حسن ميسر صالح الأمين
(وإنه لعهد مني...).
من حنايا الفؤاد الحرور بما أكتنز الذهن من ذكريات ملؤها الطيب والحنين والاشتياق، ومن شغاف قلب لايزال يقطر أسى على ماض ليس بالبعيد ولكنه أضحى بعيد المنال، ومن قلب ينبض بدقاته مع ما علق في السمع من صوت جهوري شجي حنون، يُجبر السامع على السمع ويُجبر المتكلم على الصمت ويُجبر خاطر القلب المكسور وهو يتلو بخشوع المؤمن الحق آيات بينات من كتاب الله جل في علاه قبيل صلاة المغرب يومي الأثنين والخميس من كل اسبوع، وانا جليس حديقة البيت الأمامية مترقبًا البدء للإصغاء الى تلاوته العذبة التي توازي قراءة المشاهير وخاصة المنشاوي (رحمه الله)، والتي كانت تنتهي مع دخول وقت الأذان ليلقيه على مسامعنا في أغلب الأوقات ويرفعه بيننا صادحًا بذلك الصوت المتنقل بنا الى أجواء روحانية عالية تحلق بنا في فضاءات ايمانية وخشوع وإدراك كبيرين لننفض بعدها لتأدية الصلاة وهكذا تتكرر، وكنا وما أن يحل علينا شهر رمضان الفضيل إلا وننوي العزم على تأدية صلاة التراويح هناك طمعًا بصوت ذلك الشيخ الكريم وهو يؤم المصلين هناك ويا لروعة قراءته في صلاة التراويح والتي كنا نتمنى أن لا تنتهى وكنتُ اسمع عددا من المصلين يقولون له عند بدء الصلاة (أطل يا شيخنا) اي يطلبون منه (الاستزادة في القراءة).
بِحَقْ إن للموصل شخصيات يحقُ لها ولنا أن نفخر بهم ونفتخر بمنجزاتهم ونتباهى بخلقهم وتواضعهم وما قدموا وخدموا، ومنهم رجالات الدين وأئمة الفقه فيها وهم كثر، وواجب علينا أن نوثق سيرهم واعمالهم وما فضل الله عليهم من نعم وآلاء، انه الشيخ الكريم فضيلة الأستاذ محمد عبدالوهاب عزيز وهب الشماع، ولد في مدينة الموصل عام (1959) بمحلة الشيخ محمد المعروفة أيضاً بمحلة شهر سوق، سليل بيت علم ودين وتقوى فوالده الشيخ الجليل عبدالوهاب الشماع (حفظه الله وبارك بعمره الميمون) من وجهاء الموصل وشخصياتها العاملة المعروفة ومن أبرز العلماء فيها والذي تولى الخطابة في جوامعها ردحًا من الزمن وشغل مناصب عدة ومنها منصب رئيس رابطة علماء الموصل لسنوات عدة.
شغف الشيخ محمد بتلاوة القرآن الكريم منذ صغره، وكان يُقلد القراء المشهورين أمثال الشيخ محمد رفعت، والشيخ عبد الباسط عبدالصمد، والشيخ الحصري، كما كان لتشجيع أبيه الأثر الكبير والواضح في أدائه.
درس في مدارس الموصل وتخرج من المعهد الإسلامي عام (1980)، ودرس أصول التجويد على الشيخ عبداللطيف الصوفي، وأفاد من الشيخ هشام البزاز ، وتعرف على الشيخ الحافظ يحيى النجار في مجلس الملا عزيز أحمد الخياط وقد تأثر بالسيد عزيز مال الله الصفار وأخذ الأنغام عنه، وقرأ على الشيخ يوسف الحربي القراءات السبع وأجازهُ بها عام (1996) في جامع الرحمة بحي السكر ولقبهُ بلقب (بدر القراء)، وأخذ عن والده إجازته بالعلوم الشرعية عام (1999).
حصل على بكالوريوس في أصول الدين عام (1984) من (كلية الشريعة) في (بغداد) ، ليؤدي خدمة العلم بعدها وتخرج من الكلية العسكرية الثانية (صنف المغاوير) ليخدم ضابطًا مجندًا لأكثر من تسع سنوات (1993 - 1984) في مختلف قواطع العمليات، ودرس الكورسات التحضيرية لنيل شهادة الماجستير في العلوم الإسلامية عام (2001) وتركها لظروف خاصة.
تم تعينه إمام وخطيب جامع النبي يونس منذ انتهاء خدمته العسكرية أواخر عام (1993) وبقي هناك حتى أحداث عام (2014)، شغل منصب عضو في مجلس محافظة نينوى (الدورة الأولى) للفترة من عام (2005 - 2004)، وتم تعينه مديراً لأوقاف نينوى للفترة من عام (2009 - 2004).
نشهد له بقراءته الجميلة وإتقانه وتفننه بالتلاوة وكذلك حُسن الأداء في الأنغام المتعلقة بطرق القراءات التي يُجيدها، شارك بمسابقة القراء التي عقدت في ماليزيا عام (2002) وحاز على المرتبة الرابعة، قام بتسجيل تلاوة المصحف الشريف كاملًا بصوته عام (2009) في ستوديو المناهل في شارع نينوى وقام بالتسجيل آنذاك السيد (مؤيد السبعاوي)، والذي يذاع الآن في الراديو وبعض القنوات الفضائية.
غادر الموصل كما عشرات الألوف من أهلها بتاريخ (20 حزيران 2014) بعد محاولات عديدة وسجال عقيم مع عناصر تنظيم داعش الإجرامي للحيلولة دون تفجير جامع (النبي يونس عليه السلام) ولكن بلا جدوى، حيث ذكر في أحدى اللقاءات بمناسبة يوم سقوط الموصل، أن مسلحي داعش قاموا بزيارته في جامع النبي يونس وأبلغوهُ بنيتهم تفجير الجامع، فجادلهم وأخبرهم أنهم بإمكانهم أغلاق باب الضريح والإبقاء على الجامع، لكنهم لم يقتنعوا وتعرض بعدها لمحاولات اغتيال واستهدف منزله بعبوة ناسفة، أعقبها بقليل تم أخذ مفاتيح الجامع منه وإخراجه من بيته المجاور، علمًا أنه قد تعرض لمحاولة اغتيال سابقة في مطلع عام (2014) أي قبيل دخول الدواعش وتحديدًا في يوم (7 كانون الثاني 2014) بعد صلاة المغرب، بسبب دعوته الصريحة لأهالي محافظة نينوى عبر قناة الشرقية إلى عدم انتخاب الفاسدين، وأصيب مؤذن الجامع السيد (عبد الباسط احمد) الذي كان يمشي بجوار الشيخ قبيل دخولهم الى دورهم العائدة للجامع بجروح عديدة.
فتركها (الموصل) مجبرًا يترقب وعيناه ترنو إلى الوراء مودعًا أياها بدموع وحسرات وآهات، ليتم تفجير الجامع بعد ذلك بأيام قليلة.
جلس في مهجره في دهوك يراقب الأحداث ويترقب ما ستؤول به الأمور ولسان حاله يقول (أضاعوها من لا ضمير له ولا ذمة وعلينا دفع ضريبة الخيانة العظمى لها ممن تولوا مسؤوليتها ومسؤولية البلد في حينها)، وبعد أن أستقر به الحال في مهجره واستكان من لوعة الأحداث ومرارة ما رأى، نشر على صفحته في الفيس بوك بتاريخ (24 آب 2014) منشورًا اعلن فيه عن مكان تواجده ردًا على الاستفسارات العديدة التي وجهها اصدقاؤه ومحبوه وإسكاتًا لما أُطلقَ من شائعات وتأويل عن حياته قال فيه (أشكركم جميعاً إخواني، ولمن يسأل عني فأنا لست خارج العراق بل في داخله ولم أسافر الى الخارج بعد الأحداث، ولم أخرج من الموصل اختيارا إنما خرجت اضطرارا ولو أن الأمر بيدي ما خرجت أبدًا لأن مدينتي في قلبي وكياني وتستحق كل الحب والوفاء، حفظ الله الموصل وأهلها ونجاها من كل سوءٍ وبلاء ونسأل الله أن يحفظ بلاد المسلمين من الفتن ما ظهر منها وما بطن) .
تعاطف بشكل كبير مع النازحين والمهجرين وبذل ما يبذل الكريم لأهله من خلال مشاركته في غالبية النشاطات التي تصب في خدمة النازحين والمعوزين وتقديم المساعدات والتقليل من حجم المعاناة.
له مشاركات عديدة في الندوات والتجمعات التي عقدت إبّان تلك الفترة في محافظتي دهوك واربيل وغيرهما بخصوص الموصل ومحنتها مع كم كبير من اللقاءات التلفزيونية في الفضائيات والإذاعات للتعريف بالإسلام ومحاربة التطرف، أجاد بهما في التبصير والتنوير لكل من أغشى الله بصيرتهم وأعمى قلوبهم التي في الصدور، وتصدى بكل ثقة وقوة وبشجاعة الموصلي الأصيل لكل من تجرأ على التنكيل بالموصل وأهلها أو النيل منهم رغم البأساء والضراء التي مستهم، فكان نِعمَ الابن البار للموصل وأهلها والمحب بصدق لها ونِعم الشيخ الوقور العالم العامل الخدوم.
قال في لقاء صحفي في معرض دفاعه عن الأئمة والخطباء هناك، أن الأئمة والخطباء في الموصل قد مُنعوا من الوصول الى الجوامع والصلاة فيها كمصلين في أندر حوادث منع من التقرب لبيوت الله، حيث لم يبق منبر ومحراب لعالم دين هناك، وقال أن السبيل الوحيد لوقف المد التكفيري والغلو الخاطئ في الدين ومحاربتهم، هو أن يتم أخذ العلم من العلماء المعروفين والكبار الذين تعترف بهم الامة.
كنا على تواصل دائم ويومي نتبادل به أخبار الأهل في الموصل لطمأنة أحدنا الآخر منذ حجب خدمة الإتصالات وخدمة التواصل عبر الأنترنيت في الموصل وطيلة أيام عمليات التحرير العسكرية وما أعقبها وكنا نتبادل التهاني فرحًا بتحرير الأحياء السكنية الواحدة تلو الأخرى.
زار الموصل بعد التحرير بأيام قلائل ووقف على أطلال جامع النبي يونس (عليه السلام) وغيره من المعالم الهاويات التي لم تسلم من طيش وبطش وظلام الوحوش الكاسرة التي أنقضت على من لا حول لها ولا قوة.
فَضّل ويُفضل في حديثه وتصريحاته ولقاءاته المتعددة في أن يعود الناس الى دورهم وأهليهم أولًا ثم بمشيئة الله سيتم بناء الجوامع المهدمة ومنها جامع النبي يونس الذي يُعد ثاني مسجد بُني في الموصل بعد مسجد خزرج في الجانب الأيمن.
لم يتمكن من ترك العيش في المهجر ومودعًا النزوح وظروفه الصعبة لأسبابه الخاصة، وتُوجه له العديد من الدعوات وفي فترات متقاربة ليحل ضيفا كريمًا وليتولى خطبة وصلاة الجمعة أو العيدين في عدد من الجوامع (جامع الإيمان وجامع الدكتور سعدي مهدي صالح وغيرها).
يدعو الناس في حواراته وخطبه وكذلك منشوراته التي تزخر بها صفحته على الفيس بوك ومقالاته المنشورة فيها وفي عدد من الصحف والمجلات ومواقع النشر الألكترونية الأخرى، على التسامح وترك الماضي للماضي بما فيه من أحقاد وعداوات واختلافات، والنظر الى المستقبل بعيدًا عن الطائفية والعنصرية التي استنزفت البلد وثرواته وأثرت سلبًا على مقدراته وخيراته ومعيشة أهله، معربًا عن سروره الكبير بالاندفاع الكبير لأهالي الموصل في العمل المتسارع على لملمة الجراحات وطي الصفحة المظلمة من حياتهم وشق طريق المستقبل بكل عزيمة وإصرار وتحدٍ متطلعين إلى غدٍ مشرق يكونُ بلسمًا لما خَلفتهُ هذه الفترة المظلمة من آلام وجروح ومصائب ودمار ومستبشرًا بكل خير تفيض به نينوى والموصل بعد ولادتها العصيبة أعقاب عمليات التحرير التي شهدتها.
وكما اسلفتُ في أعلاه، فالواجب يتحتم علينا أن نوثق سيّر هؤلاء الرجال التقاة الثقاة وأعمالهم ومواقفهم وأقوالهم في الفترة المظلمة من تاريخ الموصل الخالد لثلاث سنين عجاف (2017 - 2014) ولت وبغير رجعة بإذن الله، وتواصلًا مع ما سبق نشره عن رجالات الموصل الأفاضل وكذا النساء الفضليات وتنفيذًا لما ذكرته في مقدمة كتابي (من جوامع الكلم) بالقول (إنه لعهد مني بأنني سأعمل سوية معكم وبمعيتكم ومؤازرتكم على الاستمرار في نشر كل ما يخدم الموصل وأهلها).
وبعد، فقد أخترت للشيخ الجليل (محمد الشماع) مقولته أعلاه عن الخطباء والعلماء في الموصل كما في الصورة المرفقة لتُوثَق كشهادة حق تجاه كل الخطباء والعلماء في الموصل من الذين عانوا ما عانوا إبّان تلك الأيام الصعبة والظروف القاسية، أضعهما أمامكم في هذه العجالة في السرد عن حياة رجل من رجالات الموصل الأبرار والذي رزقه الله بابنه الوحيد (عبد الوهاب - خريج ادارة واقتصاد) والذي سار ويسير على نهج والده وجده وورث الخلق والأخلاق الحميدة والصفات المثلى رضاعةً ابًا عن جد.
آملًا ان يروق لكم الاختيار ومتأملًا تفاعلكم القيم ومسجلًا عظيم الشكر والامتنان للشخصيات التي تواكب ما ننشر بكل حرص وسرور وتقدر عاليًا ما نبذل من جهود في سبيل إظهار المواقف والحقائق والأقوال وتوثيقها للأجيال القادمة، وتقبلوا وافر الإحترام والتقدير .
حسن ميسر صالح الأمين
23/2/2019
* لقراءة التعليقات على اصل المقال على الرابط ادناه:
https://m.facebook.com/story.phpstory_fbid=10217729880459965&id=1269245661
387 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع