بقلم: لهب عطا عبدالوهاب
إقتصادي عراقي متخصص في شؤون الطاقة
التداعيات الجيوسياسية في العالم العربي وأثرها على أسواق الطاقة العالمية وقفة للتأمل والمراجعة
منذ بدء الأحداث السياسية التي طالت العديد من النظم العربية مع اطلالة عام ۲۰۱۱ ، والتي أفضت إلى زعزعة وتغير نظم راسخة فيما بات يعرف ( بالربيع العربي ) ، والعاملين في الصناعة النفطية يحبسون أنفاسهم خشية أن يؤدي ذلك إلى توقف أو انقطاع الإمدادات, نظرا للأهمية القصوى لدول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في تزويد العالم بالطاقة . إذ حذرت العديد من المراكز البحثية من مغبة أي انقطاع ممكن في الإمدادات ، لاسيما وهناك تجارب تاريخية لانقطاع الإمدادات في المنطقة العربية ، ماعزز من هذه المخاوف.
1- موقع الطاقة في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مقارنة بالعالم
تشير آخر البيانات المتاحة حسب ماهو مدرج في التقرير الإحصائي السنوي الصادر عن شركة بي بي ، أن الاحتياطيات النفطية المؤكدة في عام 2020 وصلت إلى 816 مليار برميل تستأثر المملكة العربية السعودية بحوالي ۲۰ ٪ منها . ووصل إنتاج المنطقة للسنة ذاتها إلى ۲۹ مليون برميل يوميا ، وهو ما يعادل أكثر من ثلث الإنتاج العالمي . وبخلاف العديد من الدول المنتجة للنفط ، فإن أغلب إنتاج المنطقة يتم تصديره للخارج وبنسبة تصل إلى 40 ٪ من حجم تجارة البترول العالمية .
ومن الخواص الأخرى التي تميز دول المنطقة هو احتفاظها بطاقة إنتاجية فائضة تتركز جلها في ثلاث دول من الدول الأعضاء في مجلس التعاون هي على التوالي كل من السعودية والكويت ودولة الإمارات . وقد مكنت هذه الخاصية من أن تلعب هذه الدول ، وعلى وجه الخصوص ، المملكة العربية السعودية ما بات يعرف في أدبيات الطاقة بالمنتج المرجح حيث يمكنها ذلك من تأمين الأسواق بالإمدادات المطلوبة في حال حدوث أي إنقطاع أو توقف مفاجئ إلى ذلك فإن الاحتياطيات في دول مجلس التعاون الخليجي تعد من الأرخص على الإطلاق من حيث الاستكشاف والتطوير والإنتاج ، إذ إن الكلفة الاجمالية لإنتاج برميل واحد من النفط في كل من السعودية والكويت والإمارات تتراوح بين 3 دولار للبرميل كحد أدنى إلى 5 دولار للبرميل كحد أقصى ، وذلك وفقا لتقديرات وكالة الطاقة الدولية.
2- أمن إمدادات النفط في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
إن الدور المهيمن لدول المنطقة كلاعب أساسي في سوق النفط العالمي لما تتمتع به من احتياطيات نفطية وغازية جعل من أمن الإمدادات فيها قضية محورية لسياسات الطاقة للدول المستوردة للنفط . فبالإضافة إلى درجة اعتمادها بشكل كبير على هذا المورد الاستراتيجي ، تتخوف الدول المستوردة من حدوث اضطرابات مادية قد تكبح التدفق الآمن للامدادات ما قد يحد من المعروض النفطي المتاح بما يفضي إلى ارتفاع مضطرد وكبير في أسعار النفط . وكلنا نتذكر ما أفضت إليه الصدمات الكبيرة في الأسعار في سبعينيات القرن الماضي من تداعيات على صعيد الاقتصاد الكلي للدول الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ، إذ لطالما تم ربط الركود والإنكماش الإقتصادي في هذه الدول ، بالزيادة المفاجئة في أسعار النفط ، لاسيما وإن قطاع المواصلات ، الذي يعد عصب الحياة في اقتصادنا المعاصر اليوم ، لازال يعتمد حتى يومنا هذا بشكل كبير على المنتجات المكررة من النفط الخام ( الجازولين والديزل ووقود الطائرات ) . ويرى العديد من المراقبين ، إن من أهم أوجه « أمن الطاقة » يتمثل في الحد من التوقف المفاجئ للإمدادات لاسيما للنفوط التي مصدرها دول الشرق الأوسط المشهود لها تاريخيا بأنها حبلى بالعديد من القلاقل والاضطرابات . وهو ما سعت إليه الادارات الأمريكية المتعاقبة بدءا بالرئيس نيكسون في منتصف السبعينيات من القرن الماضي ، إنتهاءا بإدارة أوباما الحالية ، من انتهاج سياسات تؤدي إلى تقليل الاعتماد على النفط الأجنبي المستورد بما في د ذلك النفط العربي ، من خلال تشجيع ترشید الاستهلاك والاعتماد على طاقات بديلة أخرى كالطاقة المتجددة ، دون أن يكتب لها النجاح المنشود .
الأزمات النفطية في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا 1951-2011
إن هذه الدعوات لتقليل الاعتماد على دول المنطقة لا تدعو للاستغراب ، اذ شهدت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا خلال العقود الماضية حروب وصراعات محلية وغزوات وثورات وأعمال إرهابية أدت في محصلتها النهائية إلى فقدان ملايين البراميل الإنتاجية وإلى حدوث تقلبات حادة في أسعار النفط . وكما هو موضح في جدول أعلاه ، فإن تأميم النفط الإيراني خلال الفترة ( 1951-1954 ) أو ما يعرف ب « ثورة الدكتور مصدق » أدت إلى خسائر تراكمية وصلت إلى 924 مليون برميل ، في حين أدى الغزو العراقي للكويت صبيحة الثاني من أغسطس / آب ۱۹۹۰ إلى خسائر كبيرة في الانتاج وصلت إلى أكثر من ۹۲۰ مليون برميل للفترة ۱۹۹۰-۱۹۹۱.
وترتب على الغزو الأمريكي للعراق في ربيع عام ۲۰۰۳ حصول خسائر تراكمية وصلت إلى أكثر من مليار برميل في نهاية عام ۲۰۰۸ . وتقدر الخسائر التراكمية في ليبيا بحوالي 300 مليون برميل وهذا الرقم مرشح للارتفاع اذ أن إعادة تعمير البنى التحتية المدمرة بعد ما ينوف على أربعين سنة من حكم القذافي ، ستأخذ وقتا طويلا .
بيد أن أمن الإمدادات في منطقة الشرق الأوسط ، هي ليس بهذه الصورة من القتامة ، رغم ما خبرته المنطقة من تطورات وأحداث دراماتيكية ، اذ حرصت دول الخليج العربي، على سبيل المثال ، على تلبية متطلبات السوق من الإمدادات لمقابلة الطلب العالمي على النفط ، ناهيك عن دورها كمنتج مرجح لامتصاص أي (صدمات) قد تصيب الإمدادات سواء تلك التي تتعلق بإمدادات المنطقة أو التي تعصف بالامدادات من خارج المنطقة.
ولابد من التشديد عند التطرق إلى التوقف والاضطراب في امدادات النفط ، إلى ضرورة التمييز بين الآثار القصيرة الأجل لذلك التوقف ، والتي تتمثل في الخسارة المباشرة في الانتاج وأثر ذلك على الاسعار في المدى القصير . وبين الآثار الطويلة الأجل لذلك والتي تؤدي إلى خسائر في الطاقة الانتاجية وإلى تراجع في الصادرات .
إن بعض هذه الاضطرابات, كتلك التي تحدث بسبب أعمال إرهابية لها تأثير محدود على إمدادات النفط العالمية رغم التغطية الإعلامية الكبيرة التي تحظى بها مثل هذه الاعمال . في المقابل ، فإن الاختلال في الامدادات جراء الصراعات الدولية والحروب الأهلية لابد من أن تأثر بشكل كبير على الامدادات النفطية على المدى الطويل أما العقوبات الاقتصادية الأحادية الجانب ، كتلك المفروضة من قبل الولايات المتحدة على جمهورية إيران الاسلامية أو العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي على وارداتها النفطية من سوريا . إن مثل هذه العقوبات سيكون لها أثر محدود على إمدادات النفط في العالم ، إذ يمكن للدول التي تخضع لمثل هذه العقوبات من تحويل الوجهة الجغرافية لنفطها الخام إلى وجهات جغرافية أخرى ، وهو ما تعمل عليه الحكومة السورية حاليا من توجيه صادراتها النفطية الأوروبية إلى الدول الآسيوية لاسيما الصين والهند . بيد أن تأثير ذلك على المدى الطويل على الطاقة الانتاجية لهذه الدول سیکون محسوسا إذ أن العقوبات ستعني حرمان البلد من انتقال التكنولوجيا الحديثة إليها بالإضافة إلى حرمانها من التمويل الدولي الميسر ، مثل القروض التي تمنحها المؤسسات المالية الدولية كصندوق النقد الدولي.
3-الآثار المباشرة للانتفاضات العربية على أسواق النفط
هواجس عدوى الانتقال : خامرت أسواق النفط العالمية مخاوف حقيقية من إمكانية أنتقال الثورات العربية التي انطلقت شراراتها الأولى في تونس إلى دول أخرى مجاورة ، بما فيها الدول النفطية . وقد أدى سقوط نظام مبارك في 11 فبراير ۲۰۱۱ إلى خلق حالة من عدم اليقين في الأسواق ، مع مخاوف من أن يؤدي ذلك إلى توقف الامدادات المارة عبر أنبوب السويس البحر المتوسط ( سومد ) وإلى غلق قناة السويس . وبالرغم من أن مصر تعد من المنتجين الصغار ، بید أن وجود قناة السويس التي تربط البحر الأحمر وخليج السويس بالبحر الأبيض المتوسط تسبغ عليها أهميه أستراتيجية أذ يجعلها حلقة وصل مهمة لتجارة النفط الخام والمنتجات المكررة . وقد عبر القناة خلال الأشهر العشرة الأولى من عام 2019 ، على سبيل المثال 1,990 مليون برميل يوميا منها أكثر من 60 ٪ أو ما يعادل 1,179 مليون برميل يوميا على شكل منتجات مكررة . في حين تدفق عبر خط سومد ما يربو على 1,15 مليون برميل يوميا . إلا أن المخاوف بحدوث توقف في شحنات النفط لم تدم طويلا ، إذ اتضح جليا للمراقبين أن المسؤولين هناك عاقدوا العزم على إبقاء قناة السويس مفتوحة أمام الملاحة الدولية .
إن الأحداث التي شهدتها مصر والتي بلغت ذروتها بإعلان الرئيس مبارك التنحي عن الحكم ، ، تعد بنظر العديد من المراقبين نقطة تحول في ديناميكية الانتفاضات العربية والتي قد تفضي إلى تساقط نظم عديدة أخرى كأحجار الدومينو, وخشية انتقالها إلى الدول النفطية المنتجة الرئيسة ، إلا أن الوقائع أثبتت أنها مخاوف في غير مكانها مع استمرار التدفق الآمن للإمدادات من دول الخليج العربية الرئيسية بما فيها إمدادات المملكة العربية السعودية والكويت ودولة الإمارات . والاستثناء الوحيد لذلك هو ما أصاب الإنتاج الليبي من شلل أدى إلى فقدان الأسواق نحو 1,6 مليون برميل يوميا من النفط الخام .
4821 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع