خالد القشطيني
كثيرًا ما نستعمل في العراق كلمة «قحف» شتيمةً في حق أي شخص لا يعجبنا، ونشدد عليها فنقول: «قحف ابن قحف». والقحوف هي كسرات الإناء أو الإبريق عند كسره.
وكانت القحوف تعبر عن أصوات الجمهور عند التصويت بالنفي في النظام الديمقراطي الإغريقي . ولا أدري إن كان أهل العراق قد أخذوها منهم. كان أي مواطن لا يعجبه سلوك أو تصرفات أي حاكم أو موظف، يتخلص منه بكتابة اسمه على قحف، وإيداع ذلك القحف مكانًا معينًا بعد التوقيع عليه حفرًا. وعندما يتجمع ستة آلاف قحف تحمل ذلك الاسم، فإن ذلك يقتضي نفي ذلك الشخص من المدينة لمدة خمس سنوات. وقد أطلقوا كلمة «أوستراسسم»، OSTRACISM، اشتقاقًا من كلمة «قحف»، «OSTRAKA»، على هذه العقوبة، وشاع الاصطلاح إلى يومنا هذا في الدول الغربية،ويعني الطرد وعدم التعامل مع أي شخص.
ودخل الموضوع في لب الصراع مع إيران في عهد «أرستيدس العادل»؛ لقبوه «العادل»لأنه استطاع توزيع الضرائب بصورة عادلة على الولايات المختلفة في اليونان. وعندما شبت الحرب المصيرية ضد إيران أمر بالاستعداد لمعركة برية تحسم الموضوع على الطريقة التقليدية التي ضمنت النصر للإغريق دائمًا، غير أن سياسيًا آخر؛ ثيموستوكليس، رأى أن الحرب ستحسم في معركة بحرية يتم فيها تدمير الأسطول الإيراني. واشتد النزاع بينهما. وتحير الرأي العام وانقسم في أثينا. ولكنهم في النهاية لجأوا لحسم النزاع إلى أسلوب الديمقراطية اليونانية التقليدية؛ فقرروا حسم هذا النزاع بينهما بطريقة الاقتراع بالقحوف؛ أن يكتب كل مواطن اسم الزعيم الذي يكرهه وينبغي استبعاده. لو وقع هذا النزاع عندنا لحسموه بالقتل والإرهاب. ولكن الموضوع جرى في أيام الديمقراطية الإغريقية، قبل ما يقرب من ثلاثة آلاف سنة.
أعطى الكاتب الإيطالي الساخر بلوتارخ هذا النزاع بعدًا ظريفًا، فقال إن النتيجة كانت متعادلة، غير أن مواطنًا واحدًا لم يشترك في الاقتراع بسبب أميّته، فأخذ قحفًا وقدمه لأرستيدس العادل، وطلب منه أن يكتب عليه اسم الذي يرغب في طرده على طريقة «أوستراسسم».
كان بإمكان أرستيدس أن يغش ويكتب اسم خصمه ثيموستوكليس. ولكنه كان رجلاً عادلاً وصادقًا،
فسأل الشخص: أي اسم تريدني أن أكتبه على القحف؟ فأجابه الرجل وقال له:ضع اسم «أرستيدس» ، لطالما أزعجني اسم هذا الرجل، أجده في كل مكان. فكتب ذلك ورمى الرجل بالقحف إلى الكومة المخصصة لاسم أرستيدس فرجح اسمه في عملية الطرد. أمروا بطرده من المدينة وتسليم قيادة الحرب لثيموستوكليس؛ قادها ببراعة وانتصر الإغريق على الإيرانيين بتدمير أسطولهم في البحر.
بيد أن ذلك النصر البحري أثبت صلاح الديمقراطية وكفاءتها في الحكم. وأكثر من ذلك، أظهر أن صوت المواطن البسيط الأميّ له دوره فيها، وأنه كثيرًا ما يحسم الأمور لما هو في صالح الجمهور ومستقبل البلاد، وهو ما جرى في الغرب مرارًا وتكرارًا.
615 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع