سُنة العراق.. خيارات مفتوحة أم خيار مغلق؟ (1-2)

                                             

                          د محمد عياش الكبيسي

كانت جمعة الخيارات المفتوحة نقطة تحول في مسيرة الحراك السني، فبعد ما يزيد على أربعة أشهر من الاحتجاجات والاعتصامات لم يتمكن السنة من تحقيق أي شيء من مطالبهم، بل العكس حيث تمادت حكومة المالكي في انتهاك كل المحرمات الدستورية والأخلاقية وليس آخرها مجزرة الحويجة التي راح ضحيتها العشرات أو المئات من المدنيين العزل.

وبالرغم من ردات الفعل الغاضبة والتي قام بها رجال العشائر في الحويجة والمناطق المحيطة أو القريبة منها إلا أن غياب الموقف السني الموحد مع التواطؤ الدولي والشلل العربي في مقابل الدعم الإيراني المفتوح كل هذا شجع المالكي أن يتقدم بخطوات جريئة ليستفز ساحتي الاعتصام الكبريين: الرمادي وسامراء، والتي يدرك المالكي قبل غيره خطورة مثل هذا الاستفزاز، والتي قد تصل إلى إشعال الحرب الأهلية والتي لن يربح فيها طرف ولن ينجو منها أحد، وقد أشار هو بنفسه إلى هذه الحقيقة.
لكل هذا كان لا بد من الانتقال من استراتيجية المطالبة إلى استراتيجية المبادرة، بمعنى أننا وجهنا مطالبنا المشروعة للحكومة وانتظرناها أربعة أشهر دون نتيجة، والسياق المنطقي يقتضي الانتقال إلى الخيارات الذاتية التي يمكن لنا أن نواجه بها صلف الحكومة وصممها، ومن ثم كانت جمعة (الخيارات المفتوحة) كنتيجة منطقية لجمعة (حرق المطالب)، وهذا قد أكد بالفعل وجود رؤية واضحة وخطة عملية لدى اللجان المشرفة على الحراك.
طرحت اللجان عبر خطباء الجمعة والمتحدثين الرسميين كل الخيارات التي تقتضيها القسمة العقلية أو المنهج الاستقرائي (إسقاط الحكومة، الإقليم السني، التقسيم، المواجهة المسلحة) وللحقيقة فكل الخيارات الأخرى التي يقترحا أو يرددها بعض المتظاهرين مثل الجهاد أو إسقاط الدستور أو وحدة العراق.. إلخ لا تخرج عن تلك الخيارات وإن اختلفت ألفاظها وصيغها.
وبقراءة متأنية للمشهد نجد أن اثنين من هذه الخيارات، وإن اقتضتهما القسمة العقلية إلا أنهما من حيث الواقع لا يمكن اعتمادهما ضمن الخيارات المتاحة، وهما إسقاط الحكومة والتقسيم، أما التقسيم فإنه غير وارد بكل المقاييس، وليس مطروحا كفكرة جديرة بالدراسة أو النظر، وأما إسقاط الحكومة، فهو وإن كان هدفا مشروعا، بل وضرورة ملحة لإنقاذ البلاد، إلا أنه أقرب إلى استراتيجية المطالب، ولا يمكن أن يكون خيارا إلا في حالة واحدة وهي العمل على إسقاط الحكومة بالقوة، وهذا مضمن أصلا في الخيار الأخير (المواجهة المسلحة)، من هنا كان بيان مجلس علماء العراق أكثر دقة، حيث إنه حصر الخيارات في خيارين اثنين: الإقليم أو المواجهة المسلحة. من الواضح أن السنة لم يحسموا أمرهم بعد، فبينما تتجه سامراء وديالي بشكل واضح نحو الإقليم، يسود هرج وجدل في الفلوجة والموصل وكركوك وبمستوى أخف في الرمادي، بينما تسود حالة من الترقب في بغداد والبصرة وكل المحافظات التي لا يشكل فيها السنة أغلبية مريحة.
هذا الانقسام أو التردد هو الثغرة التي سيتمكن من خلالها المالكي أن يحاصر كل هذه الخيارات ويعمل على إبطال مفعولها واحدا واحدا، خاصة أن هذا الانقسام قد اتخذ طابعا تصفويا خطيرا واستخدمت فيه كل أدوات التسقيط والتشهير والاتهامات المتبادلة، وقد بات المالكي يراهن على هذا الانقسام أكثر من رهانه على منظومته العسكرية والأمنية.
الحقيقة أن هذا الانقسام لا يستدعي كل هذا الصراع لو وضع في سياقه الطبيعي، ولو تخلص المتنابزون بالألقاب من العقد والحساسيات الشخصية أو الحزبية الضيقة، ولننظر أولا في خيار المواجهة المسلحة كأحد الخيارين الرئيسين المطروحين على الساحة اليوم. يستند المقتنعون بهذا الخيار على مقولة منطقية أن ما بني على باطل فهو باطل، ولا شك أن الاحتلال باطل، والعملية السياسية التي أنتجها الاحتلال هي باطل كذلك بما فيها الدستور والانتخابات والبرلمان والحكومة، وبالتالي فمن الواجب العمل على إزاحة هذا الباطل وليس التعايش معه أو محاولة ترقيعه، لكن الذي يشغب على هذه المقولة أنها لم تتمكن من تشكيل توافق وطني حولها، فالشيعة محكومون بمنطق آخر لا صلة له بهذه المقدمات والاستنتاجات، والكرد هم أبعد عن هذا التفكير ولهم خصوصيتهم المعروفة، فلم تعد هذه المقولة إلا وسيلة لحرمان السنة من حقوقهم الطبيعية ضمن هذا الواقع المؤلم ثم العمل على جرهم إلى حرب مفتوحة مع المكونات الأخرى، فالشيعة والكرد لا يمكن أن يقبلوا بثورة مسلحة لتغيير النظام وسيقفون بوجهها كمكونات، وليس كأحزاب حاكمة أو مشاركة في الحكم، إضافة إلى هذا فهناك جملة من التساؤلات التي لا يمكن التغافل عنها: أولا: ما الذي يمنع دعاة الجهاد والمواجهة المسلحة من تنفيذ مشروعهم وأهلهم يتعرضون للذبح وهتك الأعراض وحرق المساجد والمداهمات والإهانات اليومية؟ فإذا كانوا يمتلكون القوة بالفعل لدفع هذا الظلم وتغير النظام فماذا ينتظرون؟
ثانيا: هل دعاة الإقليم يشكلون عائقا أمام المشروع الجهادي وهم لا يزالون في طور التنظير والتفكير؟ فلماذا الانشغال بهم عن مقاومة المالكي وجرائمه؟ وقد رأينا قبل أيام التعاطف الشعبي العام لدى جميع السنة، وبكل توجهاتهم مع العمليات التي قام بها رجال العشائر في الحويجة، وهذا يعني ببساطة أنكم أيها المجاهدون والمناضلون لو أنكم نزلتم إلى ميدان الجهاد بالفعل وأثبتم وجودكم فإن دعاة الإقليم سيصفقون لكم وسيصطفون معكم، فلماذا تستعجلون في استعدائهم وإضافتهم إلى قائمة الأعداء الطويلة، وهم ليسوا إلا مظلومين ومجروحين يفكرون بكل الطرق المتيسرة لصيانة دمائهم وحماية أعراضهم؟
ثالثا: إن دعاة الإقليم لم يرتكبوا أية جريمة سوى أنهم ومن وجهة نظركم ترون أن مشروعهم هذا سيؤول إلى التقسيم، وهم ينازعونكم في هذه النتيجة، ويقولون لكم: إن كان الأمر لنا فنحن لن نختار التقسيم، وإن كان الأمر لغيرنا فإنهم سيفرضون التقسيم سواء كنا في محافظات أو كنا في أقاليم، ولكن هل حمل السلاح لإسقاط النظام سيجنب البلاد التقسيم؟
إن كل الدلائل تشير إلى أن المواجهة المسلحة لن تكون مواجهة وطنية بين شعب ثائر وحكومة ظالمة، بل ستكون في البداية ثورة المكون السني على حكومة شيعية، وهذا يستدعي اصطفافا طائفيا وانقساما حادا، وبعد حرب ضروس وطاحنة ربما ستكون الأخطر في تاريخ العراق، فإنها ستؤول في أحسن الأحوال بالنسبة للسنة إلى تمكنهم من بسط سيطرتهم على مناطقهم واحتفاظ الشيعة بمناطقهم واحتفاظ الكرد أيضا بإقليمهم وهو ما يعني الانفصال التام والتقسيم الممهور بالدم، وهذا يعني أن دعاة المواجهة المسلحة هم الذين سيقودون البلاد إلى التقسيم المؤكد وليس دعاة الأقاليم. وإنه لمن الغريب فعلا أن تتخذ كلمة «التقسيم» كوسيلة لتنفير الناس من الإقليم، ثم في الوقت ذاته تستدعى كل الشواهد والقرائن على أن الإقليم لن يغير من الواقع شيئا، لأن الصلاحيات كلها ستبقى بيد حكومة المركز! هذا الكلام المتناقض نجده في خطابات السياسيين الرافضين للإقليم، لكن مما يؤسف له أن يكون مضمنا في بعض الفتاوى الدينية، فالدين يحرم على أهل السنة باستثناء الكرد أن يطالبوا بالإقليم لأن الإقليم لن يحقق لهم أية فائدة، حيث إن الدستور ينص بحسب الفتوى أن الحكومة المركزية لها الحق في اعتقال رئيس الإقليم! وأن أمن الإقليم سيكون خاضعا للحكومة المركزية، ومع هذا فالفتوى ترى أن الإقليم يعني التقسيم!
أما مبررات استثناء الكرد من هذا التحريم فهي لا شك تؤكد لدى المراقب والمتابع أن مثل هذه الفتاوى لم تنتج عن دراسة منهجية متكاملة ولا عن رؤية ناضجة، وكلنا أمل أن يتمكن علماء السنة بكل اختصاصاتهم أن يسدوا هذه الثغرة، وأن ينتقلوا إلى مستوى الاجتهاد الجماعي الجاد خاصة في المعضلات الكبرى والقضايا المصيرية، وهذا ما تسعى إليه اللجان المنظمة للحراك حيث تسعى لعقد المؤتمر الأول لعلماء السنة من كل التوجهات ومن العراقيين وغير العراقيين.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1583 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع