الاستاذ الدكتور عبدالرزاق محمد الدليمي
في العراق المحتل عدالة انتقالية ام انتقام سياسي؟
منذ 9 نيسان عام ٢٠٠٣، ورؤسنا تتصدع بالمصطلحات التي يسوقها على مسامعنا الاحتلال الامريكي البريطاني الغربي ناهيك عن زج عديد من المنظمات التي تعرف نفسها على انها ذات صفة دولية مستقلة الا انها في واقع ادوات تستخدمها الولايات المتحدة في تمرير ما خططت له لاحتلال البلدان وتعطيل قدرات اهلها ولذا لاحظنا تدفق كم من المنظمات التي رفعت شعارات واهداف ظاهرها مساعدة العراقيين في تخطي ما خلفه الاحتلال من دمار وقتل ونهب وتغييب وفي جوهرها تسويغ كل ماخططت له دول الاحتلال وتمريره على الشعب العراقي تحث يافطات العدالة والديمقراطية وحقوق الانسان وووو.
من اولى المنظمات التي دخلت العراق كان المركز الدولي للعدالة الانتقالية والذي نسق وعمل مع المسؤولين الحكوميين الفاسدين والعملاء ومع الفرية التي اطلقوا عليها كذبا المجتمع المدني في العراق، بحجة تقديم المشورة بشأن مختلف خيارات العدالة الانتقالية.
ورغم الانحياز الواضح لكل هذه المنظمات وتركيزها على ما يبيض صورة الاحتلال لاسيما دعائيا الا ان ما ارتكب من الحكومات الفاسدة والعميلة لغير العراق واهله لاحظنا ان هذه المنظمات اضطرت بالنهاية الى الاعتراف ان كل الخطوات وكل محاولات التجميل لم توفق في كبت جماح وغلو الطبقة السياسية الحاكمة التي جلبها الاحتلال من قعر التخلف الفكري والاجتماعي حيث اظهرت الدراسة التي نفذتها الشراكة بين المركز الدولي للعدالة الانتقالية ومركز حقوق الإنسان التابع لجامعة كاليفورنيا بيركلي، لإصدار أصوات عراقية، وهي دراسة معمّقة حول وجهات النظر العراقية بشأن العدالة الانتقالية بناءً على مقابلات مع شريحة واسعة من السكان، الذي نُشر في عام ٢٠٠٤، تخللها القيام بفحص أهلية الموظفين وتقديم المشورة بشأن عمليات الفحص الجارية وتبادل المعلومات حول تجارب البلدان الأخرى في هذا المجال. ويشير التقرير الى قيام المركز الدولي للعدالة الانتقالية بمراقبة تطبيق عملية اجتثاث البعث واجتمع مرارًا وتكرارًا مع كبار المسؤولين للتعبير عن مخاوفهم بشأن عيوب هذه العملية، مع التأكيد على أنه يجب تقييم الأفراد بناءً على الأعمال السابقة، وليس على أساس العضوية في الحزب.
كما قدم المركزالمشورة لمختلف الجهات الفاعلة المشاركة حول الملاحقات القضائية في محاولة لتعزيز استقلالية الاجراءات القضائية وضمان التقيّد بالمعايير الدولية لحقوق الإنسان وأثار المخاوف بشأن التدخل السياسي والخلل الوظيفي الذي أفسد عمل القضاء.
كما قدم المركز معلومات وتحليلات للمساعدة في تصميم وتنفيذ برامج جبر الضرر الفعالة ومناقشة طرق التعويض وصياغة التشريعات اضافة الى تشجيع المسؤلين العراقيين الجدد المعنيين على التشاور والتعرّف على تجارب البلدان الأخرى في عمليات البحث عن الحقيقة قبل اتخاذ أي قرارات لإنشاء مثل هذه الآلية ،وزيادة مشاركة المجتمع في أية هيئة مخططة للبحث عن الحقيقة.
لقد ثبت للقاصي والداني بما فيهم الادارات الامريكية المتعاقبة والحكومات البريطانية باعتبارهما المسؤلين عن احتلال العراق ان أحد المؤشرات المبكرة هو أن الديمقراطية العراقية الحديثة النشوء بعد الاحتلال تسير على السكة الخطأ، ويلازمها الفشل الفادح في تطبيق العدالة الانتقالية، التي اتخذت تسمية العملية السياسية.
ظهرت الفبركة المعروفة بالعدالة الانتقالية في تسعينات القرن الماضي، لتوصيف الانتقال من هيمنة الاتحاد السوفيتي على بعض الدول إلى الانظمة الديمقراطية، وسط وشرق أوروبا، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991 فضلاً عن تجارب شبيهة في بلدان أخرى في أميركا اللاتينية وإفريقيا مثل تشيلي وجنوب إفريقيا، ضمن ما عُرف بالموجة الثالثة للديمقراطية في العالم، مع ذلك، سبقت تجارب العدالة الانتقالية ظهورَ المصطلح الذي وصفها بنحو أربعين عاماً. نقطة البدء الأشهر بهذا الصدد هي اجتثاث النازية في المجتمع الألماني، بعد الحرب العالمية الثانية، لتسهيل الانتقال الناجح إلى مجتمع ديمقراطي يتجاوز الإرث القمعي للدولة الشمولية النازية..
في العراق تم تشوية العدالة الانتقالية واستخدم بديلا عنها ماعُرف بالعملية السياسية التي قامت، على نحو خاطئ، وافتراضات غير سليمة على اساس أنه لا يمكن المضي قدماً في بناء تجربة ديمقراطية رصينة، الا بتفكيك كل ما يتعلق بالدولة قبل الاحتلال البعثية، من خلال ممارسات السلطات للاساليب القمعية القسرية والفوقية، والتي تسبب بموجبها النظام الجديد تدميرالمجتمع وأعادَت تشكيله على أساس مقاساتها الأيديولوجية الضيقة، بدلاً من أن تكون انعكاساً مؤسساتياً لآمال المجتمع وطموحاته.
من هنا كان الكثير من الإجراءات التي قامت عليها العملية السياسية بعد عام 2003 لايتسق مع معايير العدالة الانتقالية، ان مشكلة العدالة الانتقالية في العراق، تكمن في تسييسها السمج على يد الجماعات السياسية، التي تولت الحكم لتُخرجها في آخر المطاف عن طابع العدالة الانتقالية، بأبعادها القضائية والقانونية والأخلاقية، وتحولها إلى أداة دائمة في الصراع السياسي ضد خصوم غيرحقيقيين ومُتخيلين.
على هذا النحو، تحولت هيئات مثل اجتثاث البعث وبعدها المائلة والعدالة مثلاً، إلى إحدى أدوات الانتقام الحكومي، ضد مجاميع وأفراد مختلفين في إطار صراع سياسي مفتوح، اعتمد عموماً في تحديد الذنب والبراءة، على نحو ضمنى وخطير، على معايير الانتماء الهوياتي للجماعات وليس على السلوك الفردي للأشخاص.لذلك برزت وترسخت مقولات هوياتية خطيرة في الحيز العام، قوضت معنى العدالة الانتقالية، هي في حقيقتها انعكاس معلن لسلوك وإيمان سياسي للجماعات الحاكمة وداعميها، التي عبرت عن التصنيف الهوياتي-الأخلاقي للجماعات، إلى الحد الذي أوصل البلد إلى حافة الانهيار وإشعال حرب أهلية جديدة بنهاية المطاف.
أسهمت حكومات ما بعد الاحتلال بتفكيك الكثير من الاواصر الاجتماعية وايذاء شرائح كثيرة ، من خلال العمل بمادة 4 إرهاب، وإجراءات اجتثاث البعث واستخدام القصف الجوى باستخدام براميل القنابل، التي كانت توقع ضحايا كثيرين بين المواطنين ألابرياء، فضلاً عن توظيفها خطاباً غير وطني، خطاب يعتمد الهوياتية التي سادت بعد الاحتلال ، اضافة الى وجود قضايا ما تزال من دون حل، لاسيما في تحول العملية السياسية، كتمثيل مؤسساتي مؤقت بديل للعدالة الانتقالية، واعتمادها اساس ودائم في إدارة الدولة وممارسة السياسة.
كان المفروض ان سيناريو العملية السياسية أن يكون مرحلة مؤقتة لاتتجاوز اربع الى خمس سنوات، أي أنها مرحلة انتقالية لنقل المجتمع والدولة، من مرحلة الاستثناء المضطرب إلى مرحلة الاستقرار النسبي، حيث تتولى مؤسسات الدولة العادية، بعد إعادة صياغتها على أسس ديمقراطية، إلى إدارة الحياة العامة. والذهاب نحو حكم مستقر وحياة ديمقراطية معقولة.
ما حصل في العراق هو عكس ذلك، إذ لا تزال العملية السياسية مستمرة منذ نحو 18 عاماً ولا يبدو أن لها نهاية في أفق الجماعات السياسية التي أشرفت عليها وأدارتها واستفادت منها، وعملياً حولت ترتيباتها الانتقالية إلى وقائع دائمة في الدولة، كما في المحاصصة الدينية والعرقية في اقتسام مناصب الدولة.
في الأصل، قُدمت هذه المحاصصة عند بدء العملية السياسية عام 2003 على أنها إجراء مؤقت لبناء الثقة بين الجماعات العراقية المختلفة تحت عنوان احترام التنوع وصولاً إلى وضع دائم ومستقر معياره الأساسي المواطنة المتساوية، وليس الانتماء الهوياتي. لكن على امتداد سنوات العملية السياسية، ترسخت المحاصصة الهوياتية واتسعت، عبر إضافة أنواع أخرى منها كالمحاصصات الحزبية والمناطقية، وحتى العشائرية أحيانا.
يعني استمرار المحاصصات القديمة وإضافة أخرى جديدة، تقويضاً فعلياً وقانونياً لمفهوم المواطنة المتساوية، التي لا يمكن تشكيل أي ديمقراطية حقيقية وفاعلة، من دون الاعتماد عليها معياراً وحيداً في منح الحقوق وبناء أي فكرة وطنية عراقية جامعة. فعبر إدامة تلك المحاصصات، وما يرافقها من صناعة أزمات وعداوات مستمرة يظل البلد رهينة انتقال سياسي دائم يعود بالمنفعة الانتهازية على الجماعات السياسية المهيمنة، وبضرر متواصل وفادح على المجتمع، لذلك فإن إنهاء العملية السياسية في العراق بداية الإصلاح.
771 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع