
إبراهيم فاضل الناصري
عندما يتحوّل الخطاب الإعلامي عن الآثار والتراث إلى أداة لتسويق الأوهام وتشويه الذاكرة التاريخية.
إنّ الحديث عن الآثار التالدة والموروث التاريخي ليس مجرد ساحة للتفوه العابر أو مجالًا مفتوحًا للانطباعات الشخصية أو المغامرات الإعلامية العابرة، بل هو فضاء معرفي يتطلب تأصيلاً دقيقًا وإدراكًا عميقًا لطبيعة التراث الأثري ومكانته في سجل المعرفة الإنسانية. فالآثار ليست مجرد حجارة مهملة أو مبانٍ صامتة، بل هي شهادات ملموسة على مسارات الحياة، وأدلة على الحضارات والممارسات الإنسانية، تربط الحاضر بالماضي وتؤسس لفهم مستدام للهوية والذاكرة.
من هنا، يصبح التراث الأثري المحلي، بطبيعته العلمية والمعرفية، قرين الدليل ومشدودًا إلى المنهج، ولا يُفهم إلا ضمن أطر التحقيق الدقيق، والتوثيق الصارم، والمساءلة النقدية التي تميزه عن الرواية الشعبية أو الانطباعات السطحية. وأي خروج عن هذه القواعد المنهجية لا يُعد تبسيطًا مشروعًا أو تيسيرًا مفيدًا، بل انزلاقًا معرفيًا خطيرًا يُفضي إلى تشويه الحقيقة التاريخية، وتحويل التراث من مصدر للمعرفة إلى مادة مضللة أو مشوهة.
ومع ذلك، يشهد المشهد الإعلامي المحلي المعاصر – وبصورة مقلقة – انحدارًا واضحًا في طريقة معالجة التراث الأثري لدى بعض المنصات الإعلامية و"مدعي الإعلام"، الذين يقدمون المادة الأثرية في شكل خطاب منزوع المنهج، خالٍ من الإسناد، ومقطوع الصلة بالمصادر العلمية الرصينة. خطاب يُقدَّم في هيئة مسامرات شعبية، أو برامج ترفيهية، تُخلط فيها الرواية بالأسطورة، والتاريخ بالذاكرة المحلية، ويُغَلَّب فيها السرد الشفهي على المعرفة المحققة، دون أدنى التزام بقواعد البحث العلمي أو النقد المتخصص.
هذا الانزلاق ليس مجرد تبسيط إعلامي يفتقر إلى الدقة، بل يتجاوز ذلك إلى تكريس الوهم بصيغة معرفة، وتحويل المادة الأثرية من موضوع علمي إلى مادة ترفيهية تُستثمر لجذب الجمهور، ولفت الانتباه، وإثارة الفضول السطحي، لا لبناء وعي حقيقي أو صون الذاكرة الحضارية. وفي هذا السياق، تتحول المعرفة التاريخية إلى سلعة استهلاكية، يتداولها المتلقي بلا قدرة على التمييز بين الحقيقة والرواية المختلطة بالخيال، وينتج عنه وعي زائف بتاريخ المكان وحضارته.
غياب الإسناد العلمي والتحقق الموضوعي لا يُفقر النص الإعلامي من الدقة فحسب، بل يُفرغه من أي قيمة معرفية حقيقية، ويحوّل التاريخ من مجال للتحقيق والتثبّت إلى مجرد حكاية شعبية قابلة للتداول بلا ضابط. يتجلى ذلك بوضوح في معالجات إعلامية تكتفي بالوصف الإنشائي الرنان، وتتجاهل النقد والتحليل والتوثيق، وتقصي المختصين وأهل الاختصاص، تاركة المتلقي في ضبابية معرفية متعمدة، يُقدَّم فيها الظن بديلاً عن الدليل، والشعور بديلاً عن الفهم.
وعليه، فإن أي خطاب إعلامي محلي يتناول المواقع الأثرية بمعزل عن المنهج العلمي، ويُجرّد من الإسناد والتوثيق والتحقيق، لا يمكن اعتباره خطابًا ثقافيًا أو إسهامًا معرفيًا، بل يظل حديث مجالس مُنمَّق يفتقر إلى المسؤولية العلمية والأخلاقية، ويقف على النقيض من المهمة الأساسية للإعلام في حماية الذاكرة التاريخية، وترسيخ الوعي الحضاري الرصين، وتعزيز احترام الإرث المشترك للبشرية.
في النهاية، يظل التراث الأثري مرآةً صادقة للتاريخ المحلي، ووسيلة لفهم الحاضر من خلال الماضي، ولا يجوز تركه لقوى الإعلام السطحية أو لعاب الانطباعات العابرة، بل يجب أن يُعالج بمنهجية دقيقة، ومسؤولية علمية، ووعي حضاري يحترم الذاكرة ويصون الهوية.

1078 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع