول الرواية والقصة القصيرة والترجمة والدراما المسرحية والإذاعية والدراسات الفكرية , رواية جديدة عنوانها  ( عشاق وفونوغراف وازمنة ) , الصادرة عن (دار المدى) الطبعة الأولى في ( ٢٠١٦ ) في ( ٥٨٢ )  صفحة , والرواية  ببساطة هي رحلة مجانية للغوص في تاريخ العراق إن كنت من عشاقه ومتتبع وقارئ نهم لسلسلة ( لمحات اجتماعية )  للباحث الاجتماعي العراقي الدكتور علي الوردي , ومذكرات الدبلوماسي أمين المميز , وتاريخ الوزارات للمؤرخ عبدالرزاق الحسني , وسير ذاتية لشخصيات بريطانية حاكمة , كلها انصهرت في بوتقة الرواية  لتصنع منها الكاتبة المبدعة رواية جيلية تروي حقبة اربعة اجيال في ارض السواد يصلح لها عنوان (مائة عام من احتلال العراق) , زمكانية المشهد هو العراق منذ اواخر همينة الدولة العثمانية واحتلال الانكليز للبلد وانتهاءاَ باحتلاله امريكياَ .... مائة عام من تاريخ درسناه على مضض كمنهج  دراسي , و قرأناه بشغف كفضول معرفي , وعشنا حقبة منه كمواطنة صعبة
الرواية تبدأ من ( كافيه دانتون ) الباريسي بسرد مترع بالتفاصيل ناتج من معايشة الكاتبة للمدن ونمط ساكنيها , دروبها , محطاتها , مقاهيها ,أمزجة روادها , ترويه لك الشخصية المحورية ( نهى جابر الكتبخاني ) الأوزة العراقية المهاجرة , والتي تقوم بتدريس اللغة العربية في مدينة ( غرينوبل ) الفرنسية بعد ان نفذت اليها بريشها من محاولة اختطاف فاشلة في الوطن تبعها أغتيال اخاها الاكبر زمن الدولة (الديمقراطية ) بعد ٢٠٠٣ ,  وهناك حيث المنفى الباريسي,  لم تسلم نهى على ريشها المتبقي من روتينية وعنصرية اجرءات الاندماج ونجاتها من ابتزازات زواج فاشل لم يستمر سوى شهر
تضطرها مناشدات اخيها الاصغر للعودة الى بغداد لتردي حالة والدها الصحية , الذي ينتظرها على مفاجأة كبرى من إرث للعائلة مخبأ في صندوقين احدهما يحوي اوراق لمذكرات جد والدها ( صبحي إسماعيل الكتبخاني ) وصندوق ثاني يحوي ( فونوغراف ) وأقراص مسجلة عليها اعترافات ومذكرات عددٍ من أفراد عائلة الكتبخاني ، والغاية منها هو دراسة محتويات الصندوقين وفك رموز المذكرات وسماع تسجيلاتها ليتم تحويلها إلى كتاب يحكي عن حياة عائلة الكتبخاني التي عاصرت كل هذه الأزمنة
يغلب على هذه العائلة أسرة ( إسماعيل الكتبخاني) كما هم ابناء عمومتهم عائلة ( نجدت الخيامي ) بأنهم سادة جحيم , اي انهم ارتضوا العيش بظل الحاكم والغرق في عتمة الأصولية والتلون بما يضمن استمرارهم بتبدل الحاكم , من والي عثماني الى جنرال بريطاني ثم ملكية تليها جمهوريات وانتهاءاً بالبرلمان العراقي زمن الدولة (الديمقراطية ), ارث باهظ من دناءات وجشع مال وشهوة سلطة وأبناء زنا وجواري ومحظيات ومعه ايضاً ملكية اراضي ودوانم زراعية وقصور و مجوهرات وعبيد واسطبلات خيول والتهام حقوق الأخرين واستحواذ اخطبوطي على مفاصل الدولة , وبهذا كانت الرواية بأمتياز
 ((حريم سلطان بغدادي
اما نسائهم فيغلب عليهن الخنوع كنساء بيت مقموعات يعانين حالة من فراغ وجداني واستحالة الحب , كسيرات القلب بالحزن, مثل آلفت التي احرقت نفسها , ومديحة التي تزوجت نهر دجلة العريس الأبدي, او هناء ( خالة نهى )  حين يواجهها الاهل بعنوستها وتسألها شقيقتها ميادة ( أم نهى ) : أما أحسستِ يوماً بحاجة لرجل ......؟
....!!! ترد هناء بقوة وبدون ندم : أحسست وما وجدت
والرواية تطرح ايضاً اسئلة نقاشية مثل ( هل الحلم بالحب أجمل من الحب نفسه ؟ ) ....( أيتقبل الحب الشراكة بأشياء الحياة الصغيرة ؟ هل سيحب الرجل حباً كاملاً ؟ أم سيحب اشياء اخرى معها ؟ ) ....منعطفات وجدانية تجدها امامك وتحاول الاجابة عنها بأنانية تقمص الدور للغور في مكنونات النفس بعد ان مرت مثلها في الحياة عشرات التساؤلات دون الوقوف على جواب مناسب
والعشق عند الكاتبة لطفية الدليمي في روايتها هذه متواطئ مع ( قواعد العشق الأربعون )  للكاتبة التركية ( إليف شفق ) عن الحب وجوهره وماهية العشق، وتغييراته الشاملة للذات البشرية , حتى وأن تّطلب هذا العشق الهرب من واقع رتيب مستكين كشرنقة دودة الحرير , الى  فراشة تحلق بفرح لا ترضى بأي زهرة او غصن بل تطمع بالفضاء المطلق كسماء وارضية , وابطال العشق في الرواية اختاروا الفراشة ونزعوا عنهم خيوط شرنقتهم مثل صبحي الكتبخاني وابنه فؤاد و نهى جابر واخيها وليد
(العراق بيت الاحزان من آور حتى الباب الشرقي ....)
للرواية اثنتاعشر فصلاً , لكل فصل مفتتح قول او قصيدة او حكمة لحكماء او مقولة لروائيون كبار او موعظة لمتصوفة زهاد, تكون مزاج مستقبلي لما سيتم روايته وبهذا الجهد الطيب فيه تهيأة تنبؤية للقارئ لتصاريف الاحداث , وبحسن و ذوق اختيارات تعكس الثراء الثقافي الذي تتمتع به كاتبتنا المبدعة ( لطفية الدليمي ) تم جمعه خلال حياة ثقافية طويلة وبصبر ودراية عميقة
مع تطويع كم كبير من المعلومات العلمية والفلسفية والفنية كأسماء روائيين ومؤلفاتهم ونظريات ومخترعيها وامكنة و تواريخها واحداث وتفاصيلها كلها وظفت للمتطلبات الروائية

               
 
اكثر ما استوقفني نص في بدايات كل فصل وكأنني به وجدت من يتكلم لغتي  , هو ما تفضلت به السيدة الدليمي في فصل الحب والجحيم صفحة ( ٤٥٩ ) قول قسطنطيين كفافيس أعظم شعراء اليونان المعاصرين قوله :
وإن لم تستطع تشكيل حياتك كما تريد
فحاول – على الأقل – بقدر ما تستطيع
ألا تبتذلها
بالاحتكاك الزائد بالعالم
بالحركة والكلام الزائد
حاول ألا تبتذلها بجرجرتها هنا وهناك
بالطواف بها وتعريضها – كثيراً – للسخف اليومي
وللرواية طقس من شجن حنين حين تبدأ الشخصية المحوية ( نهى ) بأستذكار حياة بغدادية ذهبية معطرة بشذا التفاصيل حتى تسري عدواه الى القارئ لتبدأ ذاكرته الكبريتية بالأشتعال , منْ منا لا يشتاق لحديقة داره البغدادية ؟ نخلتها الشامخة ؟ عطر الرازقي وقت العصرية ؟ رائحة الهيل تتسرب من الشاي وتستقر في النفوس ؟ مقاعد الحديقة بشرائطها البلاستكية ؟ الفرح المصاحب للضيوف ؟ الكتب الغافية في مكتبة البيت ؟..... شلال تفاصيل تغمرنا به الكاتبة ( لطفية الدليمي ) واغلب الظن ان اكثر من اكتوى بهذه الحمى النوستالجية هي الكاتبة نفسها .....لا تلمس كل هذا الجرح الا من روح عانت هي منه اولاَ ......وبكم من الصدق يكسر خط دفاع النفس الاولى ويستوطن هذا الحنين قارئ الرواية
مع كل اليقين نجحت الكاتبة المبدعة ( لطفية الدليمي ) بأثارة فضول القارئ واستدراجه للحكم على احداث ونتائج خطيرة عصفت بالبلاد , يبقى الهدف النبيل من الرواية هو هذا الكم من التساؤلات المشروعة مثل هل ماآل اليه العراق الان هو نتيجة تمدنه قشرياً وعدم ارتباطه بوعي الحياة وحقوق البشر في حياة انسانية ؟....وقفة مع النفس في تعريف الاشياء بمسمياتها الحقيقية  , كالحوار بين صبحي الكتبخاني وابنه فؤاد , حين يسأل الابن ابيه : هل العراق مجتمع عسكري ام صناعي ؟
فيجيب الاب : نحن نعيش كبيوتات وعوائل متفرقة و عشائر وجماعات متعصبة
وتساؤل اخر كيف تنجو بسفينة المجتمع الى بر آمان بعد ان نخرها اهلها قبل الغزاة ؟ فيأتي الجواب بالتعليم تبني مجتمع صحي
وكثيرة هي الوقفات التي تتطلب استجلاء الحقيقة بشجاعة فارس وصدق نبي
نعود لأحداث الرواية ....حين تعتكف ( نهى ) على فك رموز مذكرات جد والدها ( صبحي اسماعيل الكتبخاني ) ومعرفة سر اختفاء زوجته ( بنفشة خاتون ) تلك الجارية السمرقندية المملوكة يوماً لوالده ( اسماعيل بك الكتبخاني ) والتي انجبت له ابناً تم ابعاده عنها لتأخذها اقدار الحياة بالزواج من ابن زوجها ......محرمات يقشعر لها البدن ..واكتشاف قصة ( حمدي ) الابن المنحدر من اقتحام نشأت الابن البكر لأسماعيل بك لمخدع الخادمة الزنجية ( نمنم ) وانكاره لأبوة الطفل .. صبحي ذاك الابن المتفتح عقله للتغيير والليبرالي والذي استطاع ان يصل للاستانة ليكسب شهادة وعلم ....اقتنصه الحب واختار الزواج بمن عشقها قلبه لينجب ابنه ( فؤاد ) المتطلع للتغيير كوالده ومن ثم ابنه ( جابر ) واولاده ( فؤاد ونهى و وليد ) جميعهم لهم خط حياة مختلف عما امتازت به عائلة الكتبخاني من نفعية..احداث على مدى اربع اجيال يزامنها ما يحدث في البلاد من احتلال وحروب وقلب موازين القوى ....ويطل علينا حضور شخصيات عرفناها فقط بين اوراق الكتب ;  ( آسرى الانكليز)  من حصار الكوت وهم يجوبون شارع جادة ستي خليل باشا وقد جف الطين على اقدامهم وملابسهم , يرشقوهم الأهالي  بالحجارة والنفايات مطأطأي الرؤوس , وهذا( ستانلي مود )  القائد العسكري البريطاني الذي قضى حتفه بسبب ميكروب الكوليرا المستوطن في قدح الشاي بالحليب الذي تناوله في مدرسة الأليانس اليهودية ... و( مس غيرترود بيل , الخاتون ) بفستانها الموسلين الرقيق وسلطتها الفولاذية ,
(انستانس الكرملي) وهو جالس بلحيته القطنية البيضاء يراجع لغوياً نصاً في جريدة العرب, (جميل بشير بعوده الشهير و (غانم حداد) بكمانه الأزلي, طابور من شخصيات تاريخية تمر عليها الرواية في توظيف ادوار بحبكة سردية فريدة تضفي على تاريخهم مواقف وادوار ستسكن في الذاكرة طويلاَ
كما للسينما تقنية الأبعاد الثلاثية التي نجحت في نقل المتفرج لاجواء المشهد , فأن رواية ( عشاق وفونوغراف وازمنة ) لها من تقنية سرد ولغة كفيلة بنقلك من مكانك الى قصر النجيبية على دجلة او شارع ( الاكمك خانة ) وفيه المخبز العسكري للجنود العثمانيين , ستجد نفسك في قافلة تذهب بك الى حلب تتقاسم محمل على ظهر دابة مع تاجر يهودي ,او ان تجالس ( ام صبحي ) في الحرملك وتنصت لحزنها الشفيف او تتبع خشخشة خلخال ( بنفشة خاتون)  وهي تتطاوس بجلباب حريري , او تطالع المتغطرس ( نشأت ) الابن البكر لأسماعيل بك الكتبخاني وهو يمتطي فرسه وفي يده السوط  وقد ابتلع المناصب , او تشهد الابناء غير الشرعيين ( بهجت ) و ( حمدي ) وهو بطرابيشهم يُقبلون يد  اسماعيل بك وهو منشغل بعلبة السعوط المذهبة , سيصنع لك ( شاهين) خادم القصر شاياً ملوكياً و ستخبز لك زوجته ( ام حميد ) اقراصاً من خبز التنور , ستشهد على زواج ( فؤاد ) جد ( نهى ) وهو ببدلته الافرنجية في لندن وهو يعقد قرانه على زميلته ( جايا مهيتاب ) مرتدية ساريها الهندي, ستأخذك ( هناء ) خالة نهى بسيارتها وضجيجها الى سوق هرج , ستنصت الى حديث ( نهى ) و أبيها في غرفة المكتب يتوسطهم فونوغراف عتيق بلا ذراع تشغيل وبوق , سترافق ( ميادة ) والدة نهى الى المطبخ لتصنع كعكة بالجوز والزبيب , ستشهد غروباً رمادياً ملوثاَ بدخان التفجيرات لبغداد , ستطالعك رايات من أقماشة ملونة فوق السطوح كرايات القبائل بدل المتسلقات المزهرة والجهنميات , سيغطيك التراب اذا ما مرت بقربك مصّفحات مافيا وسياسيو الصدفة .
وعندما تتلى عليك نوائب الدهر التي مرت تترى على العراق ستجد ان اقرب تشبيه له هو ذلك الفلاح الذي أتى الى عرضحالجي ليكتب له عريضة مظالم ضد جور السركال , فأخذ الفلاح يتلو على العرضحالجي مظالمه ليسجلها له على الورق , وما ان انتهى , حتى اخذ العرضحالجي يقرأ العريضة على الفلاح للموافقة عليها , وما ان سمعها الفلاح حتى بدأ بالبكاء والنحيب ولطم الخدود وشق الثياب , فأستغرب  العرضحالجي منه وسأله لماذا تبكي ؟ فأجابه الفلاح : هاي اني طلعت هلكد مظلوم وما ادري

في آمان الله

  


  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

338 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع