د. منار الشوربجي
رغم أن التوتر الحالي في العلاقة بين الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب وأجهزة الاستخبارات الأميركية جديد من نوعه من حيث الشكل فقط لا المضمون، إلا أنه يفتح العلاقة بين الطرفين على كل الاحتمالات على الأقل في الشهور الأولى من عمر الإدارة الجديدة.
ليس صحيحاً ما يقوله الإعلام الأميركي من أن التوتر الجاري بين ترامب وأجهزة الاستخبارات يمثل سابقة تاريخية جديدة. فما جرى في عهد بوش الابن استعداداً لغزو العراق واحتلاله لا يمكن إغفاله. الجديد حقاً هو التعبير العلني عن ذلك التوتر.
ليس سراً أن تيار المحافظين الجدد الذي هيمن على إدارة بوش الابن كان يدعو لغزو العراق حتى قبل أحداث سبتمبر 2001، وللكثيرين منهم مقالات بهذا المعنى منذ التسعينات، وقد نشر عدد من المصادر التي كانت قريبة من الإدارة لاحقاً أنه بمجرد وقوع أحداث سبتمبر كانت المناقشات الدائرة تتعلق بالعراق قبل غيره، ولكن تم تأجيل القضية وغزو أفغانستان أولاً.
لكن لعل أسوأ ما جرى في عهد بوش الابن عشية غزو العراق هو أن إدارته قلبت العلاقة بين المعلومات الاستخباراتية وصنع القرار على رأسها، فبدلا من أن تكون عملية صنع القرار مبنية على المعلومات الاستخباراتية، كان قرار غزو العراق قد اتخذ فعلاً وراحت الإدارة تبحث عن معلومات استخباراتية تبرره.
حين قدمت تلك الأجهزة للإدارة معلومات تنفي أو على أقل تقدير تؤكد أن لا دليل على امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل، أنشأ دوجلاس فايث، أحد أعتى المحافظين الجدد، والذي كان وقتها نائبا لوزير الدفاع، في مكتبه هيئة موازية لأجهزة الاستخبارات طالبت الأخيرة بأن ترسل لها المعلومات «الخام»، أي دون تحليلها لتتولى هي فحصها بمعرفتها.
المعلومات «الخام» هي تلك التي يتم جمعها من مصادر مختلفة وتحتاج لمتخصصين لتحليلها والتثبت من مدى صحتها عبر فحص مصداقية مصادرها ومقارنتها بمعلومات أخرى متوافرة، وعبر أساليب أخرى بالضرورة لا يعرفها سوى المتخصصين في هذا المجال.
وقد كان ما فعله مكتب فايث يحمل رسالة تشكيك واضحة في قدرات العاملين في تلك الأجهزة، وهي الرسالة التي وصلت لهؤلاء عبر سلسلة من السلوكيات المشابهة من جانب رموز أخرى مهمة في إدارة بوش الابن بمن في ذلك ديك تشيني نفسه، نائب الرئيس وقتها.
حين رفضت أجهزة الاستخبارات الأميركية المعلومات التي أتت للإدارة عبر إيطاليا وبريطانيا لتزعم أن العراق اشترى اليورانيوم من أفريقيا، أمر تشيني بإرسال من يتثبت من القصة ويقدم له شخصيا النتيجة، ولكن النتيجة أكدت أن المعلومة مزيفة، فما كان من الإدارة إلا تجاهلت الجهد برمته واستخدم بوش الابن في خطاب الاتحاد المعلومة الزائفة نفسها.
الجديد إذن في حالة ترامب ليس التشكيك في قدرات الأجهزة الاستخباراتية وانما التعبير العلني عن ذلك التشكيك بل والاستهزاء العلني بها أيضاً، فبعد الانتخابات مباشرة، أعلن ترامب أنه لن يتلقى التقرير اليومي للاستخبارات كما جرت العادة، مؤكداً أنه لا حاجة له به.
ثم حين أعلنت تلك الأجهزة الشهر الماضي أنها «على ثقة» من أن روسيا استخدمت القرصنة الإلكترونية للتأثير على الانتخابات الرئاسية الأميركية، رفض ترامب علناً ما أعلنته تلك الأجهزة بل وسخر منها، معتبراً أن وكالة المخابرات المركزية هي نفسها التي كانت قد قالت إن العراق يمتلك أسلحة الدمار الشامل، رغم أنها قالت العكس لبوش.
لقد وصلت علنية التوتر بين ترامب وأجهزة الاستخبارات في بلاده إلى حد التراشق العلني، فالرئيس المنتخب كتب على تويتر أن لقاءه معهم قد تأجل للجمعة الماضية، معرباً عن أنهم ربما أجلوا الموعد لايجاد الأدلة التي سيعرضونها عليه، وهو الأمر الذي استدعى رداً من تلك الأجهزة قالت فيه إن الموعد لم يتأجل أبدا، حيث تحدد له يوم الجمعة منذ البداية.
ولم يتورع المدير العام لأجهزة الاستخبارات جيمس كلابر أن يعبر علناً في جلسة استماع أمام الكونغرس عن استيائه من موقف ترامب، قائلاً إن هناك فارقاً كبيراً بين «التشكك الصحي في المعلومات الاستخباراتية وبين الاستهزاء» بالأجهزة التي تقدمها.
وقد سربت أجهزة الاستخبارات للصحف غضبها واستياءها تجاه ترامب وفريقه الانتقالي بعد أن نشرت صحيفة وول ستريت جورنال أن ترامب بصدد إعادة هيكلة تلك الأجهزة وبالذات وكالة المخابرات المركزية ومكتب المدير العام لأجهزة الاستخبارات، وقبل لقائه بقيادات تلك الأجهزة بساعات لتلقي تقريرها حول الموضوع كان ترامب يؤكد علناً من جديد أنه لا يثق في صدقية التقرير.
رغم محاولات التهدئة التي بدأها فريق ترامب الانتقالي، إلا أن الضرر قد أصاب العلاقة بالفعل. وسوف تكشف الأسابيع القليلة المقبلة إما عن رأب الصدع أو عن تعميق التوتر.
567 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع