د.صالح الطائي
مقابر الشهداء العراقيين المهملة
كنت قد نشرت هذا الموضوع بعد زيارتي لمقبرتي الجنود الانكليز والعثمانيين في واسط ممن قتلوا بين عامي 1915و1916 لإجراء حوار متلفز حولهما لإحدى المحطات الفضائية، وذكرني به اليوم رؤية مقابر شهدائنا الذين ضحوا بأرواحهم دفاعا عن العراق ضد الهجمة الإرهابية الداعشية الوحشية، فأدركت أن حال الشهداء على مر تاريخنا الحديث هو نفسه لا أكثر، مزيدا من الإهمال، سواء دافعوا عن الأمة العربية، أو دافعوا عن عراقهم العظيم وعن قضية وطنية.
في مدينة الكوت، محافظة واسط هناك مقبرتان مهمتان لهما علاقة بالتاريخ الواسطي الحديث، الأولى: مقبرة الانكليز؛ التي تقع في منطقة السراي الشرقي وسط مدينة الكوت وغير بعيد عنها تقع المقبرة الثانية، وهي مقبرة الأتراك، وتضمان كلاهما رفاة الجنود الذين قتلوا في الحرب العالمية الأولى حينما زحف الجيش الانكليزي بقيادة "تاونزند" لاحتلال العراق فدخل واسط واحتلها يوم 29/أيلول/1915، وصعد نحو بغداد، فوصل إلى مشارف بغداد في سلمان باك، وهناك، تصدى له الأتراك، واجبروه على الرجوع إلى واسط، في وقت كان فيه الجيش التركي يطارده بقيادة الجنرال الألماني "فون در غولدس".
وفي واسط، وقعت بين الجيشين معارك شرسة، قتل فيها آلاف الجنود من الطرفين، وفي نهايتها، تمكن الأتراك من محاصرة الانكليز داخل المدينة، واستمر الحصار (147) يوما من 57/12/1915ولغاية في 29/4/ 1916، وانتهى باستسلام الانكليز للقوات التركية.
قرن كامل مر على هذه الأحداث الأليمة التي وضعت العراق عنوة كطرف ثالث بين مستعمرين؛ أحدهما يريد الحفاظ على مكاسبه والاستمرار بحيازة خيرات العراق له وحده، والثاني يحلم بالحصول على هذه الخيرات، وحرمان الآخرين منها.
قرن كامل لم يشهد العراق خلاله استقرارا حقيقيا، ولم ينعم أهله براحة البال، وكل أمة تأتي كانت تلعن التي قبلها، وتترجم اللعنة عسفا وجورا وظلما وقسوة، تصبها على رأس العراقيين مسلوبي الإرادة والرأي.
قرن كامل ولا زالت الحكومات تتابع أثر هذه المقابر، ففي بريطانيا هناك منظمة عالمية تُعنى بشؤون مقابر الجنود البريطانيين خارج المملكة المتحدة، كانت ولا زالت مهتمة بهذه المقبرة، وقد اتفقت مؤخرا مع إحدى الشركات لإعادة بنائها وتنظيمها بشكل يليق بذكرى هؤلاء الجنود.
وبالنسبة لتركيا سبق وأن زار السفير التركي (يونس ديمدرار) قبل سنتين مقبرة الجنود الأتراك في المدينة, لتفقد القبور والحفاظ على المقبرة، وفي زيارتي للمقبرة علمت من المشرف عليها أن السفارة التركية تتابع كل صغيرة وكبيرة تخص المقبرة وتقوم بالإنفاق عليها لتبقى رمزا لموت هؤلاء الجنود الذين صنعوا تاريخ تركيا الحديث، وأعلمني أن السفير التركي بنفسه يتصل به بين حين وآخر للاطمئنان على بقاء المقبرة بأحلى حلة.
المؤسف حقا أن الكثير من جنودنا الأبطال سقطوا شهداء الواجب في هذا البلد العربي أو ذاك، سقطوا دفاعا عن أخوتهم العرب ولم يذهبوا إليهم غازين أو محتلين، كما هي الحال مع العثمانيين والانكليز، منهم شهدائنا في فلسطين الذين سقطوا في الأعوام 1948و1949 دفاعا عن الشعب الفلسطيني، ودفنوا في مدينة جنين، فيما يعرف اليوم باسم "مقبرة شهداء الجيش العراقي"، التي تحتضن رفات نحوا من (56) ضابطا وجنديا سقطوا خلال معارك الدفاع عن المدينة عام 1948.
وفي مدينة نابلس الفلسطينية لنا مقبرة أخرى، تضم رفات (220) شهيدا من أبطال الجيش العراقي، استشهدوا دفاعا عنها في الحقبة نفسها.
وفي المملكة الأردنية، وتحديدا في محافظة المفرق توجد مقبرة لشهداء جيشنا البطل، الذين سقطوا دفاعا عن الشعب العربي والأمة العربية في الأعوام 1948 و1967 ولكنها تعاني الإهمال الشديد، يقول أحد الذين زاروها مؤخرا: "قمت في الآونة الأخيرة بزيارة إلى مقبرة شهداء الجيش العراقي في المفرق/الأردن. وشاهدت قبور الشهداء الأبطال الذين اشتركوا في حربي 1948 و1967، واستطعت أن أسجل أسماء الشهداء وتصوير بعض القبور. مع العلم بأن بعض هذه القبور لا تحمل أسماء ربما لعدم معرفة اسم الشهيد أو انمحت بفعل الزمان. كذلك وجدت صعوبة في قراءة بعضها نظرا لأن بعض الأحرف كانت تبدو غير واضحة".
كل هذه المقابر التي تضم رفات أبطال قضوا أثناء دفاعهم عن الوجود العربي، منسية من قبل الحكومات العراقية المتعاقبة، لا تجد من يبحث عنها أو يذكرها أو يخصص لها مبالغ لإدامتها، كما أن وسائل الإعلام العراقية مشغولة بالمناكفات السياسية والدعوات الطائفية ولا تلتفت إليها ولو بتقرير بسيط، يذَّكر العراقيين بأمجاد جيشهم؛ الذي دمره الطغاة صدام وأمريكا وأذنابهما. وعجيب أمر العراقيين منسيون في حياتهم ومنسيون بعد مماتهم؛ ربما لأنهم يملكون أكثر من غيرهم، فتنشغل الحكومات بما يملكون، وتنساهم.!
4290 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع