د.صالح الطائي
العرب بين الخرافة والواقع
من مزايا العرب عن غيرهم من الأمم ان لغتهم مطواعة تتماهى مع رغباتهم وميولهم وشهواتهم وأمنياتهم، فتعطيهم معانٍ وأسماء جديدة يصيغونها على هواهم. من هنا نجدهم قد استنبطوا للأسد مئات الأسماء وللسيف مئات أخرى، ولجهاز المرأة التناسلي ألوفا ولممارسة الجنس نفسها أعداد لا تحصى، ولم يقفوا عند هذه الحدود بل تجاوزوها إلى استنباط معان أخرى قد يكون ما سنكتبه الآن من ضمنها!.
فمن يبحث في أبعاد أخرى خارج المألوف يكتشف أنهم لم يقفوا عند اشتقاقات اللغة، فقد حدا بهم خيالهم الجنسي الجامح إلى اختراع قصص في منتهى الغرابة، تكلمت عنها مجموعة من الكتب التاريخية، منها حديثهم عن خلق بعض الحيوانات، الذي لا يبتعد حديثهم عنه كثيرا عن عالم الجنس والشهوات، من ذلك قولهم: إن (الشِيب) وهو نوع من الفصيلة الكلبية، له أنياب طويلة وأسنان حادة، وقدرة على افتراس الكلاب والجمال والخراف وحتى الإنسان، هو مولود هجين، ولد نتيجة علاقات جنسية شاذة معقدة، مرت بعدة مراحل، حيث ادعوا أن الشيب وهو بزعمهم حيوان لا يتكاثر؛ مثلما هي البغال، إنما نتج من تزاوج (الذئب الذكر) مع (أنثى الضبع) (الأسروكون)، بسبب شبق أنثى الضبع التي إذا لم تجد ذكرا من جنسها يشفي غليلها تلجأ إلى الحيوانات الأخرى. فعندما تكون أنثى الضبع مستعدة طبيعيا للتزاوج، ولا تجد لها ضبعاً تعاشره، تذهب ـ حسب قولهم ـ إلى الذئاب، وتتيح لها أن تلقحها، ومن هذه العلاقة الشاذة ينتج الشيب. وهذا طبعا من الأمور المستحيلة، لأن عدد كروموسومات الضبع(الصبغة الجينية) لا تتوافق مع عدد كروموسومات الذئب، على خلاف عدد كروموسومات الحصان والحمار اللذين هما من فصيلة واحدة.
والتهجين علميا، هو عملية التزاوج بين سلالتين مختلفتين، ولكنهما من الرتبة نفسها، كتهجين الحمار(الذكر)، بالحصان(الانثى)، ولا يمكن حدوث هذا في الرُتب المختلفة مثل: الإنسان والحيوان، حتى بالنسبة للقرود التي هي الأقرب رتبة إلى الإنسان، لأن عدد الكروموسومات بينها وبين الإنسان مختلف. فمع أن الإنسان لديه (46) كروموسوما تشبه كروموسومات الشمبانزي . إلا أن أعدادها مختلفة في كليهما، فضلا عن ذلك لدى الإنسان في نوية خلاياه الجسمية 23 زوجا من الكروموسومات، بينما تملك القرود العليا ومن ضمنها الشمبانزي 24 زوجا من الكروموسومات. أما الحيوانات الأبعد مثل الكلاب فيستحيل أن تنتج العلاقة كائنا حيا، فالكلب مثلا لديه (78) كروموسوما، وهذا لا يمكن أن يلتقي مع كروموسومات الإنسان.
أما الحيوانات الخرافية بشكل عام، فهي وليدة الفكر الإنساني الجامح الحالم، فالإنسان ميال ومغرم باختلاق الأساطير، ربما لأن ذلك يريه قوى أسطورية ممكن أن يستعين بها عند الحاجة، أو لأن الاشتغال بتلك الرؤى مُشوق ومُنشط لخياله، ومن هنا كان البشر يُصدقون ما يُختلق من دون بحث عن دليل حتى أن تلك المختلقات الأسطورية، كانت جزء من الميثولوجيا التاريخية، وركنا من أركان الاعتقاد الديني البدائي، بوجود ثور وحية وحصان وكلب لهم أجنحة تمكنهم من الطيران، أو بوجود حيوانات خرافية مثل الرخ والعنقاء والتنين لا شبيه لها في واقعهم، أو الدمج بين الواقع والخيال لاختلاق كائن خرافي مثل السنتور الذي تقول الأسطورة الإغريقية إنه كائن على شكل إنسان في نصف جسد علوي، وحصان في نصف جسده السفلي.
وكم هو غريب أن نجد أبعاد عالم الخرافة القديم تمتد على يد رجال مشهورين إلى حدود ثقافة العرب، وتتوغل فيها لتخلق لهم حكايات اعتباطية، على درجة من التفاهة أنها حددت جانبا من أبعاد علوم أجدادنا، الذين كان همهم ما ورثوه من تراكم ديني، حيث حصروا العلوم بهذا الجانب، ونفوا أن تكون الأمور الأخرى علوما، من هنا تجد أن كلمة عالِم كانت تطلق على أكثرهم شهرة في تخصصه الديني، كأن يكون عالما في الحديث أو التفسير أو السيرة، وهكذا، أما غير هؤلاء فلا يُعد عالما!.
بسبب ذلك نجد أن من أراد منهم أن يتوسع في مباحثه أبعد من تلك الحدود التي فرضوها على أنفسهم، قد شط بعيدا عن العلم والعقل وسنن الحياة إلى درجة أن الأسطورة تقف عاجزة أمام ما اختلقه تفكيره، المشغول بأهم أمرين في الوجود: الدين والجنس! وهناك في تاريخنا الكثير من الأمثلة على ذلك، سأقصر كلامي على مثال واحد، هو: أبو عبد الرحمن محمد بن عبيد الله بن عمرو بن معاوية بن عمرو بن عتبة بن أبي سفيان بن حرب الأموي مثلما أورده الذهبي في الجزء التاسع من سير أعلام النبلاء، أو: أبو عبد الرحمن العتبي محمد بن عبيد الله بن عمرو بن معاوية بن عمرو بن عتبة بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس مثلما أورده المرزباني في معجم الشعراء. وقال عنه ابن خلكان في الجزء الرابع من وفيات الأعيان: هو الشاعر البصري المشهور؛ كان أديبا فاضلا شاعرا مجيدا، وكان يروي الأخبار وأيام العرب. وله من التصانيف: كتاب الخيل، وكتاب أشعار الأعاريب، وأشعار النساء اللاتي أحببن ثم أبغضن، وكتاب الذبيح، وكتاب الأخلاق وغير ذلك. وهو شاعر، وشعره كثير وجيد، وهو من فحول الشعراء المحدثين، وإنه كان عالما بالحيوان، وله نظرية في خلق الحيوان!.
ووصفه الصفدي في الجزء الرابع من الوافي بالوفيات بأنه البصري الأخباري، كان راوية للحديث النبوي، وأحد الأدباء الفصحاء. وله تصانيف منها: كتاب الخيل، كتاب أشعار الأعارب، كتاب أشعار النساء اللاتي أحببن ثم أبغضن، كتاب الذبيح، كتاب الأخلاق، وغير.
ما يهمنا من ذلك كله هو قول ابن خلكان عن الرجل أنه كانت له نظرية في علوم خلق الحيوان، وهي نظرية تدعو إلى العجب، إذ روي عنه أنه كان يقول: الزرافة ـ بفتح الزاي وضمها ـ الحيوان المعروف، وهي متولدة بين ثلاثة حيوانات: الناقة الوحشية، والبقرة الوحشية، والضبعان، أما الضبعان فهو الذكر من الضباع!
أما كيفية تكون هذه الخلطة الهجينة الفريدة، فتمر بعدة مراحل، منها أنها تبدأ بعدما يقع الضبع الذكر بالرغم من صغر جسمه وقصر حجمه على الناقة الوحشية التي يقارب طولها المترين، والتي لا تأنس لأحد بسبب وحشيتها، أي يتصل بها جنسيا، ونتيجة ذلك، تلد الناقة ولدا مسخا يحمل بعضا من صفاتها وبعضا من صفات الضبع، ولكنه بالرغم من هجنته يملك قدرة التزاوج والتكاثر على خلاف جميع الحيوانات الهجينة الأخرى! ولذا نرى أنه إذا ما كان هذا المولود ذكرا، وقيض له أن يقع على بقرة وحشية، فإن هذه البقرة سوف تلد الزرافة، أي أن الزرافة هي نتيجة علاقة شاذة بين بقرة وحشية والحيوان الهجين المسخ الذي ولد من علاقة معقدة مر عليكم شرحها! وقال أولئك العلماء إن الزرافة سميت بهذا الاسم لهذا السبب بالذات لا لسبب غيره!، والظاهر أن هذا العالم النحرير، أراد أن يثبت للمحيطين به أن ثقافته أجنبية، بما يدل على سعة اطلاعه على خلاف جمودهم، أنه تكلم عن اسم الزرافة في الأقوام الأخرى مدعيا مثلما نقل ابن خلكان عنه أن العجم تسمي الزرافة: (أشتر كاو بلنك) وهذا الاسم مكون من ثلاث مفردات:
أشتر: الجمل
كاو: البقرة،
بلنك: الضبع.
وقد بحثت في قواميس اللغة الفارسية عن اسم الزرافة، فوجدتهم يقولون: زَرَافَة : (ح): به معناى (الزُّرَافَة) است
- ج زَرَّافَات: جاى روان شدن آب ، گروهى از مردم از ده تا بيست نفر .
والذي فهمته من هذا النص أنهم يسمون الزرافة بنفس ما تسمى به في اللغة العربية.
ثم بحثت لزيادة الاطمئنان في قواميس اللغة التركية، فوجدتهم يقولون:
زَرَافَةٌ ( ج ) زُرَافَي [عامة] zürafa,surnaba,elleri ayaklarındam uzun boynu çok uzun olan hayvan,insan gürühü,su çımkırdacak çımkırık,püskürgeç
زُرَافَةٌ [عامة] zürafa
زرافة [عامة] zurnapa (far,zol)
وهم يلفظون تسميتها مقاربة لتسميتها في اللغة العربية، ولا أعرف من أين استقى هذا العالم الجهبذ تلك المعلومات التي لا تقل غرابة عن حديثه عن حيوان الشيب الذي مر بمراحل أسطورية يستحق بموجبها أن يدخل كتاب غينس!.!
4818 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع