حسن ميسر صالح الأمين
(أقوال من أجل الموصل في محنتها ومستقبلها - ٣١) .
سيدة عصامية وعظامية ، عراقية حد النُخاع ، يسري هواء الموصل العذب في شرايينها كسريان دجلة العذب في أراضيها ، عكست المثال الحقيقي والقدوة الحسنة للمرأة العراقية الماجدة بصورة عامة وللموصلية بشكل خاص ومتميز ، سخرت وقتها وعمرها وجهدها منذ نعومة أظفارها وحتى الآن في خدمة الموصل بكل أهلها ومكوناتها ومن فيها ، فهي الصابرة والمضحية والمثابرة ، وهي الأم والأخت ومنبع الطيب والحنان والصدق والإخلاص كما هو حال النساء العراقيات أجمع .
سنقف اليوم سويةً عند سيرة بهية أخرى لسيدة من نساء الموصل الحدباء ، وهي التي عاشت السنوات الثلاثة العجاف تحت ظلم الدواعش الأنجاس وما رافقها من ظروف القهر والحرمان ، وهي التي صارعت آلام فراق الأولاد والإخوان وقارعت الصعاب في ظل ظروف الموصل وما ألم بها من خطبٍ مهول وأحداث جِسام طيلة الفترة من (2014 وحتى التحرير في 2017) ، سيدة عاشت التحرير بكل أيامه ودقائقه ولحظاته ، وبصواريخه وهاوناته وذاقت التهجير وظروفه والنزوح وعذاباته ، إمتلكها شعور الفرح بالتحرير الذي طال إنتظاره وآخر موازٍ ، قَضَّ مضجعها وأرّقَ ليلها ولمّا يَزّل ، ألا وهو شعور مأساة التخريب وويلات الحرب وما خلفته ظروف تحرير مدينة الموصل ، سيدة بقيت صامدة تحتضن تراب الموصل الحبيبة والى يومنا هذا تُقدم وتخدم وتعمل وتُساعد وتُشارك ، وهي تستنشق عبق التحرير وتتيمم بتراب الموصل وتصلي صلاة الشكر لربها وتدعي الباري جل في علاه أن يحرس العراق ومحافظاته أجمع ونينوى والموصل بعينه التي لا تنام وأن يكتنفهما بعزه الذي لا يضام .
سيدة تتمتع بثقة كبيرة بالله أولًا وآخرًا ، وبأنه سيعطيها كل ما تسعى إليه وهذا ما جعلها دائمة السعي والحركة السريعة والعمل الدؤوب ، عُرفت بقوتها وصلابتها وأنها لا تخشى إلا الله سبحانه وتعالى في قول الحق والعمل به ، فكانت المتميزة والمتقدمة الصفوف في كل محطات حياتها الدراسية وما أعقبها من حياة وظيفية وما تخللها من نشاطات إجتماعية وعائلية ، نشأت وتربت في بيتِ عزٍ ومن عائلة كريمة طيبة الذكر والأثر .
انها السيدة الفاضلة (أمية فيصل محجوب الطائي) ، مواليد عام (1954) في ناحية سنجار حيث محل عمل والدها (رحمه الله) في شرطة سنجار وكذلك المرحومة والدتها (المربية الفاضلة السيدة عامرة العمري - رحمها الله) والتي كانت (مديرة مدرسة في سنجار) آنذاك .
ففي رياض طفولتها في روضة (أم المعونة) ، تم إختيارها في حفل إستقبال مديرة الروضة عند عودتها من (القدس الشريف) وكذلك في المراسيم الأخرى لإستقبال زوار الروضة ، وفي مرحلة الدراسة الإبتدائية ، كانت تضع صندوق التبرعات في عنقها وتتولى جمع التبرعات وبيع بطاقات الحفلة التي يذهب ريعها لللاجئين الفلسطينيين ، وفي دراستها المتوسطة (متوسطة الشعب للبنات) شاركت في مهرجان الربيع ، وشاركت باستقبال الرئيس (عبد السلام عارف - رحمه الله) خلال زيارته للموصل وقامت بتقديم باقة ورد له ، وفي دراستها الأعدادية في (اعدادية الموصل للبنات) ، واصلت واجباتها السابقة بنفس الحماس والإندفاع ذاته إضافة إلى نشاطها في الخطابة وإلقاء الكلمات والتي نالت الإعجاب من الجميع ، وكانت ممثلة الطالبات بإجتماع المُدرّسات ، وكانت مهمة رفع العلم في يوم الخميس من كل أسبوع وتقبيله ، ملقاة على عاتقها وكانت دائماً المتميزة بين المشاركين وحسب شهادة الجميع ، حيث كانت مشاركة وبقوة في كافة الحفلات والإستعراضات والمسابقات وإلقاء الخطابات فيها والتي كانت تنظم في المدارس أو خارجها .
أختيرت من بين عدد من الطالبات في أن تمثل رمز (فتاة الموصل) والذي أصبح اسمه فيما بعد ، تمثال (فتاة الربيع) ، حيث تم تصميم النصب والمستوحى من صورتها من قبل الفنان الراحل (جلال الحسيني - رحمه الله) وقام باعمال النحت الفنان (فوزي اسماعيل) وتم وضعه كتمثال في ساحة (باب الطوب) في الموصل والذي تم تغيير مكانه لاحقًا قبالة عمارة التأمين ، ثم ناله وللأسف الشديد ، التدمير على أيدي وحوش العصر الأنجاس والأوباش ضمن مسلسلهم في هدم الرموز والشواخص التاريخية والفنية وإزالتها وطمس معالمها من أرض الموصل الحدباء .
تأثرت بوالدها مدير مكافحة الإجرام في العراق (العميد فيصل محجوب - رحمه الله) ، وأخذت عنه الكثير مما عرف به من حكمة وصلابة ، حيث كانت متابعة وبشدة ما يعرضه والدها في برنامجه الأسبوعي في تلفزيون الموصل (الشرطة في خدمة الشعب) مطلع السبعينات وكذلك الإطلاع على ما يكتبه من مواضيع أمنية .
حصلت على شهادة البكلوريوس في العلوم ، قسم الفيزياء من جامعة الموصل عام (1978) ، وتم تعيينها بعد التخرج في مركز الحاسبة الألكترونية ، بعد مشاركتها في دورات تخصصية في المركز القومي للحاسبات الألكترونية في بغداد على الحاسبة (هونيويل بول) الحديثة الخدمة والدخول في المركز ، وكذلك مشاركتها في دورة (نظم المعلومات) في بغداد ، وتولت القيام بمهام تدريب كوادر ومنتسبي الكليات على الحاسبات وإقامة دورات تدريبية في كل من (مديرية المرور ، مديرية التربية ، المعهد الفني ، أساتذة الكليات ، الموظفين الجدد) ، بالإضافة إلى إعطاء محاضرات عملية لطلاب الماجستير والدكتوراه وكذلك طلاب قسمي الكيمياء و الجيولوجي في جامعة الموصل .
شاركت في دورة عن الدفاع المدني عام (1979) وكانت (الأولى) على أكثر من (100) موظف وموظفة من دوائر الموصل ونالت كتاب شكر من محافظ نينوى ، مما جعلها مؤهلة لتكون مسؤولة أعمال الدفاع المدني في مركز الحاسبة بالإضافة لواجباتها الأخرى ، وأعقبتها بمشاركات عديدة في عددٍ من الدورات العلمية والإنسانية وآخرها في عام (1991) حيث شاركت في دورة التمريض التي عقدت في مستشفيات الموصل (نظري وعملي) وكانت الأولى ايضًا على أكثر من (250) موظف وموظفة ونالت كتاب شكر من دائرة صحة نينوى وكذلك من جامعة الموصل ، وهذا ما أنعكس إيجابًا فيما قدمته لأهالي منطقة سكنها خلال معارك تحرير الموصل الأخيرة .
تم اختيارها كأم مثالية عام (1996) ونشرت جريدة الحدباء مقالًا مفصلًا عن حياتها ، بعد أن تم اختيار (4) من أبنائها المتميزين دراسيًا بصفة (قدوة) في المدارس ، وكان المقال يحمل عنوان (أربع قدوات من بيت واحد) .
ومن الجدير بالذكر ، انه في عام (1997) ، وفي الوقت الذي كانت تتمتع فيه بأجازة أمومتها ، تطوعت للقيام بمهمة تدريس مادة الفيزياء لطالبات الصف الثالث المتوسط في متوسطة (الحاج يونس) ، بسبب وجود شحة بالمدرسين والمدرسات في المدارس آنذاك وأن الإمتحان الوزاري قد أقترب موعده وشارف على الأبواب ، سدًا للشاغر وإلى أن تم تعيين مُدّرسةً فيها .
نُقلت خدماتها من مركز الحاسبة الألكترونية عام (2003) لتتولى الإشراف على الأقسام الداخلية للبنات وحتى عام (2005) حيث أُسندت إليها مهمة تدريس مادة الحاسبة الألكترونية عند إستحداث كلية (العلوم الإسلامية) في جامعة الموصل بذلك العام ولا تزال على راس عملها في الكلية ، مترقبةً إكتمال معاملة أحالتها على التقاعد .
قامت بدور الأب والأم بعد رحيل زوجها رحمه الله في دولة الإمارات العربية المتحدة عام (2007) ، حيث واصلت المسيرة في تربية الأولاد ومتابعة شؤونهم الدراسية حتى تحقيق الهدف المنشود حيث أكمل الأبناء (ولد وخمس بنات) دراستهم الجامعية وتفوقوا بدروسهم وتوفقوا بحياتهم الزوجية والعملية .
عاودت الكرة ثانيةً بذات الإندفاع والشعور رغم فرق سنّي العمر بين الأمس والحاضر ، وكحال معظم نساء أم الربيعين ، لتتقدم الصفوف ثانيةً مع الكثير من مثيلاتها ممن يحملون تلكم الخصال وذاك النفس الوطني الغيور والشعور النبيل والصادق بمعاناة ومأساة الأهل في الموصل ، أثناء وبعد معارك التحرير ، وهي تحمل المواد الغذائية والملابس وتجود بها وبما وهبها الله من نِعم ومال لتقدم المساعدات لهذا وذاك من الناجين من معارك التحرير وتقوم بزيارات عديدة إلى المستشفيات البديلة وإلى العوائل المحتاجة والمتضررة وتحنو كأم مثالية لتمسح على رؤوس من لم يبق لهم القدر مُعيلا ، ولم تألُ جهدًا ولم تتقاعس في تقديم أي خدمة لأي إنسان يحتاج إلى تضميد جراحه أو زرق الأبر العلاجية وغيرها ، وصولًا إلى قيادتها لحملة تنظيف واسعة ورفع النفايات مع شباب منطقتهم السكنية ، شَكرها الجميع على جهودها هذه ، وخَصّها بالشكر إمام وخطيب الجامع في خطبة صلاة الجمعة لذلك الأسبوع .
ذرفت دمعًا مدرارًا من مقلتيها بعد تحرير الموصل ، معبرة عن الكم الهائل من الحزن والألم والمعاناة والعذاب الذي يمتلك جوارحها وعن حجم الدمار الذي لحق بالموصل وأهلها في الجانب الأيمن والتدمير الكبير الذي لحق في المدينة القديمة خاصةً والتي تحمل عبق تاريخ الموصل وأصالتها ، مع إستشهاد الألوف من أهلها مع عدد كبير من المفقودين ومنهم لمّا يزل تحت الأنقاض وكذلك ظروف وتزايد أعداد النازحين الذي شارف على المليون ومعيشتهم البائسة في المخيمات غير المؤهلة مسبقًا ، بالإضافة إلى صعوبة تنقل الأهالي إلى ذويهم بالجانب الأيسر وما إلى ذلك من مشاق تعتصر القلوب ألمًا وحزنًا على مدينة كانت باسمةً ومشرقةً بكل ما فيها ويدفعها الأمل بأنها ستعود كما كانت بإذن الله تعالى ، فما كان منها إلا أن تستمد قوتها من ذلك الماضي الذي عاشته وذلك الإندفاع والصبر والجلد .
ووسط هذه الإنجازات والمآثر ، كانت على تواصل دائم معي طية تلك الفترة المظلمة وتنقل الصورة الحقيقة لما جرى ويجري داخل الموصل وتكتب بدمع الكلمات التي يقطر منها الشجن والأحزان على حال الناس المعذبين ممن فقدوا عوائلهم بأكملها وهدمت دورهم وخرجوا من تحت الإنقاض بالحال الذي كانوا عليه ، وأشهدُ لها بكرمها ووقوفها بجانب المحتاجين والجرحى والنازحيين من الجانب الأيمن ، بل أنها وفي ذات يوم - كما وصلني ، أوقفت سيارة الأجرة التي كانت تقلها إلى دارها ، أمام أحد محلات الصياغة وقامت ببيع (محبس ذهب كان في يدها) وأعطت ثمنه لسائق السيارة بعدما سمعت منه عن معاناته وفقدانه ل(8) من أفراد عائلته وأن الناجية الوحيدة من عائلته وبجروح كبيرة هي ابنته الطالبة في أحدى الكليات وأنه يعمل كسائق أجرة في سيارة عائدة لزميله الذي منحها له ليعمل بها محاولًا تأمين ثمن علاج ابنته .
سادتي الكرام : أمام هذا الصرح النسوي الموصلي العتيد وهذه المنجرات والمآثر وما تحمل من إحساس وشعور بمعاناة الآخرين وإخلاصًا لا حدود له تجاه الموصل وأهلها أجمع ، وجدت نفسي ملزمًا في الإمتثال لواقعٍ فرضته تلك الصفات والخصال في أن تكون هذه الشخصية ضمن سلسلة الأقوال من أجل الموصل في محنتها ومستقبلها وأن يُسجل اسمها في صفحاتها لتأخذ استحقاقها بكل شرف وتميز فيما سيسطره التاريخ عن الموصل وعن شخوصها وأهلها في هذه الفترة المظلمة في تاريخها .
وبعد ، لقد اخترت مقولتها كما في الصورة أدناه وهي جزء من فقرات رسائلها على الخاص والذي كان تعقيبًا على مقالنا المنشور بتاريخ (22 / 6 / 2017) تحت عنوان (الثعبان السامة) والتي حاولت فيها التخفيف من وطأة الخبر المؤلم والحادث المفجع والمتمثل بتفجير منارة الحدباء في الموصل ليلة القدر الشريفة في رمضان (2017) ، وهي صرخةً مدويةً بوجه كل من حاول ويحاول تفريق أهالي ومكونات الموصل عن بعضهم وبوجه كل من ظهر صوته عاليًا مُبديًا الفرح والسرور والتشفي لما أصاب الموصل وأهلها في هذا الحدث الجلل الذي أصاب العراق وشعبة أجمع بالأسى والحزن ، والتي أراها ترتقي لتكون مقولة متميزة ضمن سلسلة الأقوال بحق قائلتها الفاضلة وهي لسان حال كل المحبين للعراق وشعبه الصابر المجاهد ولنينوى واهلها بشكل خاص صدقًا وقولًا وعملًا .
أضعها أمامكم سادتي الأفاضل وأتمنى أن تروق لكم وتأخذ استحقاقها في مشاركاتكم وإبداء رأيكم السديد بخصوصها لتكون شهادةً رصينة صدرت من سيدةٍ عراقية تتمتع بقلبٍ يَكنُ للموصل والعراق وشعبه المعطاء كل مشاعر الإنتماء والإخلاص والوفاء والشعور الصادق النبيل ، وأتوجه بالشكر الجزيل لجميع السادة المتابعين والمعلقين الكرام ولاسيما أصحاب التفاعل المتميز والحضور المتواصل والمتابعة المستمرة ، وأطمح من الجميع التركيز على مضمون المقولة وإبداء الرأي والإضافات حولها ، وهذه هي الغاية المرجوة من سلسلة الأقوال من أجل الموصل في محنتها ومستقبلها والتي ننشرها تباعًا ، شاكرًا تفضلكم ومتمنيًا للجميع دوام التوفيق والسداد وتقبلوا وافر الإحترام والتقدير .
حسن ميسر صالح الأمين
25/12/2017
والمقولة هي :
ستشرق شمس السلام والمحبة في نهار أم الربيعين ، لتبلسم الجراحات وتحتضن الأطياف جميعها دون إختلاف وتُخّيب ظن الأعداء في طمس هوية هذه المدينة الجميلة رغم دمارها ، لقد حاولوا دفنها ولم يعلموا أن لها بذورًا وأن جذورها عميقة بعمق تاريخها المجيد .
السيدة
أمية فيصل محجوب
* لقراءة المقال ومتابعة التعليقات في الفيس بوك على الرابط :.
https://m.facebook.com/story.php?story_fbid=10214369372569368&id=1269245661
3194 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع