رتيم إيفانوفيتش أفاكوف درس في الهندسة وإدارة الأعمال

                                     

                           ليث رؤفحسن

دعاني أحد الأصدقاء عزيز علي في عام 2004 للقاء في مقهى على ضفاف خور دبي ليعرفني إلى أحد القادمين الجدد من بغداد.

وصلت المقهى وإنتظرت برهة لوحدي إلى أن وصل الأصدقاء. كانوا ثلاثة من المهندسين العراقيين ويجمعهم شهاداتهم العليا (الدكتوراة) وتدريسهم مادة الخرسانة في الجامعات العراقية وتبوأهم في فترات مختلفة إدارة نفس المؤسسة في بغداد. بعد الترحيب وتبادل عبارات المجاملة طلبنا من النادل أن يجلب لنا من القهوة والعصائر ما شاء كل واحد منا.

سرعان ما أخذ الأساتذة يتبادلون أطراف الحديث عن العراق والعراقيين ووزارة الإسكان وأيام العز والأصدقاء والمعارف وأين أصبحوا , وإنجرف الحديث عن صعوبات العمل أثناء الحرب ثم الحصار وإداء الواجبات المناطة بهم وكيفية إنجازها بل وتحقيق المستحيلات والمعجزات الهندسية وغير ذلك من إنجازات عبقرية وأعمال خارقة يصاحبها سوالف عن العنتريات التي قام بها القائد الضرورة وزبانيته في النظام العنتري البائد القديم. مرت أكثر من ساعة ونصف وأنا أستمع للسوالف في الوقت الذي تناولت ألقهوة المرَّة بعد العصير ومر الوقت رتيبا وطلبت كوب عصير ثاني والجماعة (واحد يَرْفَع والآخر يَكبِسْ) وأنا أشفط القهوة وبعدها العصير وعلى غير عادتي, لم أتفوه خلال تلك الدقائق والساعة ولا كلمة واحدة, ساكتا وأبلع من هذه البطولات الهندسية والجسور التي شيدت والمعابر التي أنشأت والنصب التي رفعت أثناء الفترات التي كان فيها إبناء وبنات العراق يعانون ويقاسون سواء لبناء تلك الصروح في وقت أو بعدئذ الذهاب إلى مسلخ حروب القائد الضرورة أوقاتا أخرى وأنا مستمر بشفط العصير إلى أن أنهيت الكوب الثاني بعد القهوة.

إنتبه الصديق العزيز الدكتور أبو أسامة إلى صمتي الغريب. والتفت نحوي وتساءل لماذا لم أشترك معهم في الحديث والكلام؟ فقلت له إن الحديث بينكم يتداول أعمالكم ومنجزاتكم في العراق الذي لم أعمل فيه ولا يوم, بل لا أكاد أعرف غير عدد يسير من المهندسين العراقيين وأحب أن أستمع لكم اليوم بدلا من الحديث. فتحرَّش بي أبو أسامة وسانده أبو أحمد متعمدين سماع رأيي بما كان يتحدثون عنه من إعجازات وصروح وعنتريات هندسيَّة وطلبوا مني إبداء رأي ما ولو مختصراً.

قلت لهم ,سوف لن يعجبكم كلامي ولا آرائي فاعل غير الدق على الحديد. مما جعلهم يتحفزون لسماع ما سأتفوه به !! وألحُّوا علي بالتعليق والحديث.

دخلت كلية الهندسة في موسكو عام 1963 وكان يحاضر لنا في العام الدراسي الأول لكلية الهندسة في درس مواد البناء رئيس القسم في الجامعة الأستاذ (البروفيسور أرتيم إيفانوفيتش أفاكوف) وهو رجل كبير بالعمر وكبير في الهندسة, كان أستاذا مرعبا وشديدا بحق. كنا نرتعب منه لعدة أسباب أولها كان عمره فوق السبعين عاما ولديه شهادات وأبحاث ما أنزل الله بها من سلطان وكان هنالك حديد تسليح يستعمل في بعض المنشآت التخصصية يسمى حديد أفاكوف مسجل بإسمِهِ في المصانع ويشغل كرسي عضو إحتياط في أكاديمية العلوم السوفياتية ومكانته عالية جدا في الأوساط العلمية السوفياتية. كان شديداً أثناء الدرس متجهم الوجه لم أره يبتسم طيلة خمسة سنوات دراستنا لديه, يكره دخول النساء في كلية الهندسة المدنية مما أثر على دراسة فاطمة زوجتي بعدئذ والأخت سحر عبد الفتاح إبراهيم التي جاءت بعدنا بعام, وتعلوا أنف الأستاذ أفاكوف نظارة طبية من طراز ما كان يلبس بوشكين في القرن الماضي من النوع المدوَّر الذي يثبَّت على الأنف بقرَّاصة ويحصر الدم في عروقه حتى ليبدو لون أنفه أزرقاً وكانت هذه النظارة تتحرك مجيئة وذهابا فوق أنفه أثناء التحدث بذلك الصوت الجهوري.

وقف أمامنا في الصف وبعد أن صبَّح علينا ولوح بعصبية بجريدة بيده وقال هل قرأتم هذا الهراء والتفاهة في جريدة اليوم ؟؟؟

الجريدة تتحدث عن بناية في منطقة كومسومولسكي ( إحدى ضواحي موسكو) أنشأت خلال خمسة أيام!!!

صرحا هندسياً, عمارة مكونة من خمسة طوابق من البناء الخرساني المسبق الصنع وكل دور فيه خمسة شقق!! كل ذلك في خمسة ايام!!!

كل صحافة الإتحاد السوفياتي تطبل بكل عنجهية لهذه السخافة والتفاهة والهراء!!!

لم يجرؤ أحد منا على الحديث مع هذا الأستاذ في الأيام التي يكون فيها رائقا, فكيف نتمكن من السؤال وهو معصُّب (وحالته التي أثارت الفزع في نفوسنا)؟

لم نجرؤ على طرح اي سؤال أو نبدي إستفسار عما يزعجه في الخبر بينما هو ما يزال يرغي ويزبد ويرعد.

سكتنا وكأن على رؤوسنا الطير بإنتظار ما ستسفر عنه المحاضرة!!

إنتبه أرتيم إيفانوفيتش إلى نفسه وتوقف وأخذ نفسا وسأل:

هل تعلمون كم يوما فعليا إستغرق بناء هذا الصرع العنتري؟؟

وأجاب هناك زمن جلس فيه المهندسون في المكاتب وهم يخططون لهذا البناء ولم يذكر ذلك في الجريدة ولم يعرف أحد كم إستغرق عملهم!!

جرت عملية تجهيز العقود والرسومات والتفاصيل الهندسية ولم يذكر أحد كم إستغرق ذلك وكم كلف؟؟

جرت عملية تحضير لهذه المنشآت في المصانع لشهور طويلة في المصانع ولم يذكرها أحد!!!

كم شهر وكم من الأموال والجهود إستغرقت لتحضير وبناء ألأسس والخدمات الهندسية في موقع العمل؟؟

كل الذي ذكروه هو العملية العنترية التي تمت في موقع البناء وشاهدها الناس.

شاهدوا هذا الصرح الهندسي وهو يرتفع ويكمل في خمسة أيام ولم يسألوا عن الأبطال خلف الكواليس والأهم من ذلك تكاليف الإنتاج وكم إستغرق العمل الفعلي.!!!

الصروح والمنشآت الهندسية تقف على عدد من القوائم والأسس:

* توفر رأس المال.

* توفر قاعدة إقتصادية وعوائد مجزية.

* توفرعلوم هندسية متطورة.

* توفر مهندسون ومخططون وعمال (موارد بشرية).

* توفر مواد بناء محلية.

* توفر معدات بناء.

هذه المكونات ضرورية لإنجاز أي عمل هندسي وإذا لم تتوافر هذه العناصر أو إحداها فلا يعتبر عملا هندسيا متكاملا.

وأضاف أرتيم إيفانوفيتش أفاكوف بأن أهم عنصر في هذه الظروف خاصة في عالمكم الرأسمالي هو مَرْضَاة أصحاب رأس المال.

وإذا كان الصرح والمنشأ غاليا وغير مجديا إقتصاديا فسيطردكم رب العمل.

هؤلاء العنتريون في موسكو أهملوا أهم قاعدة في البناء ألا وهو العنصر الإقتصادي. وبإهماله أو فقدانه فأن ذلك يفقد البناء جوهريته.

كان كل مطمحهم أن يشاهدوا الجريدة وعليها خبر يُناطح الدول الأخرى وخاصة الرأسمالية وسباق السرعة في إنجاز المباني!!!

توقف أرتيم إيفانوفيتش قليلا ليلتقط أنفاسه ثم يذكرمثال بسيط على ذلك بطريقة السؤال.

هل تعتبرون الأهرامات والجنائن المعلقة والأكروبوليس وقوس النصر في باريس وبنايات موسكو السبعة وغيرها صروح هندسية تستحق الإعجاب؟؟؟

كلكم سيجيب بالفعل صروح ومنشآت هندسية خالدة أبد الدهر!!!

أضاف وقال بعصبية وصوت عال وجهوري (يروندا) أي (هراء أو تُرَّهات) بالطبع كلا ثم كلا.

هذه قبور إبتناها الحكام الطغاة بإستغلال البشر لسنوات كثيرة وبعضاً لعدة أجيال ليخلدوا إسماءهم وليعتبروا أنفسهم آلهه, على حساب أموال وأرواح البشر!!!

أين الفائدة الإقتصادية لهذه الصروح بخلاف أموال السياحة للأجانب؟؟؟

هؤلاء العنتريون الروس أساءوا إستخدام الأموال ليصورا هذه العمارة ويقنعوا الحكومة الغير رأسمالية والتي لا تعرف قيمة وحساب الفلوس.

كُل هَمْ القائمين على هذه الحكومة نشر صور دعائية على صحف العالم تتحدث عن سرعة إنجاز ورقم قياسي يبزُّون فيه عالم أمريكا وأروبا.

وسكت أصحابي وهم يستمعون إلى محاضرة أرتيم إيفانوفيتش بصوتي وصورتي أمامهم ولا أعلم إن أكون قد أفزعتهم بعد أن أيقضوني من صُفُونِي.

إنتبهت إلى نفسي وصوتي قد إرتفع كأنما ألقي كلمة في الساحة الحمراء في حشود الطبقة العاملة المسحوقة.

أعربت لهم عن أسفي للإطالة والجرأة والقوة في طرح مثل هذه الأفكار. ولكنكم أيقضتموني من خلوتي وإستفزيتموني لسماع ما لا تريدون سماعه.

هذه الصروح التي بنيتموها على حساب الشعب العراقي ربما لرغبة في نفوسكم أولترضية الطغاة, لا تساوي عندي وعند أستاذي أرتيم إيفانوفيتش أفاكوف ولا حتى عفطة عنز!!!

بالنسبة لنا هذه ليست إنجازات علمية ولاصروح هندسية بل مَثَلُها مَثَلْ قبور الفراعنة وأطلال كسرى وأنصاب قوس النصر تنفع السواح فقط وتذكرنا بالطغاة الذين أمروا ببناءها على حساب شعوبهم لإعلاء أمجاد بنيت على أشلاء الفقراء.

فائدتها أما لتمجيد عنتريات الحزب والقائد أو قبور يتفرج عليها الناس في الأجيال القادمة ليلعنوا الحزب والقائد ومن بناها له.

لقد أمركم ببناء جسر خلال شهر أو يعدمكم.

نعم بنيتموه ولكن على حساب من؟؟

وبقدر كم من الفلوس وكم من أرواح البشر؟؟؟

كي تعبر عليه دبابات القائد لسحق الشعب متى أراد!!!

كل ذلك خوفا من لهيب السوط المسلط على ظهوركم!!!

يا أحبائي هذا ما تعلمناه في مدرسة أرتيم إيفانوفيتش أفاكوف وهذه هي الهندسة التي نعرفها.

خربت الجلسة وطار طعم العصير والقهوة ولعنت اليوم الذي قبلت فيه الجلوس مع الأصدقاء والتحدث في علوم البناء والسياسة!!!

بالطبع خسرت صداقة عميد كلية الهندسة في بغداد إلى الأبد بعد أن تعرفت عليه لساعتين فقط.

لقد قمت للتو بإنجاز هندسي وعلمي بحد ذاته, أن أعطيت درس مجاني بالعلوم الهندسية لأساتذة الهندسة.

وطز بالدكتوراه للمرة الثالثة لأنني طزَّيت بها مرتين من قبل مرّة في سوانزي عام 1973 وأخرى في مونتريال عام 1992ولذلك حديث آخر!!!

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

904 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع