جورجينا بهنام
قبل عام وبعض العام، لو سألت شخصا من العامة لا ينتمي إلى طبقة المثقفين الأكاديميين، أو ربة بيت تستقي ثقافتها العامة من برامج التلفزيون سيما المسلسلات المدبلجة بمختلف انتماءاتها، مكسيكية كانت أم تركية، وحتى بعض المتعلمين و كثيرا من حاملي الشهادات الجامعية وعددا غير يسير من الموظفين و الطلبة والمدرسين والأطباء والحرفيين، لو سألت أحد هؤلاء عن السلطان العثماني سليمان القانوني، لجاءك الجواب سريعا على الطريقة العراقية: هذا وين يزيـّن؟
لكن الحال اليوم تغير كليا ومعيار الثقافة التاريخية في شقه المتعلق بالسلطان سليمان على وجه الخصوص ارتفع إلى الذروة القصوى بعد النجاح الساحق الماحق الذي لا سابق له ولا لاحق و نسب المشاهدة غير المسبوقة للمسلسل التركي التاريخي المدبلج إلى العربية (القرن العظيم) او(مئة عام من العظمة) الذي أختير لتسويقه التجاري عربيا اسم (حريم السلطان)، ذلك النجاح بل التفوق الذي أبهر حتى القائمين على مشروع دبلجته وتسويقه عربيا، بعد أن اجتذب إقبالا إعلانيا منقطع النظير حتى بات وقت عرضه ينقسم مناصفة بين الأحداث الدرامية والإعلانات التجارية، مسقطا بالضربة القاضية ومن الجولة الأولى أسطورة العرض الرمضاني للمسلسلات الأكثر نجاحا وساعات المشاهدة القصوى ونجوم الشباك وسواها من نظريات الجذب التلفزيوني. لانه ببساطة لم يبحث عن موسم مميز للعرض بل خلق لنفسه المواسم بمجرد عرضه، محققا نسبة مشاهدة لا تحققها كل المسلسلات المصرية والسورية مجتمعة.
تحول هذا المسلسل بين ليلة وضحاها إلى حديث المنتديات والمواقع الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي، والمجالس والسهرات العائلية والنميمة النسوية التي تتداول أحداث الحلقات المعروضة وتتوقع سير الأحداث التي شدَّت المشاهد العربي بكافة شرائحه وفئاته، مقدما درسا خصوصيا في التاريخ العثماني وعن سلاطين بني عثمان وأبرزهم السلطان سليمان القانوني عاشر السلاطين وأوسعهم شهرة، ذلك السلطان الشاب الذي تولى إدارة السلطنة وهو في السادسة والعشرين من عمره خلفا لوالده السلطان سليم الأول، واضعا نصب عينيه طوال فترة حكمه التي دامت لأكثر من 46 عاما هدف تأسيس إمبراطورية أوسع وأعظم من إمبراطورية الاسكندر الكبير وأن يجعل من العثمانيين قوة لا تقهر في فترة حكم تعد الأطول في تاريخ سلاطين بني عثمان.
سليمان، لم يكن محاربا فقط بل صائغا و شاعرا و راعيا كبيرا للثقافة ومشرفا على تطور الفنون، وفي عهده سنت القوانين المنظمة للحياة العامة، ومنها جاء اسمه (القانوني)، في دولته التي اتسعت رقعتها كثيرا بعد سلسلة الفتوحات والغزوات الناجحة التي خاضها السلطان الشاب على الجبهتين الشرقية والغربية، إذ نجح في ضم العراق وتبريز بعد انتصاره على الدولة الصفوية في حملات متتالية، فضلا عن فتح جزيرة رودس وبلاد المجر ومحاصرة النمسا، كما نجح الأسطول العثماني في عهده في بسط سيطرة الدولة على البحر المتوسط وشمال افريقيا حتى تونس، ليغدو البحر الأبيض المتوسط بحيرة عثمانية. فضلا عن كل هذه الجوانب الايجابية، قدم المسلسل جانبا آخر من حياة السلطان العظيم كانت فيه حكايات الحرملك و خبايا القصور العثمانية في تلك الفترة عنصر جذب لايقاوم سيما صراعات و مكائد النساء الجميلات ونفوذهن في القصر السلطاني، ومشاعر الحب والعشق والكراهية والدسائس التي قد تلعب بمقدرات الدولة، محاولين عدم المساس بشخصية السلطان ونفوذه، فما كان هو البطل الرئيس في العمل بل زوجته السلطانة خُرّم (هويام) التي تعرف في الأدب الأوروبي باسم روكسلانة، جاريته الجميلة صاحبة النفوذ الكبير والتأثير الواسع على السلطان، الذي بلغ حد أنها نجحت في جعله يتزوجها زواجا شرعيا، إذ تخلى السلاطين العثمانيون عن الارتباط الشرعي مكتفين باتخاذ المحظيات بعدما أرغم تيمورلنك المنتصر في معركة أنقرة زوجة السلطان بايزيد صربية الأصل، على أن تقوم بالخدمة خلال حفل انتصاره وهي عارية تماماً، مما أدى إلى وفاة زوجها السلطان حزنا وغضبا، ومنذ ذلك الوقت لم يعقد سلاطين آل عثمان زواجاً رسمياً، حتى لا يتعرضوا لإهانات مماثلة في أشخاص زوجاتهم إلا أن سليمان القانوني استسلم لرغبة (السلطانة هويام) فعقد قرانه عليها(كما تحدثنا المصادر التاريخية).
فجاء العنوان العربي للمسلسل أكثر صدقية لأنه يركز على حكايات الحريم والحرملك أكثر من تركيزه على بطولات القائد العسكري المحنك الذي تعد سنوات حكمه –حسب رأي المؤرخين- العصر الذهبي للإمبراطورية العثمانية، فجاء هذا المسلسل منسجما مع الرغبة السائدة في تركيا هذه الايام لتمجيد الشخصيات التاريخية سيما العثمانية منها، كونها تمثل الأسلاف العظام للعثمانيين الجدد، لكن تقديم السلطان بهذه الصورة المتراخية وتعلقه بالنساء وخضوعه أحيانا لقراراتهن أثارت حفيظة كثيرين وكان في مقدمتهم الرئيس المصري محمد مرسي الذي انتهز فرصة زيارة رئيس الوزراء التركي لمصر لا ليبحث الشؤون الاقتصادية والعسكرية ولا حتى التعليمية معه، بل لينبه المسؤول التركي الرفيع، وريث السلاطين، والعثماني الجديد الى الخطر المحدق بالأمة وتاريخها وسيرة سلاطينها العظام من خلال ما يقدمه مسلسل (حريم السلطان) الذي يبدو أن مرسي من متابعيه، فانتفض الحفيد غيرة على تراث الأجداد لأن الخطر كبير والأمر جلل لا يحتمل التراخي ولا التغاضي. فبادر أردوغان فور عودته إلى تركيا إلى الاستفسار عما يعالجه المسلسل الذي لم يكن قد شاهده مسبقا والهجوم عليه. وسارع آخرون لإعداد مسودة قانون لمنع إنتاج وعرض المسلسلات التي ترى الحكومة أنها تتعارض و عادات المجتمع التركي وتقاليده أو تشوه التاريخ العثماني، حتى بات البعض يرى أن أيام المسلسل باتت معدودة، وان جزءه الرابع ربما لن يرى النور، رغم الكرم الواضح حد البذخ في إنتاجه ديكورا وملابس وإكسسوارات أوصلته الى الشهرة العالمية، هذا فضلا عن الـ(70) ألف شكوى المقدمة ضده حتى الآن.
يرى المراقبون أن اردوغان يسعى دوما لإضفاء القدسية على تاريخ آل عثمان والتهجم على تاريخ مصطفى كمال أتاتورك ورفاقه من الجمهوريين، متغافلا، كما تغافل المسلسل عن مظالم السلطان سليمان، عن العصور المظلمة والمظالم الفظيعة التي وقعت أيام الحكم العثماني سواء في ولايات ما يعرف اليوم بالعراق أو سائر الأراضي والبلدان التي تقع ضمن الحدود السابقة للدولة العثمانية، ويتغافل معهم متابعوه أيضا عن ذلك التاريخ الأسود الذي أوقع بلادهم في هوة عميقة من الجهل والفقر والمرض والتخلف، ناهيك عن التفرقة العنصرية على أساس الدين والعرق وسياسة التتريك والإذلال للشعوب الأخرى، مغمضين عيونهم عن المساوئ ساعين لإبراز المحامد متناسين أن للتاريخ ذاكرة لاتبلى تذكر المحامد ومعها المساوئ، وكما ترفع السلاطين والحكام والملوك وتؤلـّه بعضهم لانجازاتهم وأعمالهم أو خوفا من جبروتهم وتسلطهم وظلمهم، فإنها –تلك الذاكرة- هي التي ترمي آخرين في مزبلة التاريخ دون أن تشفع لهم مسلسلات أو أفلام ولا حتى مشاريع إعادة كتابة التاريخ
776 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع