صالح الطائي
بعض الشعراء وسوءات شعرهم
كنت أبحث في معجم الأدباء المعروف باسم إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب لياقوت الحموي(*) عن بعض ما يمكن أن أضيفه لما كتبته مسبقا عن يونس بن حبيب النحوي البصري المشهور.
ويونس بن حبيب لمن لا يعرفه: ولد سنة ثمانين، وتوفي سنة اثنتين وثمانين ومائة للهجرة، وبالرغم من كونه فارسي الأصل، أعجمي اللسان، إلا أنه كان إمام نحاة البصرة في عصره، ومرجع الأدباء والنحويين في المشكلات، كانت حلقته مجمع فصحاء الأعراب وأهل العلم والأدب.. وكان له في العربية مذاهب وأقيسة يتفرد بها.
وكان عالما بالشعر، نافذ البصر في تمييز جيده من رديئه، عارفا بطبقات شعراء العرب، حافظا لأشعارهم، يُرجَعُ إليه في ذلك كله.
سمع يونس من العرب، ووعى ما سمع، وحفظ ما مر به. وأخذ الأدب عن أبي عمرو بن العلاء، وأخذ عنه سيبويه، والكسائي، والفراء، وأبو عبيدة معمر بن المثنى، وخلف الأحمر، وأبو زيد الأنصاري وغيرهم من الأئمة. وهناك من يرى أنه هو الذي أخذ عن سيبويه وليس العكس!
وأثناء البحث والتنقيب، عثرت على هذه الطرفة المزحة المَرِحة، التي أجادت الوصف، وأحسنت القصف. ولما قايستها، وشابهتها، وقاربتها ببعض ما أقرأه اليوم مما يسمى شعرا؛ لبعض ممن يحسبون أنفسهم على مجتمع الشعراء، ويدعون أنهم بلغاء، ثم تراهم ينصبون المرفوع، ويجرون المنصوب، ولاسيما فيما ينشرونه في مواقع التواصل الاجتماعي؛ التي لا يحكمها رقيب، ولا يحدد اتجاهها حسيب، وجدتها تترجم حالهم بأجلى صورهم، بل وتكشف لنا أن أمثالهم كانوا موجودين في مجتمعنا العربي على مر التاريخ، ومنذ القرن الهجري الثاني! وما هم سوى ورثة لمن سبقهم، نهجوا منهجهم، وساروا على خطاهم!
تقول المزحة المُفرحة:
جاء مروان بن أبي حفصة؛ وهو شاعر عالي الطبقة, كان جده مولى لعثمان بن عفان، وقيل: هو مولى لمروان بن الحكم الخليفة الأموي. وقيل: بل كان طبيبا يهوديا، أسلم على يد مروان. ويقال: إن أبا حفصة من سبي اصطخر. جاء إلى حلقة العالم الكبير يونس بن حبيب النحوي، فسلم، ثم قال: أيكم يونس؟
فأشار الجالسون في الحلقة إلى يونس.
فقال له مروان: أصلحك الله، إني أرى قوما يقولون الشعر؛ لأن يكشف أحدهم عن سوءته، ثم يمشي في الطريق، أحسن له من أن يُظهر مثل ذلك الشعر!. وقد قلت شعرا أعرضه عليك، فإن كان جيدا أظهرته، وإن كان رديئا سترته، فأنشده قوله:
طرقتكَ زائرةٌ فحيِّ خيالها
فقال يونس: يا هذا؛ أذهب، فأظهِر هذا الشعر، فأنت والله فيه أشعر من الأعشى في قوله:
رحلتْ سميةُ غدوةً أجمالها
وهذا هو ديدن الشعراء الكبار العظماء، يحترمون أنفسهم، ويحترمون من يتلقى شعرهم منهم، ويحترمون مهنتهم، ومنهم وصلتنا كل تلك القصائد الرائعات؛ من غزل ومدح ورثاء ومعلقات، تلك الخالدات التي كنا ولا زلنا وسنبقى نتغنى بها، ونستعذب سماعها في كل الأوقات.
(*) ينظر: ج6/ص2852، ترجمة: 1262
3246 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع