د. سعد ناجي جواد*
الفساد المستمر والمتكاثر في العراق: مآسي ووقائع يشيب لها الولدان
لا اعتقد ان تاريخ العراق الحديث، وحتى القديم، قد شهد طغمة حاكمة فاسدة ملوثة تستطيب السحت الحرام كالتي سلطتها الولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا وتبنتها ايران ودول جوار اخرى منذ عام 2003. لا بل يمكن الجزم بانه لم يحدث ان وصلت طبقة حاكمة متكاثرة الى هذا المستوى المتدني من اللاشعور بالمسؤولية والشغف بسرقة المال العام وخالية من كل قيم اخلاقية او رادع ديني او غيرة وطنية كالتي فرَخها الاحتلال وما تلاه. قد يقول قائل ان هذا التعميم قاسٍ جدا، ومن سيقول ذلك اما من المنتفعين، سواء كان من العراقيين او من جنسيات اخرى، او مدفوع بدوافع اخرى، او الذين يصرون على ان يصموا اذانهم عن فضائح الفساد المستشري والمتكاثر الذي بدات قصصه تملا وسائل التواصل الاجتماعي. وفي كل يوم يصحو الناس على افلام وتسجيلات صوتية جديدة لصفقات واعترافات بسرقات ل (سياسيين) يشغلون مناصب رسمية او متنافسين عليها، او متكالبين على تشكيل الحكومة القادمة المتعثرة منذ اكثر من عشرة اشهر. ولم يحدث ان اصبح تقاسم الوزارات بين الاحزاب المشاركة في العملية السياسية، وبيع المناصب الوزارية والعليا عرفا سائدا، او ان تتصف كل الاطراف التي شاركت وتشارك في العملية السياسية، وبدون استثناء، بهذه الصفات المخزية. ولم يحدث ان سكت او وقف القضاء العراقي المعروف بتاريخه المشرف، موقف المتفرج على ما يجري من سرقات للمال العام، ولا على تكاثر الفاسدين في داخله. ولم يحدث ان استطاع الفاسدون شراء هذا الكم الهائل من ذمم عامة الناس، بحيث لا تزال اعداد لا باس بها تخرج في كل انتخابات لكي تصوت لنفس الوجوه الكالحة، او تدافع عنها او تعبر عن استعدادها لكي (تفديها بارواحها). سيقول البعض ان نسبة هولاء لا تتجاوز 20% ولكن حتى هذه النسبة تعتبر كبيرة في ظل الاجواء الماساوية التي تعيشها نسبة عالية من العراقيين، بل وحتى من الناخبين انفسهم.
من كان يعيش في العراق او وسط من كانت تطلق على نفسها (المعارضة في الخارج) يعلم جيدا كيف كانت قبل الاحتلال احوال المشاركين في العملية السياسية اليوم، اقزامهم ورؤوسهم، وحالة الفقر المدقع الذي كانوا يعيشونها، (وهذا ليس عيبا بالنسبة للمناضلين الحقيقيين)، وكيف انقلب حالهم الى اصحاب مليارات ومن العملات الاجنبية، واصحاب طائرات خاصة واملاك وقصور وارصدة كبيرة جدا في العراق و في ارقى العواصم العربية والاجنبية. وهذا ليس حال القيادات فقط وانما حتى الاتباع ومنهم اميون وجهلة ومجرمون سابقون. بل وامتد ذلك الى من يعتبرون انفسهم رجال دين مهمتهم، كما يدعون، نشر الفضيلة في المجتمع والترويج لمكارم الاخلاق بين الناس وبالتأسي بحياة الرسول الكريم ﷺ واله وصحبه الاطهار. وهذا ليس بالغريب بعد ان حرص الاحتلال ومن جاء معه على تجهيل المجتمع ونشر كل ماهو متخلف داخله. ولم يصبح غريبا ان يشاهد الناس العديد من المشاركين في العملية السياسية الذين يعيشون في الخارج بملابس غربية حديثة، وهم يقومون باستبدال ملابسهم المدنية بجبة وعمامة في حمامات المطارات ليستقلوا الطائرات الى العراق.
طبعا العتب ليس على البسطاء الذين يخدعهم الفاسدون ولا على المنتفعين من حالة الفساد، ولا على رؤوساء الحكومات الذين ادمنوا الاستئثار بالسحت الحرام وغضوا الطرف عن وزرائهم الذين يحملون نفس صفاتهم السيئة، ولا على البرلمانات المتتالية التي احتوت على نسبة لا تقل عن 99% من الفاسدين في داخلها، بدليل انه لم يتم رفع الحصانة عن نائب فاسد واحد منذ ان عقد اول برلمان عام 2006 وحتى الان، وانما العتب كل العتب على القضاء العراقي الذي فشل لحد اللحظة في احالة فاسد كبير واحد للمحاكم لينال جزاءه العادل. ورغم كل ما ينشر من تقارير دولية عن حجم الفساد لم يقم الادعاء العام ولو بجهد بسيط لفتح تحقيق، او على الاقل للتاكد من التسجيلات المسربة لفاسدين كبار. حتى الحادثة المصورة التي ظهر فيها وزير سابق وهو يحلف يمين الولاء لنائب في البرلمان وعده بان يجعل منه وزيرا، ويتعهد له بان يُسَخِر كل امكانيات الوزارة لخدمته اذا ما تسلم المنصب، ولم ياخذ القضاء التدابير العاجلة لمعاقبة الوزير السابق او النائب، (المضحك ان اليمين الذي تلاه من اصبح وزيرا فيما بعد ويده على المصحف الكريم تضمن عبارة: واقسم بشرفي وبمعتقدي ومبادئي؟؟). وكدليل على فساد الموسسة البرلمانية لم يتخذ رئيس البرلمان الاجراء الاعتيادي وهو رفع الحصانة عن ذلك النائب واحالته للقضاء. وهو نفس النائب الذي سُرِبت عنه مقاطع فديو اخرى تثبت سرقات له من ميزانية المحافظة التي ينتمي اليها، (نقل عن احد العالمين ببواطن الامور ان ذلك النائب قال اذا سحبوا عني الحصانة فسافضحهم جميعا!). وليس هذا الامر المستغرب الوحيد، فالقضاء برأ فاسدين، وفي جلسات لم يتجاوز امدها النصف ساعة، صدرت بحقهم احكاما مشددة، كي يعاودوا نفس ممارساتهم السابقة. والكل يعلم كيف حصلوا اولئك على احكام بالبراءة، وما هي الصفقة التي تم بموجبها اسقاط التهم عنهم. كما تم تهريب مسؤولين اخرين حُكِمَ عليهم بقضايا فساد كبيرة جدا، وتم القاء القبض عليهم من قبل الشرطة الدولية (الانتربول) واعيدوا الى العراق، كي يتم تهريبهم من قبل رؤوساء وزراء ووزراء ومتنفذين في الحكومات المختلفة. اما الارقام التي تُذكر او تُعلن عن حجم الفساد فهي مخيفة ومرعبة وبالمليارات. ولا يحاول اي شخص ان يتهم مكون ويبريء اخر، فكل ممثلي المكونات وخدمهم مشاركين بهذا الفساد دون استثناء. وحتى مسؤولي الاوقاف الدينية ولكافة المذاهب والاديان، مشمولين بذلك. لقد تم سرقة وتبذير ما لا يقل عن ترليون دولار من اموال العراق منذ عام 2003 ولحد الان، والعملية مستمرة. لا بل ان اطراف العملية السياسية بداوا يتفننون في فتح ابواب جديدة للفساد، ويضفون عليها صفات قانونية ويجدون لها تبريرات شرعية ودينية. فمثلا افتت شخصيات دينية كثيرة بان الثروة النفطية ووارداتها وكذلك املاك الدولة تعتبر (مجهولة المالك) وبالتالي فان الاستئثار بها (سرقتها) حلالا او ليس حراما.
من بين اساليب التفنن في سرقة المال العام، يتم بين الاونة والاخرى اصدار قوانين في ظاهرها انها للصالح العام وفي حقيقتها انها خطط لعمليات سرقة منظمة، مثلا تم موخرا تخصيص مليارات الدولارات لبناء مدارس جديدة، ولحد الان لم تنجز بناية واحدة. وتم تخصيص مليارات من ما هو مخصص لقانون الامن الغذائي بدعوى تحسين الطاقة الكهربائية، ولا يزال العراقيون يعانون من شبه انعدام لتلك الطاقة وفي هذا الصيف الملتهب، ومثل هذه المشاريع بالمئات، وهذا ليس غريبا حيث ان العراق ربما يكون الدولة الوحيدة في العالم التي تسلم مبلغ 80% من قيمة اي مشروع يتم التعاقد عليه وبدون اية ضمانات، ولهذا فان الكثير من الشركات، التي هي واجهات لسياسيين فاسدين، تتسلم المبالغ ولا تظهر ثانية بعد ذلك، او يتم اكتشاف انها شركات وهمية. اما احدث واكبر قانون يشرعن الفساد هو ذلك الذي اطلق عليه اسم (قانون الامن الغذائي) الذي خصص له مبلغ هائل (26 مليار دولار، وهو مبلغ يعادل ميزانيات دول في عالم اليوم)، بدعاوى تامين المواد الغذائية للعراقيين، على اساس انها اصبحت شحيحة عالميا بعد حرب اوكرانيا، وان الامر يتطلب اجراءات سريعة وفعالة لتامين الحصص التموينية للعراقيين، والان ظهر ان هذا المبلغ يجري التلاعب به بطرق لا تمت بصلة لحاجات المواطنين الغذائية. وهذا الكلام صدر عن وزير المالية (الذي استقال موخرا). ما يثير السخرية والالم في آن واحد، ان البرلمان الذي فشل لحد الان في عقد جلسة مكتملة واحدة لتشكيل الحكومة الجديدة بسبب خلافات حادة بين الكتل في داخله، وصلت الى حد التهديدات المتبادلة بالتصفية الجسدية، انعقد بكامل نصابه لكي يقر (قانون الامن الغذائي) هذا، ولم يلتئم بعد ذلك. واخر ابتكارات مجلس النواب في مجال فتح ابواب جديدة للفساد او التستر على الفاسدين من اعضاءه هو اصداره (قانون اتحاد البرلمانيين العراقيين)، والذي سيتم بموجبه تشكيل اتحاد يضم كل البرلمانيين السابقين واعضاء مجلس الحكم والجمعية الوطنية التي شكلها بريمر. وبرواتب ومخصصات جديدة، ولكي يستمر فسادهم بتغطية قانونية ورسمية. كما نص القانون الجديد العجيب على تشكيل ادارة جديدة لهذا الاتحاد، كي تُملأ بموظفين لا حاجة لهم ، وفي وقت لا يجد حملة الشهادات العليا وظائف لكي يعيلوا انفسهم وعوائلهم. اما الاسباب الموجبة لاصدار هذا القانون فهي كما ورد في نصه لكي (يتم الاستفادة من خبرات وكفاءات هولاء النواب السابقين!)، والذين اثبتت التجربة ان غالبيتهم العظمى لم يكن لديهم اية خبرة او كفاءة سوى كفاءة سرقة المال العام، والله وحده يعلم ما هي الميزانية التي ستخصص لهذا الاتحاد. (بالمناسبة تم اقرار هذا القانون دون الاعلان عنه).
في مقابلة تلفزيونية قبل ايام، وعندما قيل لي ان عجز الحكومة عن فعل اي شيء هو بسبب ان البرلمان معطل ولا يستطيع ان يقر الميزانية السنوية، قلت ربما من نعم الله على العراقيين هو هذا التعطيل، والا فانه في ظل هذا الفساد المستشري سيذهب كل الفائض المالي الذي حصل عليه العراق موخرا بسبب الزيادة في اسعار النفط العالمية الى جيوب الفاسدين كما ذهبت المبالغ التي سبقتها.
الله وحده يعلم كم سيطول انتظار العراقيين لكي يتخلصوا من هذا الوضع الماساوي، وكيف ستكون نهاية هذا النظام، الخوف كل الخوف ان يؤدي تردي الاوضاع هذا، وفي ظل انتشار السلاح المنفلت، الى اقتتال داخلي بين الفاسدين يحرق الاخضر واليابس، ويذهب ضحيته ابرياء كثيرون. لقد اعترف كل قادة الاحزاب والتحالفات الذين اتوا بعد الاحتلال وعلنا بانهم فشلوا فشلا ذريعا في حكم البلاد، ومع ذلك فانهم يرفضون ترك الحكم او القبول بفكرة التوافق على حكومة طواريء من اصلاحيين كفوئين من داخل العراق ومشهود لهم بالنزاهة والوطنية، لكي يعيدوا ترتيب الامور في البلاد لفترة انتقالية تستمر لسنتين في اقل تقدير، يتم فيها اعادة النظر بكل القرارات الماساوية التي اوصلت العراق الى هذا المنحدر، واولها الدستور الذي لم يكتبه العراقيون، والذي زُوِّر في اكثر من مرة، وتشذيب الادارات الحكومية من الطارئين والفاسدين وغير الكفوئين والفضائيين، واعادة بناء القوات المسلحة على اسس مهنية صحيحة، وحصر السلاح بيد الدولة، وتطهير وتفعيل القضاء لكي يقوم بدوره الصحيح في محاسبة الفاسدين وقتلة الشعب العراقي، واصلاح النظام التعليمي، الى غير ذلك من الاجراءات التي تعيد للدولة وللعراق هيبتهما. نعم لقد طال ليل العراق كثيرا، بل وكثيرا جدا، ولم يكن العراق يوما ما عقيما وعاجزا عن ان يظهر من داخله من يقوم باصلاح ما هو فاسد ومعوج، وسيظل لسان حال العراقيين يردد قول شاعرهم وشاعر العرب الاكبر محمد مهدي الجواهري
ألا مِن كريمٍ يَسُرُّ الكرامَ … بجيفةِ جلْفٍ زَنيمٍ عَتا
*كاتب واكاديمي عراقي
737 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع