أحمد الكناني
الشخصية العراقية و رواسب الهجنة الإيديولوجية
بداية لابد من توضيح ما نعنيه بمصطلح (الهجنة الإيديولوجية) ، مع بيان طبيعة الاختلاف الذي يميزه عن نظيره مصطلح (الهجنة الثقافية) المستخدم بكثافة في الدراسات الحديثة المعنية بثقافات وهويات ما بعد الاستعمار ، والتي يعد المفكر الهندي (هومي بابا) من أبرز منظريها وأشهر روادها ، لاسيما من خلال كتابه الموسوم (موقع الثقافة) . وعليه فان ما نقصده بالمصطلح الأول هو ذلك (الخليط) المتنافر من الاعتقادات المختلفة و(المزيج) المتنابذ من الإيديولوجيات المتباينة ، التي تجتمع في وعي الإنسان بكيفية تلفيقيه سواء كان مدركاً لهذا الأمر أم لم يكن مدرك وهو ما يوسمه بمظاهر التذبذب في الانتماءات السياسية والتقلب في الولاءات الإيديولوجية وفقا لتغير الظروف وطبقاً لتنوع المصالح ، هذا في الوقت الذي لا يشعر فيه – جراء ذلك – بالحرج النفسي أو التأنيب الأخلاقي مما يقوم به من أفعال أو يقدم عليه من مواقف . أما ما يذهب إليه مقصدنا بالمصلح الثاني ، فهو يقتصر – من وجهة نظرنا المتواضعة – على معاني ما بات يعرف في أدبيات العلوم الاجتماعية والإنسانية (بالتعددية) في مجال (الثقافات) و(الهويات) ، في إطار المجتمعات المعاصرة التي تعرضت جماعاتها السيسيولوجيا ومكوناتها الأنثروبولوجيا لتيارات العولمة وموجات ما بعد الحداثة .
وهنا تطرح بعض الأسئلة ؛ هل يا ترى إن هذه الظاهرة مقصورة على شخصية الإنسان (العراقي) وحده دون سواه من بلدان العالم الثالث ، أم أنها شائعة بين أفراد وجماعات هذا النمط من المجتمعات المبتلاة بالانقسام على صعيد الاجتماع ، والتشظي على صعيد التاريخ ، والانشطار على صعيد الثقافة ، والتذرر على صعيد الهوية ، والاحتراب على صعيد الدين ؟! . وإذا ما كان جوابنا أنها وان كانت ظاهرة شبه عامة في مثل هذه الأوساط المجتمعية الموبوءة بطفيليات التخلف الحضاري ، إلاّ أنها لا تظهر بهذه الحدة في الوعي ولا تتجذر بهذا العمق في السيكولوجيا ، مثلما نلمسها لدى شخصية الإنسان العراقي للحد الذي يمكننا اعتبارها بمثابة سمة صفة من سماته صفاته ، لا تبارحه أو تفارقه كما لو أنها جزء حيوي في تكوينه الجيني والثقافي ، فهي وان فارقته في بعض الأحيان على مستوى المعلن من القول الخطاب لدواعي براغماتية وانتهازية (نفعية) ، بيد أنها رفيقه الدائم على مستوى المخفي من الفعل الممارسة لدواعي سيكولوجية عميقة وإيديولوجية متجذرة .
والحال انه إذا كان الأمر على هذه الشاكلة ، فما هي تلك الأسباب والدوافع التي جعلت من الإنسان العراقي يغدو ، ليس فقط كحاضنة نموذجية لمثل تلك الرواسب الأسطورية والمخلفات التاريخية ، بحيث يكون حريصاً كل الحرص على ديمومة وجودها وتوريث قيمها عبر أوليات وديناميات (المجايلة) بين أسلافه وأخلافه . بل وكذلك حملته على أن يصبح كينونة تتمتع بممانعة ذاتية قوية إزاء كل ما قد يعرّض ذلك الوجود وتلك القيم لعوامل النقد والتفكيك والزحزحة ، للحد الذي يبقيها ناشطة في ترسانة مخيله الممثل وفعالة في مطمور لا وعيه المؤسطر ؟! .
وفي هذا الإطار ، فقد تعددت الإجابات وتنوعت المداخلات بين المؤرخين وعلماء الاجتماع والنفس والانثروبولوجيا ، كل بحسب نوع تخصصه ونمط ثقافته ومستوى وعيه وطبيعة إيديولوجيته ؛ فمنهم من اعتبر إن الميل الذي تتميز به الشخصية العراقية نحو مظاهر (الجدل) و(المنافكة) والتي تعبر ، في العمق ، عن خصائص (الفطنة) و(الذكاء) ، هي من يقف خلف وجود هذه الظاهرة ويمدها بمقومات البقاء والديمومة ويشحنها بديناميات الفعل والتأثير . هذا ما ذهب إليه – على سبيل المثال لا الحصر – الفيلسوف والمؤرخ الشهير (الجاحظ) ومن الذين تأثروا به وشايعوه في رأيه من المؤرخين المعاصرين له واللاحقين عليه . هذا في حين اعتبر بعضهم الآخر – وهنا يتبؤ عالم الاجتماع الكبير (علي الوردي) مكان الصدارة – إن أسباب تلك الظاهرة تنبع من أتون الصراعات المستديمة ما بين (البداوة والحضارة) ، وان مستوى ظهور وشدة طغيان هذه أو تلك يعتمد على أوليات المد والجزر بينهما وفقاً للظروف القائمة والسياقات السائدة ومن منطلق الإقرار بتنوع مصادر هذه الظاهرة وتشعب مكوناتها ، فقد أضاف المؤرخ العراقي (سيار الجميل) إلى عناصر (ثنائية الوردي) عنصراً مهماً ثالثاً(الريف) ، لتصبح معادلة (البداوة – الريف – الحضارة) هي الصيغة الجديدة التي تحكم قبضتها على نوابض الشخصية العراقية معتبرا أن حضور علاقات الريف الأبوية وتأثير تصوراته العصبية في منظومة الوعي الجمعي العراقي ، لا تقل أهمية عما تفرزه وتروجه مظاهر (البداوة) و(الحضارة) المهيمنة على جدليات ذلك الصراع ، وهو ما أبدى الموافقة عليه واستحسنه (الوردي) ، كما أشاع (الجميل) في أبحاثه ومحاضراته الكثيرة .
وفي سياق تحديد العوامل وتشخيص المؤثرات المسببة لهذه الظاهرة ، ذهب البعض الثالث من المؤرخين والباحثين إلى أن المسؤول عن هذه الوضعية المأزومة للشخصية العراقية ، يكمن في كونها سجينة لقيود (أنساقها الثقافية) ورهينة لسلطان (أعرافها القيمية) ، وهو ما يبقيها محشورة بين خوانق هذه وتلك دون أمل بالخلاص ، ويجعلها بالتالي كينونة عاجزة عن الإفلات من إسارها . وهنا يعتبر المؤرخ العراقي المعاصر (سلمان رشيد محمد الهلالي) الأستاذ في جامعة ذي قار من أبرز المدافعين عن هذه الأطروحة وأكثرهم إنتاجاً وأعمقهم تحليلاً.
وعلى الرغم من ضيق المساحة المسموح بها في هذا الحيز ، فان من المفيد الإشارة – باقتضاب شديد – إلى جهود البعض الرابع من الباحثين والأكاديميين ، ممن شددوا على مسؤولية الخلفيات السياسية والاجتماعية والنفسية التي شهدها المجتمع العراقي على مدى تاريخه القديم والحديث والمعاصر ، في اتسام الشخصية العراقية بهذا الطابع الملتبس في الوعي والإشكالي في السيكولوجيا . حيث تبرز أسماء كل من عالم الاجتماع العراقي (إبراهيم الحيدري) في ثلاثيته المخصصة لإعادة قراءة تاريخ الشخصية العراقية وبيان مآزق هويتها تحليلاً وتأويلاً من جهة ، وعالم النفس العراقي (قاسم حسين صالح) في أبحاثه السيكولوجية ودراسته السوسويولوجية ، وهو يستعرض من خلالها طبيعة الشخصية العراقية ابتداء (من السومرية إلى الطائفية) ، حيث تستوطن السرديات الأسطورية حقل التاريخ من جهة ، وتهيمن الإيديولوجيات الطوباوية على مضمار الوعي من جهة أخرى .
714 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع