مصطفى محمد غريب
مقطع - مأزق المسرح المغلق
في المقهى المطلع على كورنيش المتنزه الحكومي كان في كل مرة يكتفي من النقاش السياسي ومناقشة الآراء والمعتقدات والاستنتاجات التي يتكفل بها عادة شلة من المعارف والأصدقاء ولا ينسى الآراء التي كانت تطرح حول السينما الامريكية وقياسها بالأفلام المصرية وكان المسرح العراقي له افضليات بما يحمله من معاني وطنية وإنسانية كثيراً ما كان التحيز لفرقة المسرح الحديث، تمر الأيام والاسابيع وقد مرت اشهراً على تلك الجلسات والمواضيع التي تطرح ولطالما كان يستاء من التدقيق في المواقف ويخاف من الآذان والعيون المتربصة التي تبحث عن ضحية ، لم يكن ذا حس يوصله إلى ذم الحكومة والدولة لأنه يعرف الخطوط الحمراء التي يراها خطوط حدودية لا يمكن تجاوزها بسهولة إلا أنه كان يبحث عن دور في مسرحية قادمة يمتاز فيها بالدور المهم والكبير، هبط عائداً فوجد رسالة بريدية ؟ غلاف اسمر سميك له خطوط بيضاء ، تفحصها متعجباً ، قال لنفسه بهدوء رمزي
ـــــ لم اتلق يوماً رسالة شبيهة بهذه الرسالة اللغز، قد يكون المأزق فيها قائم مثل جلاد يراقب ضحيته؟
الولوج للمأزق الممل مرض يجهض مرضاً مزمن، القلق سمة عصرية في زمن يعيش المرء مراقباً ومترقباً، كانت الحافة عبارة عن عمارة متنقلة تحمل ظنين التوجس من النزول كما هو مقل بهموم الصعود ، لم يحسب للوقت حساباً رياضيا بقدر ثقل الهموم التي تهاجمه اثناء نصف الليل ، هموم وهموم ليس لها حدود ولا تمهيد بمجرد أن يرفع راسه متفحصاً النافذة المطلة على الغابة حتى تعاوده قضية الحافلة والسفر ولطالما فكر كثيراً
ـــــــ كيف الصعود ثم كيف النزول والطريق مبعثر وطويل؟
لكنه يندرج بسهولة احياناً تحت قبضة من ظلمة يتخللها نور المصباح الحكومي عبر النافذة المطلة على الغابة
لم يعرف ولا يريد أن يعرف مقدار الألم وهو يركب فرس قلبه
ـــــــ كم من الألم وهو يهم بالصعود؟
كم هي اللحظات والثواني والدقائق والساعات والأيام والاسابيع والاشهر والاعوام سيان عنده المسافة في الزمن واللازمان غير المحسوب، سيان الافتراءات التي جابهها وهو متأبطاً رواية البريطاني لورانس داريل " جوستين الجزء الأول من رباعية الإسكندرية " يقبض عليها كلما أراد أن يراجع ما يريد في الجزء الثاني "بلتازار "، لورانس داريل وبتفصيل الرواية الى أربعة أجزاء، لم يكن لورانس داريل مثل جيمس جويس ولم يكن نجيب محفوظ قد توصل إلى منزلة الشد إلى الماضي عبر الحاضر والمستقبل كما فعل فرانز كافكا الكاتب التشيكي اليهودي الذي كتب اعماله بالألمانية كما هو الحال في "المحاكمة أو القضية" حيث ظللها بملامح القهر والظلم والعبثية حتى الوصول للعدمية وبالرغم من النشر الواسع والترجمات العديدة ووضعها في فيلم سينمائي لم توف حقها ولم يجر الكلام عنها بشكل كامل، ولم تكن روايته "المسخ " إلا عبارة عن تحول في التشبيه خلال نوم البطل حيث يستيقظ التاجر غرغور سامسا في إحدى الصباحات ليجد نفسه وقد تحول الى حشرة ولم تسعفه حركاته وبقى يحمل هذا المسخ على ظهره في اجترار متواصل والى رؤيا سريالية تكمن فيها اللامعقولية، لقد كانت الاطوار الغريبة في علاقة النفس عبارة عن مأزق في فصل مسرحي سريالي يجسد الاغتراب الاجتماعي والوجع والذعر والخوف حتى الشعور بالذنب التواصل في مشهد عبثي
قد تكون السنين مثل الثواني وهذا ما حصلت معه، وقد تكون ساعات الاعتقال سنين لا نهاية داخل ذهنه المتغرب ولها وقع مرير بما تسببه الاقفال أن تكون ثواني الغربة عبارة عن رصاصة الرحمة أطلقت على البقية الباقية من احاسيس جياشة بحب الجماعة وصولا للتفرد والانعزال وكأنهما المسافة القريبة للجماعية، كل فطنته بقت في مساحة لا حدود لها لكنها مقفلة وشتان ما بينها وبين امتداد الصحراء أو عمق المحيطات المالحة ، لم يستثني احداً في مضمار قلقه المتواجد في رحم ذكرياته يفيق فجراً ليأخذ طريقه نحو النافذة تدفعه رغبة جديدة في الوثوق بمن يراه عبر الزجاج اللصيق بوجه الاطار الخشبي كل فجر للزجاج رؤيا وتبصر وحذلقة في تغيير المشهد ولا يتذكر يوما أن شاهد المشهد نفسه في الفجر التالي ، كانت الرسالة البنية تتقلب بين أنامله وهو يتسلق السلالم الضيقة التي تؤدي إلى باب الشقة اليتيمة ، فكر ملياً
ـــــــ من أين هذه الرسالة ؟
ـــــــ ولماذا في ظرف بني وليس ابيض؟
عندما يقدم على التعقيب يراقب الغسق وينتهي في التدقيق حتى وصولاً إلى نهاية الشارع الفرعي وبمجرد أن فتح باب الشقة الخشبي ذو اللون البني تطرق لمعنى الظرف البني والباب البني ومساحة سقف الشقة البنية وبمجرد الولوج إلى عمقها حتى سمع صراخاً له صدى رنين أجراس لكنيسة مهجورة وتوغل لون بني إلى أعمق اعماقه وتلونت احاسيسه عندما لامس وجهه هواء الشقة البارد شعر بوخزة تشبه لسع الدبور فتوهجت أطراف وجنتيه ودارت حوله دوائر حلزونية أفاق منها وهو يهز الظرف البني توقف متداركا التخلص من فضوله كي يعود إلى موقعه المتشابه في المقهى بينما كانت مغادرته طوعية جعلته وهو واقف تحت ظل السقف بأمان
ــــــ للرسالة معنى واحد يرتبط بما كان يعتقده قبل وصولها
المسرح عنده بمثابة ضوء ينبعث من داخل جسده ولا يمكن لأي سياج أن يمنع عشقه المثلي له، التقط السكين الحادة وعالج الظرف بهدوء فانبعثت رائحة الورق البني طرية رطبة ، كانت أجفانه ثقيلة ومفتوحة للنصف وهو يقرأ السطر الأول
" السيد موسى ندعوك لحضور اللقاء مع المخرج والمنتج والقسم الثقافي لمسرحية ( الباب المغلق) اللقاء موسوم بقدرة الاتفاق على الدور وامكانياتك التمثيلية ودراستك في معهد الفنون الجميلة ثم سفرك إلى المانيا الديمقراطية برلين وفي براغ عاصمة جيكسلوفاكيا"
بهت في بداية الأمر وتنفس رائحة من شواء وضع على منقلة حديدية مملوءة بالفحم الخشبي، وضع عجزه على الكرسي الهزاز القديم
ـــــــ هل سيتحقق حلمه؟
تدارك
ــــــــ قد تكون تجربة التدقيق في مستواه العملي والأكاديمي في برلين ودراسته في براغ
دقق المكتوب " الموعد يوم الثلاثاء المصادف 22 / أيلول من السنة الحالية ، الساعة السابعة مساء"
سافر خياله إلى نوع اللقاء وأهميته لأنه سيكون المفتاح الأول لباب أُغلق منذ فترة تحت طائلة من العلاقات الخاصة التي لعبت دوراً سلبياً في اظهار امكانياته التي يعتبرها ذو قيمة ثقافية ، والاختيار الذي وقع على صاحبهم كان استدلال على تلك العلاقات الأنانية الضيقة والعلاقات الضيقة التي تعتمد أسلوب الاقربون أولى بالمعروف بدون التدقيق في الابداع وافضلية الوعي الثقافي المسرحي
ـــــــ أبعدوك واعطوه الدور مثلما قلت لك ستعود بخفي حنين كما الاعرابي
وشوشت في أذنه صديقته الشخصية سامية، تذكر ذلك وعابها على قولها وتوقعها لم تكن متفائلة وهي عادة لئيمة لأنها لم تحصل على مكانته الأدبية وبقت محصورة في إطار دائرة النقد السلبي ومن الرؤيا التفاؤلية ولم تكن متقدمة في التمثيلة التلفزيونية "وباء المدينة المغلقة" وبخاصة أدائها الذي كان يشبه الخطابة الحماسية ومنها فقدت أي دعوة ما عدا البعض من الأدوار الصغيرة وعللت ذلك بموقف العائلة من التمثيل وهو موقف عدائي من قبل دائرة التلفزيون أو أكثرية الرجال العاملين في مجال المسرح والسينما والتلفزيون ولهذا جاءوا بـ مقداد واعطوه دور المراة التي يستشهد أولادها مصورين الشاعرة الخنساء وموقفها المعروف بينما سامية وغيرها ركنوهن على رف المواقف الفكرية الذكورية كما هي العائدة في البقية الباقية.
دقق الجملتين الأخيرتين فلم يحظ بشيء مهم ما عدا التمنيات بالنجاح.
هدأ قليلاً وراح في سفرة من الخيال في سريالية أوصلته التدقيق بمواقف المخرج والبعض ممن عمل معهم وهي اعمالا لا تذكر
ـــــــ انت تعرفين ادراكي لهذا المحيط المأفون الذي بني على الانانية والحسد والتسابق من اجل الشهرة وهو مرض يلازم أكثرية المسؤولين الذين يحتكرون الاعمال لأنفسهم ولدائرتهم الخاصة، لكنني متأكد أنني أستطيع تحطيم هذا الحاجز الزجاجي.
ضحكت بسخرية مبطنة
ـــــــ على الله ويا زجاجي
شعر بنوع من الاعتداد النفسي وهو أول بارقة لحماسه وتفاؤله، لم يكن في يوم من الأيام مقتنعاً أنه سوف يجتاز موقعه في المقهى الذي يحاصره ويضع عليه شروط الذهاب والجلوس وكم من مرة وجد نفسه رافضاً الذهاب لكنه في آخر المطاف تنتصر الرغبة الخفيفة وتهزم الرفض قالت سامية
ــــــــ لن تكون نجماً في مكان أنت تعرفه هنا ليس مصر أو سورية حتى تحلم أن تكون نجماً وبطلاً فجميع المواقع محجوزة
لا مبالياً رد باقتضاب
ــــــ والابداع يا سامية جمال
اجابت سامية بدلال
ــــــــ تسخر، على الله يا ابداع أفندي
وضع الظرف البني على الطاولة الصغيرة كي لا ينسى الموعد، الموعد مهم للغاية ، خلع ملابسه وارتدى بجامته الحمراء المنقطة باللون الأبيض يحبها بجدية لأنها تشبه بجامة نجم سينمائي لا يتذكر اسمه ، مرّ على الحمام كان الماء دافئاً فاغتسل وعاد مبكراً إلى الثلاجة الصغيرة ثم سحب قنينة الفودكا الروسية وهنا شعر بنوع من الارتياح دافعاً قلقه الى خارج الشقة
ـــــــ غداً سيكون اليوم الحاسم وسنرى يا سامية جمال أن لناظره قريب
ببطء رشف من فم القنينة لم يحث نفسه على جلب الليمون الأخضر وقطعة الدجاج الكنتاكي الباقية من الظهر همهم مع نفسه لم أنسى لكني اود الانتقال إلى الضفة الأخرى فضفتي الحالية لا تعي الإيجابي من تدفق الأفكار وهي سلبية تنتظر أن اركب القلق وادقق واستنتج عما سيحدث غداً ، حر ك رأسه واتجه الى الثلاجة ثم اخذ صحن الليمون الأخضر المقطع وانتزع قطعة الكنتاكي من علبة الكرتون ومرّ على الخزانة الصغيرة وملئ الكاس الزجاجي ثم جلس على الكرسي والاغراض على الطاولة الخشبية التراثية ، طاولة اشتراها من محل لبيع الأثاث القديمة ولقدمها لقبها بالطاولة التراثية
ــــــــ لماذا لا قد تكون مصنوعة في القرن الثامن او التاسع عشر انظروا الى القوائم والسطح الاملس اللماع كأنها مرآة تنقل الوجوه مباشرة.
صب لنفسه كاساً ثم عبأ جوفه وسارع لمص قطعة مقطعة من الليمونة الخضراء اما الكنتاكي فقد اجلها الى ما بعد الكاس الرابعة.
سرح في عالم مموه حاول سبر اغواره عن طريق المزج الهلامي ما بين ما هو واقعي وغير واقعي، منطقي وغير منطقي، سليم وغير سليم، وتدفقت الأفكار كزوبعة على مكان هادئ أحس انه في وضع لا يستطيع ان يواصل الشرب واكتفى بالكأس الرابعة وحمل نفسه بجهد والقى بجسده على السرير وهو في حالة من التعب الشديد وغط بشكل سريع...
فز على نوع من الدق القوي على باب الشقة فحمل نفسه نحو الباب ولم يكد الوصول حتى فتح الباب على مصرعيه ودخل منه مجموعة من الأشخاص الملثمين أحدهم طويل القامة له شاربين غليظين واضعا على عينيه نظارة شمسية سوداء تقدم نحوه شخصين مسلحين قال أحدهم
ـــــــ تفضل معنا
تملكه خوف وتوجس، اضطرب وهو يسألهم
ــــــــ من أنتم ؟
قال صاحب الشاربين الغليظين
ـــــــ ستعرف
الرحلة في السيارة كانت طويلة والطريق متعرج وضيق وظل ينازع أفكاره بعدما أحس انهم من جهة امنية لها سلطة مطلقة، توقفت السيارة امام مبنى قديم انتبه لصوت بعيد ينادي عليه افاق من نومه كان الصداع قد اخذ منه مأخذا وعرف انه كان يحلم عاد الى الاستلقاء وغط مرة أخرى في نوم متقطع في وسط غابة مظلمة..
ـــــــ غداً اليوم الموعود والفاصل في الحدود
كان الصوت منخفض يخرج من جب عميق لا قرار له، يشبه لحناً خشناً ذو توجه امري كما الحال في مسرحية مكتظة بالمشاهدين لم يتمالك نفسه وصاح كأنه كابوس يجثم على صدره، غداً لن يكون المسرح مغلقاً، حتى لو تأزم المخرج وفقد توازنه ، كانت جنحاه ترفرفان فوق سطوح مدينة نائية..
4082 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع