مشروع المرجعيَّة السنيَّة السيَّاسية ، حيثيَّة الجدل وحتميَّة الفشل!.
مشروع تشكيل مرجعية سنية تعني القيام بدور سياسي للسنّة العراقيين, فبعد مرور تسع سنوات على احتلال العراق ونكبته يبدو من خلال نشاطات بعض الإسلامويين وكتاباتهم, وتحضيراتهم وتنظيرهم ،كأنه آخر ما تفتقت به أذهانهم لشرعنة مشاركة السنة بالعملية السياسية الخائبة بوجوه جديدة في الانتخابات القادمة ، وستكون هذه المرجعية صاحبة القول والفصل في التنظير لهذه المشاركة ولإنفاذ كما يروج أصحاب المشروع وضع السنّة في العراق من خلال تشكيلها مستقبلا !.
تباينت مواقف الساسة السنة من هذا المشروع بشكل واضح بين قادح ومادح وبين مؤيد ومناهض كل وفق رؤيته لواقع الحال في العراق ومسيرة بوصلته المستقبلية وبسبب الرؤية المتناقضة في قراءة الواقع والمستقبل ، الذين يروجون لمشروع المرجعية السنية السياسية اليوم يستندون في رؤيتهم على الفرضيات التالية :
أولا: إن مشروع الدولة المدنية العراقية التي تشكلت في العشرينيات من القرن الماضي قد انتهى ولا أمل في عودته ، وان المشروع البديل الذي يجري ترسيخه هو سلطة شراكة المكونات التي تتبنى المحاصصة بين السنة والشيعة والكرد بشكل رئيسي ، وهو المشروع الذي يؤسس للفدرالية المنصوص عليها دستوريا والتي بسببها أصبح الدستور القائم غير قابل للتعديل والتغيير ، ووفقا لهذه الفرضية فإن إقامة الأقاليم حق دستوري مضمون لكل مكونات الشعب التي تعيش في حدود العراق الجغرافية !، وربما يكون تشكيل إقليم للسنّة العرب يتمتع بصلاحيات محلية حل لمعاناتهم الحالية وتهميشهم .
ثانياً : إن السلطة القائمة اليوم في وسط العراق وجنوبه سلطة طائفية تراعي وتؤسس لهيمنة الشيعة وتستهدف المكون السني ولا تحسب له حساب الشراكة الحقيقية وبالتالي فان المكون السني مهدد بالقمع والذوبان في ظل وسائل القمع والتمييز والصراع الطائفي القائم ، ولهذا أصبح النهوض بمشروع المرجعية السنية لإنقاذ السنة واجب شرعي وسياسي !.
ثالثا : يرى جمع من عناوين الإسلام السياسي في العراق والسلفيون بالذات ، ان قراءة أوضاع المنطقة العربية السائدة أصبحت تؤشر باتجاه قبول المشروع الأمريكي في المنطقة للحركات الإسلامية السياسية التي كانت توصم بالتطرف والعنف لهذه الحركات السياسية بمجرد قبولها بالتعددية والديمقراطية والعزوف عن إقامة الدولة الدينية التي كانت تنادي به لعقود من الزمن في صراعها مع الأنظمة الحاكمة ، كما حدث في مصر وتونس وتتبناه حركات تغيير إسلامية في دول الربيع العربي والحراك القائم ، و وفقا لهذه الصيغة يتم إعداد مشروع المرجعية السنية ضمن هذا الإطار والواقع إذ قد تحظى بدور سياسي بارز مستقبلا في الحكم الذي لا يمكن أن يرتكز كيانه إلا على قاعدة الأعمدة الثلاث يكون السنة فيها ثالث الأعمدة المفقودة !. ولئن فرضية التقسيم التي يتبناها المشروع الأمريكي للمنطقة أصبحت تحصيل حاصل كهدف استراتيجي لهذا المشروع الذي يفرض نفسه ، فإن مشروع المرجعية السنية أصبح ضرورة للتأسيس لكيان سني إقليمي.
رابعاً : الفشل والإحباط المتكرر في أداء ممثلي السنّة في العملية السياسية القائمة وخيبة أمل ناخبيهم بهم وتنامي التيار الرافض للمشاركة في الانتخابات القادمة ، أصبح هاجسا للعديد من الساسة السنة المتربصين! والتواقين لتحقيق فرصة فوز قادمة لهم ، وتعليل ذلك أن واقع الحال يفرض وجود سلطة معترف بها وان مقاطعة المشاركة فيها بالرغم من فشلها وخيبة الأمل فيها سوف يزيد محنة المكون السني تهميشا وإذعانا .
المناهضون لمشروع المرجعية من أبناء السنة يشكلون طيفا واسعا من عناوين الفكر السياسي القومي والعلماني والديمقراطي والإسلامي الوطني الذي يتبنى في موقفه المرتكزات التالية :
أولاً : أن العراق لم يتبخر وكيانه لن يختفي ضمن ما يجري به من أحداث ونكبات ، فظاهرة المحاصصة والانقسام والصراع والفساد ظاهرة أسس لها الاحتلال المنهزم وهي ظاهرة مرحلية سبق أن سادت في السلطة لفترات مظلمة مرت وانتهت وبقى العراق بعد زوالها كيانا موحدا أرضا وشعبا وسيادة . وان الاحتلال رغم انسحاب عساكره النوعي مازال محتلا وفاقدا للسيادة الحقيقة بمجرد شموله ضمن البند السابع وبمجرد هيمنة نظام ولاية الفقيه في إيران وتلاعبها باوضاعه وقرارات سلطته الفاسدة . كما أن الصراع الطائفي حالة شاذة أسس لها الإحتلال وتنامى في ظله ، وان حالة الفساد والعنف والمعاناة الحالية حالة شمولية لا تتوقف عند طائفة او مكون وأن الخطاب الطائفي والديني لا يصلح لمعالجة واقع الحال بل يزيده تشظية وتقسيما ومعاناة ، وأن الطائفية والفدرالية والفساد والعنف التي هي سمة السلطة الحالية لايمكن ان تؤسس لسلطة صالحة ولا لدولة عصرية وطنية موحدة ، وليس هناك من سبيل للنجاة إلا بالتصدي والصمود للاحتلال ونتاجاته الخائبة ، وان المشاركة بالعملية السياسية القائمة وبقاء الدستور الحالي الذي يتذرع به شركاء السلطة لا يخدم الا أطراف الشراكة بامتيازات الإثراء والفساد .
ثانياً : إن العملية السياسية القائمة انظم إليها وشاركت فيها تيارات وكتل وشخوص تقلد وتتبع مراجع وقيادات دينية سياسية شيعية وسنية طائفية وثبت فشلها حتى إن هذه الواجهات الطائفية حين شعرت بفشلها ورفض المجتمع لطروحاتها ، غيرت عناوينها ومسمياتها كوسيلة لإعادة الثقة بها حين شكلت كتل نيابية وانتخابية بمسميات علمانية و وطنية زيفا وبهتانا .وقد مثل السنّة في العملية السياسية الحزب الإسلامي ومفكرون وعلماء من السنة وكان للحزب الإسلامي مجلس شورى من الفقهاء والمفتين قاربوا المائة ، وكان له نوابه وكتلته وما زالت ، فهل حقق الحزب الإسلامي للسنَّة شيئا يذكر أم كانت تجربة مشاركته في العملية السياسي وخيمة على ساسته وعلى المكون السني الرافض والمقاوم للإحتلال . كما تشكلت ضمن مكون السنة واجهات حملت السلاح بمسميات عديدة بذريعة حماية السنة ومناطقهم والصحوات نموذج واحد منها ، ناهيك عن تنظيمات اخرى ، ماذا حققت هذه التنظيمات الطائفية لأهل السنة ؟، ألم تصبح فيما بعد واجهات لتصفية مقاوميهم وشبابهم وسياسيهم الوطنيين ؟. لماذا لا تحسب مشاركات الحزب الاسلامي وأهل السنة ومن ثم التوافق وأهل العراق وجماعة العلماء والوقف السني مرجعيات سياسية سنية وهي واجهات لا زالت قائمة تشارك بالحكم والامتيازات والقرار حالها حال الأحزاب الدينية والمرجعيات الشيعية والتي لم يحصد العراق منها إدائها الا العنف والفساد والإثراء بالمال العام ؟.
ثالثاً : ما هي ضمانات ان تكون هذه المرجعية السنية موضوعة التشكيل مرجعية جامعة تحظى بوحدة الكلمة والصف ومتى كان السنة ممثلين بمرجعية واحدة ، بل متى كانت مرجعيات الشيعة السياسية موحدة ؟.وحتى في ظل ما حققته وما أقحمت به هذه المرجعيات من مواقف فان المرجعيات الشيعية تعددت في ظل الاحتلال وتباينت في المواقف واختلفت وتصارعت فيما بينها ، ولا غرابة في ذلك لأن الاحتلال يسعى لتحقيق ذلك ، وما الذي حققته المرجعيات الشيعية الراسخة بتاريخ تشكيلها وتبريرات نشوءها في المذهب الجعفري لجماهير الشيعة المنكوبة حتى اليوم في ظل حكومة الاحتلال والفساد؟.
, وما هي ضمانة ان يحظى تشكيل مرجعية سنية جديدة العهد لا امتداد لها ولا سابقة في توحيد الموقف لجميع السنة التي يشكل مكونها طيفا وطنيا سياسيا متعدد الاتجاهات الفكرية ؟. وهل يعقل ان مرجعية بعنوان وصبغة طائفية ستحظى باحتواء القوميين والديمقراطيين واليساريين والعلمانيين السنّة ، ناهيك عن طبيعة الاسلام السياسي السني الذي يقر الاختلاف والاجتهاد في المسائل الفقهية ولا يتقيد اتباعه بالتقليد الملزم مما يجعل التوافق صعبا حتى في عملية تنصيب مفتي او فقيه ، فما بالك في قضية الإجماع في القضايا السياسية ؟. ثمَّ ماذا سيكون موقف هذه المرجعية غدا من الجبهة العريضة المناهضة للإحتلال والتي ينتظر ان تنطلق بمشروعها الوطني الرافض للاحتلال والتي لا تجد في الخطاب الديني السياسي المجرد حلاً للأزمة والنكبة العراقية إن لم يكن قد ألهبها ضراوة وتعقيدا؟ بعض الذين كتبوا عن مشروع المرجعية السنيِّة لا يترددون بقبول الفدرالية ونصوص الدستور الحالي ولديهم قرار مسبق بالمشاركة في العملية الدستورية والترشح للانتخابات القادمة ويحسبون ذلك من أبرز اسباب إنطلاق المرجعية التي تبيح وتحل لهم ذلك !.
رابعا: لا أدري لماذا يجد ساسة السنَّة الذين واكبوا الاحتلال وشاركوا في عمليته في العراق أنفسهم في عجالة من الزمن دون غيرهم فيما تتفتق به ذاكرتهم من مشاريع وتكتلات ليجدوا حالهم في كل مرة مخيِّبين لآمال ناخبيهم والمتوسمين بهم نفعا لو تجاوزنا قضية معايير الترشيح للشخوص في كتلهم النيابية والتي اعرف أنها كارثية لم تخضع لمعايير الوطنية والكفاءة وما شاب سلوكية هولاء النواب بعد فوزهم من فساد وتنكر للمبادئ , يكفينا أن نتذكر جيدا موقف الأستاذ طارق الهاشمي الذي أطلق مبادرة موافقته وحزبه الاسلامي على الدستور قبل الاقتراع عليه بيوم واحد بشكل مفاجئ وطالب السنّة بالتصويت للدستور بناء على وعود غير ملزمة وخرج بذلك على الاتفاق مع القوى السياسية والوطنية وعلى رفضه ، وكيف قلب هذا الموقف موازين المعادلة ليصبح بسببها الدستور الخائب دستورا للعراق بدلا من رفضه في حينها ، واذكر جيدا كيف انه بعد عودته من مقابلة مع الرئيس بوش إبان أزمة انسحاب وزراء التوافق من الحكومة كيف أطلق الهاشمي تصريحه الغريب في حينها والمفاجئ حتى قبل أن يصل بغداد قال فيه: بأن الأوان قد حان كي تكون لعلماء السنة هيئات وتشكيلات غير التي في الساحة وهو يعي جيدا من يقصد ؟ وفعلا تم الإعداد لمؤتمر علماء في عمان بإشراف السيد أحمد عبد الغفور السامرائي رئيس الوقف السني واعلن عن انطلاق مجلس علماء العراق وانتخاب أمانته ، أين أصبح هذا المجلس الذي انهار قبل انتهاء مؤتمره ومن قام بالصرف عليه وإعداده ؟ ولماذا و وفقا لأي أجندة نفذ الهاشمي هذا المطلب ؟ ، ألم يكن المقصود ان البحث عن هيئة سنيِّة شرعية تقرُّ عمليتهم السياسية أمر يهم الإدارة الأمريكية وتعدُّ له ؟، ألم يشكل الدكتور عبد اللطيف الهميم جماعة علماء ومثقفي العراق والذي تباينت مواقفها حول الفدرالية وشاركت في العملية السياسية ثم لم نعد نسمع للجماعة موقفا شرعيا او سياسيا غير الإعلان عن استجابة الدكتور الهميم لنداء المصالحة الوطنية الذي يتباه المالكي ولقاءاته المتكررة به ، ألم تنخرها الانشقاقات والانسحابات بالجملة من معظم مكاتب الجماعة الرئيسية ؟، وكذا هو الحال فيما يخص الشيخ مهدي الصميدعي أمين هيئة إفتاء أهل السنَّة والجماعة الذي تم ترويضه بعد ان تم سجنه لفترة طويلة ليخرج بعدئذ كواجهة سنيِّة تتبنى مواقف الحكومة والمالكي وتعرضه حديثا بسبب ذلك لحادثة اغتيال أدت الى إصابته بجروح بليغة ، وحين يحسب الشيخ الصميدعي نفسه مرجعية سنية شرعية وسياسية ، ألا يسأل الشيخ الفاضل نفسه ماذا فعلت هذه الهيئة للسنّة منذ تأسيسها ؟. مؤتمر أهل السنة ومن ثم مؤتمر أهل العراق الذي أسسه الدكتور عدنان الدليمي ومن ثم كتلة التوافق ، ألم تكن كلها محاولات لمشاريع سنيَّة سياسية بعناوين متعددة ؟ ماذا استطاعت ان تحقق هذه المشاريع لطائفة السنَّة بالرغم من خطابات وتصريحات قياداتها اللآهبة في حينه ؟ ، أم أن هذه القيادات تعتقد انه لولا تلك الجهود لكان السنَّة قد تبخروا أو اختفوا اليوم !.
هيئة علماء المسلمين وأمينها الشيخ حارث الضاري التي تبنت مشروعا وطنيا غير طائفي واختارت العمل المناهض للاحتلال مبكرا وأنكرت المشاركة بالعملية السياسية وتبنت خطاً مقاوماً لم يتبدل ، ألم تتعرض هذه الهيئة للتهديد والوعيد والترهيب من قبل ساسة السنَّة المشاركين في السلطة ومن الراكضين اليوم خلف طرح مرجعية سنية سياسية ؟، مع أن الهيئة تنأى مرارا وتكرارا وترفض ان تكون واجهة أو مرجعية للسنَّة دون غيرهم من مكونات الطيف العراقي بالرغم من طبيعة شخوصها وظروف تشكيلها ،لماذا هذا الموقف المسبق لحملة مشروع المرجعية السنيَّة من الدستور والانتخابات والفدرالية المعارض والمناقض لموقف الهيئة منه ،ألا يشكل هذا الموقف شرخا كبيرا في الموقف من الاحتلال ونتاجاته، ويشكل أيضا شرخا بين السنة أنفسهم اكبر مما هو عليه الآن.
لاشك إن المكون السني كمحصلة لسياسة الاحتلال منذ بداياته يتعرض لسياسة قمع وترويع من قبل السلطة بسبب سياستها الطائفية والتبعية ، ومن خلال هذه السياسة تطمح إدارة الاحتلال وسلطته المنصبة الى ترويض الساسة السنة للانخراط والمشاركة في دعم مشروع التقسيم وتروجه في أوساطهم كأنه مشروع إنقاذ وانتشال لمكونهم من واقعهم المرير ، ومن المؤكد أن الاحتلال ممثلا بسلطته الحاكمة سيظل يحاول بشكل متكرر ابتداع مشاريع سياسية مثيرة للدجل والفشل كتلك التي يتم بها ترويض المكون السني والمسيحي واليزيدي وغيرها ضمن المكونات العراقية بذريعة إنقاذها ، وبحث مشروع تشكيل المرجعية السنية السياسية من جديد بعد فشل كل المحاولات المتكررة السابقة وفي ظل الواقع السيء والمعاناة الكبيرة لعموم العراقيين ، احسبه واحدا من اخطر اساليب الاحتواء السياسي الخبيث لترسيخ سياسة الاحتلال وتقسيم العراق .
ليس للعراقيين جميعا سبيل للنجاة من مكائد الاحتلال وسلطته إلا الاعتصام بحبل الله والتمسك بوحدة العراق ودعم مقاومته الوطنية وتبني مشروعا وطنيا جامعا لمناهضة الاحتلال ونبذ الطائفية المقيتة ومشاريع التشظية والتقسيم .هذا هو السبيل الصحيح لمن يريد إنقاذ العراق من الوضع المأساوي الذي هو فيه،والمحافظة على وحدة أبنائه وحقوقهم جميعا بلا إقصاء ولا تمييز بين مكوناتهم كما كانوا على مدى التاريخ.
1219 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع