آرا دمبكجيان
من أوجد الحركة الطورانية - التركية؟
تدل البحوث العلمية و التاريخية المبنية على معطيات جديدة بدأت تطفو على السطح مؤخراً ان المبشرين الأوائل للحركة الطورانية لم يكونوا أتراكاً، بل كانوا يهوداً هنكاريين و بولنديين و فرنسيين و ألماناً منتمين الى الحركة الصهيونية آنذاك. فقد أوجد هؤلاء فكرة الحركة الطورانية في الربع الأخير من القرن التاسع عشرو بشّروا بها و دعموها مادياً و معنوياً. و أما الأتراك أنفسهم فقد نادوا بالأمة الطورانية – التركية في الربع الأول من القرن العشرين، أي بعد خمسين سنة من المؤسسين الأوائل من اليهود الصهيونيين الأوروبيين. و من الجدير بالذكر ان التقارير السرية للأستخبارات البريطانية تؤكد ان الحركة الطورانية – التركية أوجدها غرباء غير أتراك و تتابع أهدافاً غير تركية، و على الأخص أهدافاً عسكرية و توسعية حسبما يذكر المؤرخ البريطاني المشهور أليوت كرينيل مييرس في كتابه عن تركيا ما معناه ان الأتراك العثمانيين لم يستحدثوا فكرة الطورانية – التركية و لم يتابعوها، بل كانوا مجرد آلة و وسيلة بيد من أوجدها من الأوروبيين.
يذكر المؤرخان الأنكليزيان كيركوود و توينبي في عملها المشترك "تركيا" أهداف الحركة الطورانية المعادية للروس، أولاً، و السوفييت، ثانياُ، من قبل الغرب، لأن تركيا وحدها لم تكن قادرة على القيام بهكذا عمل ضخم. و ذكر المؤرخان: "بامكاننا أن نفهم أبعاد الحركة الطورانية اذا انتبهنا الى حقيقة وجود ثلثي الناطقين بالتركية ضمن حدود روسيا، و هذا يدل على أن الهدف الرئيس منها إضعاف روسيا." و تدل هذه الحقيقة بدورها ان الحركة الطورانية لم تكن حركة "تركية" ذات دلالات قومية و عنصرية للنهوض بالأمة الطورانية – التركية، بل كانت بشكل برنامج سياسي معادٍ لروسيا استغلها الغرب للغاية المذكورة. و تدل الأثباتات التاريخية ان اصحاب رؤوس الأموال في الصهيونية العالمية قد أوجدوا و موَّلوا هذه الحركة مادياً و معنوياً.
ففي 1873-1874 صدر في لندن كتابان للمؤلف اليهودي الصهيوني آرمينيوس فامبيري الهنكاري الأصل (1832 – 1913) بعنوان "بخارى" و "آسيا الوسطى" ينادي فيهما بتفوق العنصر التركي و يذكر في الوقت نفسه ... أمجاد الأمة التركية ! هذا و تبيَّن فيما بعد أنه كان في خدمة وزارة الخارجية البريطانية بصفة عميل و جاسوس و ترك ديانته اليهودية و أرتمى في أحضان الألحاديين ...
في 1878 صدر كتاب "رسوم تركية" في لايبزك للمؤلف اليهودي الصهيوني النمساوي فرانتس فون فيرنير باسمه المستعار مراد أفندي يذكر فيه لزوم بعث العنصر التركي مع التأكيد على البرنامج السياسي الكبير للحركة الطورانية.
و صدر في باريس في 1889 الكتاب الموسوم "الأتراك قديما و حديثاً" لمؤلفه اليهودي الصهيوني البولندي قسطنطين بروجيتسكو و تحت اسم مستعار، جلال الدين باشا. لبس هذا اليهودي الصهيوني اللباس التركي و قام بتبجيل العنصر التركي "القديم" و تفوّقه و معدِّداً بطولاته الغابرة، في الوقت نفسه بكى على التهاوي التركي "المعاصر" في حينه، مهيِّجا مجد العنصر التركي و مصوِّراً السبل لإقامة الأمبراطورية التركية الأسطورية المترامية الأطراف...
و في 1896 صدر في باريس أيضا الكتاب الموسوم " مدخل في تاريخ آسيا: الأتراك و المغول منذ بداياتهم لغاية 1405"، و يكيل المديح لجنكيز خان و تيمور لنك معدِّداً أمجادهما على أعتبار أنهما وضعا أسس الأمبراطورية "الطورانية" القديمة و المجيدة حسب تعبيره، لكنها تهاوت الى الحضيض عندما قَبِلَ الأتراك و المغول الأسلام ديناً. نستدل من هذا ان ليس للكتاب أي علاقة بعلم التاريخ بل مجرد تهييج مشاعر الأتراك العثمانيين العنصرية و توجيه أنظارهم نحو آسيا الوسطى. و من الملاحظ ان هذا الشخص الدنئ كان يحاول تهييج المشاعر فقط و لم يدرِ ان احد الرحالة الأتراك العثمانيين كان قد أبدى رأيه بصراحة عن تيمورلنك قبله بمائتي سنة؛ ففي القرن السابع عشر كتب الرحالة التركي أولياء جلبي عن تيمورلنك واصفاً إياه بالجلاد و الدكتاتور الغريب الأطوار و هو يدعوه "الدكتاتور ذو العقل المظلم و المقزز للنفس."
يعتبر اليهودي الصهيوني الألماني آلبرت (مويز) كوهين من أكثر المدافعين عن الطورانية – التركية و من أعتى مروِّجي برنامجها التوسعي و السياسي. كتب كُتباً عديدة باللغة الألمانية تحت أسم مستعار أيضا، مويز تيكين آلب، من مواليد سالونيك من عائلة يهودية حيث برز اليهود الدونمة منها. لجأ الى فرنسا في 1956 و مات في مدينة نيس في 1961 و دُفن في مقابر اليهود. يتبيَّن من الأسلوب الذي انتهجه في كتابة تلك الكتب أنها لم تكن موجَّهة الى المثقفين و السياسيين العثمانيين الأتراك فقط، بل الى السياسيين و العسكريين الألمان و أصحاب رؤوس الأموال (و هذه قصة أخرى عسى و لعلني أتطرق اليها)، كأنه كان يضع الأساس لبرنامج سياسي و إعلامي لتوجيه الرأسمالية الألمانية نحو الشرق... و هذا ما حدث فعلا فاقترفت تركيا جريمة الأبادة الجماعية للأرمن بتوجيه ألماني، و بيد تركية.
من أقواله: "قبل البدء بالبناء لا بد من تسوية الساحة التي يملؤها عقبتان رهيبتان هما الدين والخلافة، فلتسقط حكومة التشريع."
و هكذا، توجَّه اليهودي الصهيوني الألماني آلبرت كوهين متخفيا تحت اسم تركي وهمي، تيكين آلب، و أصدر سلسلة متكاملة من الكتب باللغتين التركية و الألمانية نشير في أدناه الى ثلاثة منها:-
1- سياسة التتريك، في 1928 و هي دراسة في القومية الطورانية و يعتبر بمثابة الكتاب المقدس للسياسة الطورانية التي قوضت الخلافة العثمانية، وأحبطت فكرة الجامعة الإسلامية.
2- الكمالية، في 1936. و يقول فيها: "إن الكمالية وجهت حملتها الأولى نحو حكم الدين وقد انهارت هذه السلطة الغاشمة بضربة واحدة وجهها إليها أتاتورك." و أيضاً: "إن رب الكمالية الذي عبدُتُه منذ البداية هو: القومية."
3- الروح التركية.
و من المبشرين بالعقيدة الطورانية و مؤسسيها من اليهود الصهيونيين يجب ألا ننسى اسم الأديبة اليهودية المتنكرة تحت أسم خالدة أديب التي نشرت في 1916 في مدينة فايمار كتابها باللغة الألمانية "طوران الجديدة". كانت تُشغل وظيفة مفتشة لمدارس البنات في دمشق في ايام حكم حزب الأتحاد و الترقي و تبشِّر بالحركة الطورانية و تحاول تتريك الطلاب و الطالبات العرب لضرب فكرة استقلال الأراضي العربية. و أشرفت أيضا على تتريك الأيتام الأرمن من ضحايا جريمة الإبادة الجماعية التي أرتكبتها تركيا في 1915.
حاولت خالدة أديب مع جاويد بك في أقناع مصطفى كمال لحث البعثة العسكرية الأمريكية في خاربيرت (خربوط) قبول الأنتداب الأمريكي على ما تبقى من الدولة العثمانية لأعاقة مشروع الأنتداب الأمريكي على الأراضي الأرمنية. كانت عضوة في المنظمة الصهيونية نفسها التي أثَّرت على قرار التصويت في مجلس الشيوخ الأمريكي في 1 تموز 1920 لأسقاط الأنتداب الأمريكي على أرمينيا.
الى جانب العمالقة اليهود المبشرين بالحركة الطورانية يعتبر الأتراك المتصهينون اقزاما قياسا باولئك، و من أشهرهم ضياء كوك آلب من دياربكر الذي نشر كتابه "أساسيات القومية التركية" في 1923 في أنقرة.
يتوضح لنا ان مؤسسي و رواد العقيدة الطورانية – التركية كانوا من اليهود الصهاينة الذين جاءوا و نادوا بها طوال نصف قرن من الزمان (1923-1873) الى أن أخذت الهيئة النهائية لتركيا الكمالية و الحديثة تتشكل فنزل الى الساحة الطورانيون الأتراك على رأسهم ضياء كوك آلب الذي يعتبر من تلاميذ و متابعي اليهود الصهيونيين من أمثال فامبيري و فرانز فون فيرنير، بروجيتسكو، كاهوني، كوهين و خالدة أديب.
و أخيراً، تعتبر العلاقة بين الصهيونية و الطورانية علاقة أبوة و بنوة و ليست علاقة اعتباطية تكونت بضربة حظ.
آرا دمبكجيان
957 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع