بقلم احمد فخري
الحلقة الخامسة (قصة تصديق الشهادة)
بتموز 1980 كنت قد اجتزت الامتحان النهائي للهندسة الكهربائية/الالكترونية وتسلمت الشهادة من الجامعة. الشهادة التي طالما انتظرتها بفارغ الصبر وناضلت من اجلها سنين عشرة عجاف ببريطانيا عانيت فيها الامرين والتي اخذتني عبر مطبات ومشاكل وازمات من جميع الاحجام والاشكال. لم يبقى لدي سوى مهمتان نهائيتان الاولى اتمام عملية تصديق شهادة تخرجي في الملحقية الثقافية بلندن، والثانية اكمال اجراءات صفقة شراء السيارة التي يسمح بها القانون العراقي للخريجين (فولفو طبعاً) والبدئ بالتخطيط للسفر إلى الوطن الحبيب وحيداً عن طريق البر لان زوجتي كانت حامل بمولودنا الاول (ابنتي البكر) ولم تتمكن من تحمل اعباء السفر بالبر فآثرتْ السفر بالطائرة. استفسرت من احد الاصدقاء ممن سبقوني عن تلك الاجرائات فاخبرني بانها بسيطة جداً. فما عليّ سوى ان اطلب رسالة تخرج من جامعتي واصدقها بوزارة التعليم العالي البريطانية ثم اصدقها بالملحقية الثقافية العراقية فتقوم الملحقية باغلاق ملفي الدراسي واحالته إلى بغداد طبعاً حيث يرسل الى وزارة التعليم العالي. قمت بالجزء الاول من المهمة اي احضار الشهادة من الجامعة ولم يبقى لي سوى الملحقية الثقافية العراقية. حملت شهادتي بيدي وانا حريص جداً على ان لا اطويها او اضعها بجيبي لان ذلك سيشوه منظرها فهي تشكل اثمن ما ملكت في حياتي، لان كل ما يملكه الانسان من عقار أو مال أومنصب أو جاه أو اهل أو اصدقاء في الدنيا زائل لا محال الا العلم فان العلم مهما دار بالانسان بحياته من طلوع أو هبوط فليس من حق اي انسان ان يسحب منه ما حصل عليه من علم، حتى بعد موته فان لوحة القبر سيكتب عليها (هنا يرقد المهندس او الدكتور او المحامي فلان ابن فلان) وبيرق ذلك العِلم هي شهادة التخرج. وسوف لن يتمكن احد من اهانتي بعد اليوم لاني سارجع إلى وطني مرفوع الرأس (او هذا ما اعتقدت قبل دخولي لملحقيتنا الموقرة)
في الملحقية ودون الحاجة للسؤال لدى الاستعلامات وجدت طابوراً طويلا جداً من الطلاب، عرفت البعض منهم شخصياً فحييتهم فنظروا الي بابتسامة عريضة وسألوني، تصديق الشهادة؟ فاجبت بنعم قالوا إذاً (الزم سره) نظرت إلى الطابور فوجدته يبدأ من الطابق الاول حيث توجد غرفة الملحق الثقافي الجديد هابطاً للطابق الارضي منتهياً بباب الملحقية الخارجي. تقديراً كان هناك حوالي 60 أو 70 طالباً من الإناث والذكور. الغالبية العظمى منهم حملة الشهاداة العليا من ماجستير ودكتوراه وطالبة واحدة فقط كانت تحمل شهادة ما فوق الدكتوراه - post dictorate degree
لم يزعجني هذا الكم من الطلاب امامي في الطابور لانها كما قلت لنفسي هذه خاتمة الاحزان وقد تكون آخر مرة ارى فيها سفارة أو ملحقية ثقافية بحياتي (كم كنت مخطئاً) على كلٍ وقفت بآخر الطابور وانا مليء بالتفائل والبسمة التي كانت تفضح الهدوء الذي اردت ان ارسمه على وجهي عنوةً. تقدم الواقفون بشكل بطيء جداً والتحق بالطابور المزيد من الطلاب فوقفوا ورائي لكن الجميع كان يتحلى بالصمت المميت خوفاً من اثارة غضب احد الموظفين بالملحقية عله يكون من الذين (بالي بالك) فينقلب الفرح إلى حزن. استمر الطابور بالدبيب حوالي ساعتان وهو يسير بهدوء وبزحف سلحفاتي قاتل حتى لم يبقى لي سوى 7 أو 8 طلاب امامي ويصل الدور عندي، بذلك صرت قاب قوسين أو ادنى من باب غرفة السيد الملحق الثقافي الجديد، إذ كنا على مسمع ما يدور بمكتب الملحق لان الباب كان مفتوحاً واول 7 طلاب كانوا بداخل غرفته وامام مكتبه. كان السيد الملحق يتكلم بالهاتف بصوت مرتفع وهذا ملخص قصير مما كان يقوله باللهجة العراقية،
(اكيد اخي اكيد حبيبي اني مستعد، إذا ما اقدملك هالشي البسيط لعد المن اقدم. نسيت الايام الحلوة اللي قضيناها اببوخارست؟ (صمت قليل ثم قال) يمعود مستحيل انسى الاشياء اللي وگفتلي بيها.أنت مو صديقي وبس انته اخوية وعزيزي وتاج راسي (صمت قليل ثم واصل الحديث) لا يابة لا شنو تملق؟ مو تملق والله، أنت ما تعرف اشكد احبك واريد خاطرك. إذا اتملق للدنيا كلها فانت لا، لانك (صمت قليل ثم...) اكيد حبيبي أنت تاكل هالعين وتندار على العين الثانية. وبهذه الاثناء كان الطلاب الذين يقفون بصمت مطبق مميت على الطابور وعلى مسمع من هذا الحوار الهاتفي ينظرون إلى بعضهم البعض ويتبادلون الابتسامات الخفيفة الخجولة جداً ربما من شدة الخوف. كان الملحق يقول، اوكي حبيبي اوكي أنت بس دزلياه وشوف اخيك شلون راح يقوم بالواجب. يمعود آني انتظر هاي الفرصة من زمــــان حتى اكدر اقدملك ولو شي بسيط فانت امغرگني بافضالك مولانة. اوكي اوكي اوكي اوكي اتدلل اتدلل اتدلل في امان الله مع السلامة الله وياك عزيزي الله وياك حبيبي. وحالما اكمل المكالمة ووضع السماعة على الجهاز مباشرةً وبدون سابق انذار قام بالبصق على الهاتف بكلا نوعيه اي بالصوت والرذاذ وقال، انعل ابوك يا كلب يا ابن الكلب يا سافل يا منحط يا ابن ال... يا اخ ال... ياللي امك ... وعشيرتك... لك هذا موزمان اللي خلاني احترمك واقدرك وانته متسوه نعال. ثم رفع رأسه للطالب الواقف امامه وقال، "تفضل يا مهندس" فاجابه الطالب، "عفواً استاذ، انا دكتور" طيب اتفضل دكتور.
وهكذا بدد الاستاذ الملحق كل امالنا في ان يكون مستقبلنا وردياً منمقاً بالزهور لاننا سنشاهد الكثير من اشكال هذا الموظف المتملق في مستقبلنا القادم في وطننا العزيز. ان هذا الموقف بث بقلبي الرعب لاني سارمي بنفسي ببلدي الذي يعج بمثل هذه النماذج التي تشبه البشر من الخارج لكنها مخلوقات اميبية لا تمت للبشرية باي صلة.
تمت المقالة وتمت الحلقة
للراغبين بالأطلاع على الحلقة الرابعة:
http://algardenia.com/maqalat/28070-2017-01-22-21-02-08.html
801 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع