بقلم احمد فخري
قصص معاناة مغترب الحلقة السادسة (قصة دفتر الخدمة العسكرية)
وقعت احداث هذه القصة في دولة الامارات العربية المتحدة بمدينة ابوظبي.
في عام 1983 أو 1984 (لا اذكر بالتحديد) صدر قانون بالعراق مفاده ان جميع العراقيين المقيمين في دول الخليج العربي خاضعين لدفع البدل النقدي وذلك لغرض إعفائهم من الخدمة العسكرية. بالرغم من ان المبلغ كان مرتفعاً (22 الف درهم اي ما يعادل 6000 دولار) الا انه كان مبلغاً يستحق العناء. لذلك سارع كل العراقيين بدفع ذلك المبلغ املاً في الحصول على الاعفاء من الخدمة العسكرية الا انهم جميعاً اصيبوا بخيبة امل إذ بعد دفع المبلغ خُتِمتْ على دفاتر خدمتهم (يؤجل من الخدمة العسكرية) وعلى المؤجلين ان يقدموا دفاترهم للفحص مرة كل عامين في سفارات بلادهم والا فان البدل النقدي سيصبح لاغياً.
بعد مضي بضعة اعوام على دفع البدل النقدي اي في عام 1987 بلغني ان لجنة التجنيد ستحضر الى ابو ظبي في اليوم الفلاني لغرض فحص دفاتر الخدمة ولمدة يومين فقط لذلك يجب عليَّ ان اسارع بتقديم دفتري لغرض فحصه وختمه من قبل اللجنة.
قمت بطلب اجازة من عملي لاني وقتها كنت اعمل بحقل زاكوم للبترول والذي يبعد 80 كلم عن مدينة ابوظبي والسبيل الوحيد لذلك هو ان استقل طائرة مروحية للعودة الى العاصمة.
وصلت بي الطائرة الى مطار البطين بابوظبي الساعة التاسعة صباحاً وكانت حافلة الشركة بانتظاري والتي قامت بنقلي مع بعض الزملاء الى مركز مدينة ابوظبي ومن هناك استأجرت سيارة تاكسي كي تقلني الى شقتي بمنطقة النادي السياحي. حال وصولي الدار استقبلني اولادي وابدوا الفرحة بقدومي ولو لفترة قصيرة لكني اخبرتهم باني على عجل وساخرج ثانية بنفس اليوم كي اذهب للسفارة العراقية لاتمام بعض الاجراءات. بعد ان اخذت الوثائق اللازمة معي من البيت طلعت خارج العمارة فوجدت سيارتي مغطاة بالغطاء الواقي (چادر) ازلته وادرت المفتاح فدبت فيها الحياة كما لو كنت قد تركتها بالامس. قدتُ السيارة الى منطقة البطين حيث تقع السفارة العراقية.
وسفارتنا هي عبارة عن ڤيلا متوسطة الحجم صالحة لسكن عائلة متوسطة الحجم لكنها تحولت الى سفارة.
الدخول الى الاستعلامات يتم من مراب السيارات خارج الدار والذي قاموا بتغطيته بالخشب المعاكس واصبح اشبه بالكرفان. اول شيء لاحظته هناك هو تجمهر عدد كبير جداً من الرجال داخل وخارج هذا المراب. والسبب هو ان هناك ما يقرب من 10000 رجل عراقي مسجل بابوظبي بشكل رسمي والڤيلا عليها ان تستقبل كل هذا العدد المهول خلال يومين فقط واثناء الدوام الرسمي (عليك ان تتخيل حجم الاكتضاض). على كلٍ، زجيت بنفسي وسط الزحام كي احاول الوصول الى غايتي. لكن العوم بهذه الامواج البشرية لا يشبه العوم بالبحر فهو صعب جداً ويتطلب جهداً عظيماً. لكني ومع ذلك تمكنت من الوصول الى الشباك السحري الذي تجمهر حوله ما يقرب من 100 شخص او على الاقل هذا ما بدى لي.
كان الشباك موصداً وكان الجميع يتحلى باقصى درجات الهدوء والصبر لان الامر حساس للجميع. وبعد بضع دقائق فتح الشباك واطلت منه موظفة السفارة وارتفع الضجيج الصاخب والكل ينادي باسمها. كانت والشهادة لله مهذبة وكانت تجيب اسئلتهم جميعاً وتأخذ منهم الاوراق وتسلمهم الدفاتر بعد ان تصبح مختومة وجاهزة. بقيت اتحلى بالصبر حتى وصلت الى الشباك واصبحت مستعداً للوثوب عليه حالما يفتح. وبعد وقت قصير انفتح الشباك وطلت السيدة الموظفة ثانية وبدأت تسلم الدفاتر فقلت لها ارجوك يا اختي اريد ان اقدم دفتري للفحص. نظرت الي نظرة تعجب وسألتني، الموظفة : هل دفعت مبلغ الضمان الاجتماعي؟
- عن اي ضمان تتحدثين؟
الموظفة : الضمان الاجتماعي، فهو معمول كي تحصل على التقاعد بالعراق بعد عمر طويل.
- لكني اعمل هنا بالامارات سيدتي وليس بالعراق.
الموظفة : هذا لا يهم، اسمع مني، لا تستطيع اللجنة من تأشير دفتر خدمتك دون حصولك على وصل دفع الضمان الاجتماعي.
- وكم هو قدره؟
الموظفة : هو 600 درهم (170 دولار)
- تفضلي سيدتي هذه 600 درهم.
الموظفة : لا لا يجب عليك ان تملأ قسيمة الضمان اولاً.
- إذاً ارجوك اعطيني قسيمة الضمان كي املأها.
الموظفة : انها ليست معي. بامكانك اخذها من الاخ حسين في بداية الاستعلامات.
- لكن بداية الاستعلامات هي ما وراء البحار. (انظر الى الرسمة)
الموظفة : هذه هي التعليمات لدينا.
- شكراً اختي
يا الاهي يجب علي ان اعود فاعوم بالامواج البشرية ثانية كي اصل للسيد حسين. قمت بعمل بطولي آخر وصرت اتدافع وازج بنفسي بين هذا وذاك واستعمل مسطلحات مثل عفواً اخي- سامحني عزيزي - ارجوك استاذي - لو سمحت قليلاً حبيبي - اسف اخي. وبعد عناء كبير وصلت الى السيد حسين واذا به مكتب معدني يجلس ورائه شخص قصير ونحيف جداً يكاد لا يرى بالعين المجردة، تجمهر حوله عشرات الرجال والكل ينادي باسمه. حسين حسين حسين حسين. وانا كذلك اخذت مكاني مع الحشود وناديت حسين حسين حسين حسين فانتفض حسين كالاسد الغاضب ونظر الى شخص قصير القامة يرتدي بدلة سفاري ويقف مباشرة بالقرب منه وقال له،حسين:
نعلة على روحة لابوك. شذبحتني ابن القندرة. چم مرة اكلك انتظر شنو انته زمال متفتهم؟
الرجل القصير القامة: اسف جداً اخي حسين ولا تزعل. سانتظر.
تفحصت هذا الرجل كي احاول ان اعرف لماذا تقبل هذه الاهانة المشينة دون ان يرد عليها. ربما هو فراش في السفارة! او ربما هو عامل بسيط ويخاف على رزقه! فالبدلة السفاري ولشدة حرارة الجو يلبسها الجميع بالامارات من الفراش الى المدير العام وبذلك يصعب التكهن بنوع عمل الشخص الذي يلبسها. ومهما كانت وظيفة هذا الشخص فليس من العدل او الانسانية ان يهان بهذا الشكل وبهذه الالفاظ الجارحة، المهم، وقف الرجل القصير القامة الى جانب مكتب حسين ووقفتُ انا بجانبه انتظاراً للحصول على قسيمة الضمان الاجتماعي. بقي الفضول يطاردني ويمزقني، ياهل ترى من يكون هذا الرجل القصير القامة الذي اكل رزالة (غسل ولبس) من حسين!
وبعد بضع دقائق اخرج حسين بعض القسائم واعطاها للمراجعين القريبين من مكتبه. بقيت واقفاً بجانب هذا الرجل القصير القامة انتضر الفرج. وبعد بضع دقائق اخرى دخل احد المراجعين الجدد الى مكتب حسين ونظر الى الرجل القصير القامة فصافحه وسلم عليه بحرارة قائلاً،
المراجع الجديد: مرحبا دكتور شلونك حبيبي، صدك چذب هاي انت هنا بابوظبي؟
الرجل القصير القامة: اهلا (فلان) كيف حالك عزيزي؟
قلت لنفسي، يا إلهي، هذا طبيب! طبيب؟. نعم طبيب وقد اكل قاط رزالة من حسين. عاد المراجع الجديد فسأله،
المراجع الجديد: لماذا لا نراك هذه الايام؟ هل ننتظر مرة كل سنتين كي نجتمع بك هنا بالسفارة؟
الرجل القصير القامة: والله سامحني لكنك تعلم (توام) فالعمل فيها لا يرحم. والعمليات كثيرة.
قلت لنفسي، ماذا؟ قال توام؟ احقاً قال توام؟ لمن لا يعرف توام فهي من ارقى المستشفيات بمدينة العين بالامارات العربية المتحدة وهي المستشفى التي كان يتعالج بها الشيخ زايد رئيس الدولة رحمه الله. ولا يُقبَل ان يعمل بها الا من حاز على درجة مستشار في الطب. وبما ان هذا الرجل يتحدث عن عمليات فهو على الاقل حائز على شهادة اف ار سي اس بالجراحة. وهي درجة الدكتوراه بالطب. احقاً ما اسمع؟ هل يعقل ان شخص سوقي مثل حسين يهين كرامة هذا الرجل العظيم بعلمه، رجل اقسم ان ينقذ حياة البشر مضحياً بوقته وسعادته وراحته وراحة عائلته.
بعد بضع دقائق ناداني حسين وقال ماذا تريد؟ فاخبرته باني اريد قسيمة الضمان الاجتماعي. سحب الجرار واخرج القسيمة من جراره واعطاني اياها ثم قال، "هاك". شكرته وانطلقت كي اغوص بالامواج البشرية ثانية وصرت اعوم بين اشلاء المراجعين شيئاً فشيئاً حتى وصلت الى الشباك السحري ثانية وانتضرت بعض الوقت حتى طلت علينا الموظفة فقلت لها، لقد ملأت الاستمارة وهذا هو مبلغ الضمان الاجتماعي وهذا هو دفتر الخدمة. استلمت مني كل الاوراق واغلقت الشباك بعد ان قالت لي باني عندما اسمع اسمي ساستلم الدفتر مفحوصاً وكاملاً وعليه توقيع لجنة الفحص.
انتضرت ساعة او اكثر ورأيت الدكتور القصير القامة يلملم اوراقه ويتجه الى خارج السفارة بعد ان اكمل معاملته. اردت ان اناديه وان استسمحه لما وقع له من اهانة من شخص رخيص وضيع. ولكن عن ماذا اعتذر؟ وعلى من يذهب اللوم؟ هل استسمحه من اجل حسين؟ هل نهان نحن بسبب جنسيتنا العراقية والمميزة بدفتر صغير كتب عليه جواز سفر الجمهورية العراقية؟ وماذا لو كان هذا الجواز صادراً من بريطانيا او فرنسا او امريكا، فهل سنتلقى نفس الاهانة؟ هل سنسكت على جرثومة مثل حسين كي يتطاول علينا؟
بعد ان مرت فترة طويلة كانت تبدو وكأنها عام كامل سمعت اسمي ينادى عليه من قبل الموظفة فانطلقت وكأنني حزت على جائزة نوبل للعلوم.
اخذت دفتري وعدت ادراجي الى البيت فغطيت سيارتي بالچادر وتغديت مع عائلتي ثم استأجرت سيارة تاكسي الى المطار حيث اقلتني الطائرة الهلكوبتر الى موقع العمل ثانية بحقل زاكوم.
للراغبين الأطلاع على الحلقة الخامسة:
http://algardenia.com/maqalat/28225-2017-01-31-23-41-54.html
3893 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع