د.صالح الطائي
مباشرة نحو الهدف
قراءة انطباعية في ديوان "قاتل معلن" للشاعر عمار كامل داخل
يُطيل بعض الأدباء والشعراء المكوث عند الباب، يصوغ جملا، ويزوقها يمهد من خلالها للدخول، وقد يسف أحيانا إلى درجة الممل، فتضيع فحوى الموضوع، أو يتألق فتتحول الكلمات إلى نوتات موسيقية تعزف لحن الخلود.
وعلى خلاف هؤلاء هناك من تعجبهم المباشرة والغوص في عمق الموضوع بلا مقدمات ولا تمهيد بما يبدو وكأنه مجازفة بالقارئ عند حافات قد يكون بعضها حادا جارحا وبعضها الآخر معتما غير واضح الرؤية، ولكنها على كل حال تجنب القارئ غالبا مشقة الاستماع إلى مقدمات قد لا تقدم شيئا وربما تسحب ثقلها على النص نفسه، فتسرق بهاءه وتحيله إلى لوحة مكفهرة الملامح باهتة الألوان.
الصديق الأديب عمار كامل داخل من النوع الأول.. من النوع المتحفز الذي ينتظر تسخين الحديد فلا يطرقه وهو بارد، ومع ما في هذه الطريقة من مكابدة وجهد وتعب إلا أنها تحمل الشاعر مسؤوليات إضافية قد يكون في غنى عنها، فالإطالة تحتاج إلى إلمام كامل بالمعاني والمفردات وجهدا في إعادة تنظيمها في صفوف الوزن والقافية، فضلا عن كونها تشغل الكثير من وقت المتلقي بعدما تنقله إلى مرحلة الغوص في أبعاد النص الطويل؛ الذي إذا ما كان دون مستوى الطموح لا يقل ضجرا عن الدوران في الشوارع الفرعية الكثيرة التي تبعدك عن الهدف، لكنها تعطيك قيمة إضافية إذا ما كانت لعب ساحر على وتر المفردات!.
في هذا العالم المتسارع الذي بات يلهث خلف الومضات بدلا عن المطولات التي اعتاد عليها شعراؤنا الأوائل أجد من الضروري أن يلتفت شعراؤنا الشباب إلى هذا التغيير ليخرجوا من نمطية الموروث إلى عالم التجديد والحداثة، إلى عالم الاختصار والتركيز، لكن الحاجة تدفع أحيانا إلى الإسهاب إيغالا في تعميق المعنى، وهذا يعني أن الإسهاب والإطالة قد يكون نفعهما في بعض المواقف أكثر كثيرا من الاختصار، فلكل موقعه ومقامه وغايته وأهدافه.
وأنا هنا لا أحاول النيل من مطولات الشعراء فهي بالرغم من طولها مثلت لي متعة غامرة حينما قرأتها حتى في مرحلة الشباب، وبت أكثرة متعة حينما أسافر في أجوائها اليوم ربما لأني قاربت السبعين ولم أعد مستعجلا، لكن هل سينظر ابن العشرين إليها بنفس النظرة؟ هذا هو السؤال الذي أبحث عن الإجابة عنه.
إن قصر النص وطوله يصبح لعبة مسلية حينما يتعامل معه شاعر متمكن من صنعته له قدرة توسيع المعنى وتلوين الأبعاد ليتحول النص إلى روض يضم مختلف الأزهار بدل أن يقدم لك زهرة يتيمة. صحيح أن الزهرة المنفردة قد توحي لك بأكثر من معنى وفيها الكثير من الخصوصية والرمزية، ولكن الحقل الواسع يعطي للإنسان انطباعا منفتحا، فالفيلسوف الذي أطال النظر إلى الصحراء العربية ليقول بعدها: "الآن عرفت لم كان أغلب الأنبياء من هذه الأرجاء" إنما شعر بالانفتاح على معطيات غير محددة ولا مقيدة، وقد يكون شعراؤنا الأوائل قد وقعوا تحت التأثير نفسه فنظموا تلك المطولات الخالدة، ولا غرو أن يتبعهم الأبناء فالعِرق دساس.
هذا ما أوحاه لي الإهداء الذي كتبه الشاعر، وقال فيه:
صديقتي... حبيبتي... ورفيقتي
تلك الأرض التي علمتني الحياة
ومنحتني السكينة في عالم من الفوضى...
إليك ولأزهاري الثلاث
ينار... ميار... شمس...
اهدي كلماتي.
إذا هو ارتباط بالأرض.. بالقيم.. بالموروث.. بالتاريخ، وهي كلها محطات تبعث على التفاعل الذي يستفز الإحساس مما يعطي للكلمة معانٍ فلسفية
شيئاً فشيئاً نضمحلْ
تسحقنا دوامة السكون
في ليلةٍ.. يبلعنا حدادها
مع اغتراب سكة الحياة في الزمنْ
وحيدةٌ تصارع الأمواج في..
متاهة الوطنْ
وقارب شراعه
بقية الأجساد والكفنْ
وحينما تجتمع الخيبة والشعور بالضياع .. بتفاهة ما يتقاتل الناس عليه، ويتصارعون من أجله، يشعر الإنسان أن صحارى الانتظار التي تاه في مدياتها دونما أمل في الوصول إلى الهدف وتحقيق الغاية، اغتالت أمانيه وأحلامه:
ضاعت أحلام الصبا
في صحاري الانتظار
وطواني الليل وحدي
تائهاً كالموج ابحث عن قرار
غادرت مرفأ روحي
سفن العشق القديم
وانطفى ضوء الفنار
اغرق الحزن بقايا الشوق فينا
ودفنا الذكريات
وزرعنا شاهد القبر
على عين النهار
وهواناً صار ظلاً زائلاً
كشهاب لاح في الأفق ضياء
ومضى ... دون اعتذار
لحظات العشق ذابت كالشموع
وانتهت قصة حب كالشتاء
حينما يطغى على الروح الجليد
بالرغم من تنوع قصائد المجموعة إلا أن الشاعر حاول أن يعكس شعوره المعترض على ما يجري على أرض الواقع في عراقنا العزيز على أجوائها جميعا حتى بدت مشتركة في معنى بث اللواعج وإعلان الحزن الأبدي، هذا ما تحسه عندما تقرأ قصيدته المعنونة قاتل معلن؛ التي نظمها حزنا على الشهداء الذين سقطوا في تفجير الكرادة، والتي استقت المجموعة منها عنوانها، والتي يقول فيها:
اقبل بجنحك كالرياح على المدينة
اقبل فأيدي الله...
تبحث عن قلوب مستكينة
والموت يهطل كالرصاص
على الثرى
يمتص من كل الوجوه دم الحياة
فيستحلن إلى ضغينة
عيناه ترقب في الدجى
شغف الملائكة الصغار إلى الحقول
إلى الشوارع والمقاعد والسكينة
الحاملون اكفهم نحو السماء
ترنيمة اليأس المعذبة الحزينة
ويهدهد الموج المسجر كالجحيم مراكباً
وبلا شراع نحو هاوية تجوب سعيرها
والذل.. قبطان السفينة
وهذا ما تحسه وتشعر به في أغلب نصوص المجموعة، فقصائد المجموعة تشترك بهم واحد هو هم الوطن الجريح الذي تحول إلى جرح غائر في نفوسنا وأرواحنا:
سنظل نحمل جرحنا
غرباء في أرض الوطن
ونثور ضد حروفنا
كي لا نموت بلا ثمن
ونخاف من صمت المساء
وحكاية اللص المبجل بالرداء
موتى يخافون التعري من كفن
موتى تنوء بحملهم
حتى القبور
فنعود نعبد ذلنا
وخرافة هي كالوثن
ونظل نبحث في المقابر ظلنا
ونئن من وجع سيمحو او يكاد بصمته
ما كان يقرأ في وجوه السائلين هو الوطن
إن قصائد المجموعة تبدو للوهلة الأولى وكأنها قصيدة واحدة تشترك في معنى واحد يصرخ بوجه الإنسان معترضا على روح الافتراس التي فشت بين الناس داعيا إلى تمجيد تبجيل الإنسان هذا الكائن الفريد
صدرت المجموعة التي تضم (19) قصيدة، بواقع (82) صفحة عن دار أمل في دمشق، تصميم الغلاف والإخراج الفني: فلاح العيساوي، ولوحة الغلاف للفنان علي الجنوبي، وهي من المجاميع التي تبعث الأمل بأن عالم الشعر العراقي لا زال يتنفس الحياة ويرسم صور المستقبل ويبعث فينا الأمل، أمل أن ننتصر على روح الهزيمة السابتة فينا لنشترك جميعا في إعادة ترتيب بيتنا بعد الذي أصابه نتيجة الحراب الفكري والنفسي والطائفي والحزبي.
1734 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع