يا حوتة يا منحوتة٠٠٠هدي گمرنا العالي

                                                       

                           علي غالب البصام

يا حوتة يا منحوتة٠٠٠هدي گمرنا العالي

كان يا مكان٠٠٠كان في قديم الزمان وسالف العصر والاوان كان في بغداد مونولوجست (١) يدعى عزيز علي ورئيس وزراء هو نوري باشا السعيد الذي كان حريصاً كل الحرص على العراق والعراقيين بشكل عام ولا يرضى بان تمس كرامة العراقيين حتى ولو بمونولوج (١). كان الباشا يستمع الى مونولوجات عزيز علي مبدياً امتعاضه من بعضها مثل منولوج "يا حوتة يا منحوتة" الذي كان يردده العراقيون في أوقات خسوف القمر وغناه عزيز علي على شكل منولوج حينها ارسل الباشا في طلب عزيز علي ووبخه على هذا المنولوج ناصحاً إياه بنبذ التشاؤم واخافة الناس طالباً منه ان يذكر ان البلد بخير وبه ناس اخيار بإمكانهم القضاء على هذه الخرافات والتركيز على الجوانب الإيجابية بدل السلبيات ونشر العلم بين الناس بدلاً من هذه الخرافات المعششة في عقول الناس مستفيداً من موهبة (تسفيط) الكلام التي حباه بها الله على حد تعبير الباشا. رحم الله عزيز علي ونوري باشا السعيد.

     

بالأمس انفض تجمع الوفاء والشموخ لطلاب كلية بغداد خريجي العام ١٩٧٢ والاحتفال بيوبيلهم الذهبي لمضي خمسون عاماً على تخرجهم والذي انعقد في مدينة مرمريس التركية على شاطئ البحر الأبيض المتوسط. توجه المتجمعون الى مدينة إسطنبول وبعض منهم توجه الى يريفان في جمهورية أرمينيا لإكمال احتفالات اللقاء وتخلفنا انا وزوجتي عن الجمعين وبقينا في دلامان ثم استأجرنا سيارة وسحنا في بعض المناطق المحيطة من فتحية الى انطاليا الى مدينة منافكات Manavgat التي حطينا فيها الرحال وهي تبعد مسافة ٧٠ كيلومتراً عن انطاليا وضوضائها. كان الغرض من انفصالنا عن باقي الجمع هو لاستغلال وجودنا في المياه الدافئة بعد ان قطعنا المحيط الأطلسي من كندا القطبية وهي عملية ليست باليسيرة لمن هم في خريف العمر كحالنا.

      

كنا نبحث عن ملاذ شتوي نلجأ اليه شتاءاً هرباً من برودة الاصقاع الكندية التي ما فتئ البرد فيها ينخر عظامنا بعد كل هذه السنين الطوال وتقدمنا في العمر. لقد قضينا من حياتنا في كندا أكثر من فترة معيشتنا في العراق بكثير واقل من وجودنا في العراق والامارات مجتمعين بقليل وجبنا كثيراً من بلاد العالم وكل بلاد الله جميلة ولها طابع مميز تمتاز به وكنا نظن باننا سننشد ضالتنا في تركيا فمدنها جميلة جداً ومناخها معتدل شتاءاً اذ ان معدل درجات الحرارة في المدن الساحلية التي زرناها في حدود ٢٠ درجة مئوية وهي ممتازة مقارنة بشتاء كندا الطويل والكئيب الذي تنخفض درجات الحرارة فيه من ٣٠ الى ٤٠ درجة تحت الصفر إضافة الى هطول الثلوج والعواصف الثلجية وكندا كما يصفها الكنديون من باب السخرية عبارة عن فصلين احدهما فصل تساقط الثلوج لستة اشهر تتبعها ستة اشهر أخرى لذوبان الثلوج. بصورة عامة توصلنا الى نتيجة مفادها عدم إمكانية العيش في هذه المدن الجميلة أكثر من شهر بالمجمل لعدة أسباب أهمها عامل اللغة التي لا يجيد الاتراك التحدث بسواها بالرغم من المام بعضهم بإحدى اللغات الأجنبية كالإنكليزية مثل سكان فتحية والروسية مثل أهالي انطاليا التي غزاها الروس مؤخراً هرباً من الحرب الدائرة في بلادهم مع أوكرانيا محملين بالأموال التي يسيل لها لعاب الاتراك الذين كانوا في ماضيهم الاستعماري يتبعون سياسة تتريك العناصر غير التركية لكنها لم تجدِ نفعاً في هذا الزمان الذي تسوده الماديات والتي باتت تجعل من الاخرس يغرد باللغة الروسية ورغم قابلية الانفاق غير المحدودة و القوة الشرائية لدى الروس فان المتواجدين كانوا يمثلون الطبقة البروليتارية (٢) السابقة التي انتقلت الى الطبقة البرجوازية (٣) بطريقة ما لكن عقليتهم بقيت كما كانت في السابق اذ انعكس ذلك على تصرفاتهم مع بعضهم ومع أبنائهم وزوجاتهم وهي شبيهة بالذين في أيديهم زمام الأمور في عراق اليوم خلافاً لما عرفناه عن العلماء والادباء والفنانين الروس الذين شهرتهم طبقت الافاق.
خطر على بالنا زيارة شرم الشيخ والغردقة والجونة على ساحل البحر الأحمر في ارض الكنانة لكن الاخبار المتواترة لم تشجع على ذلك وليس باقي البلدان العربية أفضل حالاً من عراقنا الحبيب الذي حباه الله بشتاء معتدل لا مثيل له في كل بلدان العالم لكن مع شديد الأسف وقع هذا البلد العظيم بأيدي ناس لا يعرفون معنىً لنعم الله وعطاياه التي تفتقر لها بقية البلدان فآثرنا البقاء في ربوع دولة السلاطين وانتظار موعد عودتنا الى كندا بخفي حنين منتظرين الشتاء القارس الى ان يقضي الله امراً كان مفروضا.
الكثيرون من سكان كندا يفضلون الذهاب الى ولاية فلوريدا الامريكية هرباً من الشتاء لكن لا يخفى ما لهذا المشتى من محاذير لا تحمد عقباها من اعاصير هوجاء وعواصف عاتية وهي مغامرة بحد ذاتها غير واردة في حساباتنا وكذلك دول الكاريبي.
نحن بلغنا الربع الأخير من العمر ولا زلنا نبحث عن ملجأ نلجأ اليه بعد ان وهبنا زهرة شبابنا في خدمة بلدان لا فضل لها علينا سوى توفيرها الملاذ الآمن الذي افتقدناه في بلادنا المبتلاة بشتى ضروب الكوارث والمحن والنكبات منذ العام ١٩٥٨ بعد ان كانت تنعم بما وهبها الله من خيرات وفيرة وثروات طبيعية بإمكانها ان تجعل العالم برمته يحيا حياة مرفهة لكن مجيء شلل المغامرين الذين عاثوا في الأرض فساداً ما بعده فساد واوصلوا البلد الى ما هو عليه من افقار وتجويع وتبارك الله العلي اذ وصف حال العراق وما حل به كما حل في مكة وأهلها في سورة النحل:
"وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُون". صدق الله العظيم
وأصبحنا نتحسر على نسمة من نسمات بلادنا الحبيبة ولا أدرى إذا كان في العمر بقية لنرى الضوء في نهاية هذا النفق المظلم ونعود الى وطننا السليب الذي اضاعه العابثون في مقدراتنا ومقدرات هذا الشعب البائس الذي ضربت عليه الذلة والمسكنة بعد ان كان ابياً مهاباً وليس ذلك على الله بعسير وما بين غمضة عين وانتباهتها يغير الله من حال الى حال.

ليس المناخ المعتدل فقط هو الذي يشدنا ويجذبنا الى تمني العراق فكل شيئ في العراق فريد وما تغربنا عنه جحوداً ونكراناً له لكن الأمور تأخذ مآخذ أخرى ولا يكون باليد من حيلة لتداركها لشدة الايلام الذي ذقناه ونحن في ريعان الشباب وعملاً بقوله تعالى في سورة الملك:
"هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ". صدق الله العظيم
ونحن سعينا في مناكبها ونحمد الله حمداً كثيراً على رزقه الوفير الذي رزقنا به ونشكره على عطاياه التي لا تعد ولا تحصى ومهما مضت الأيام والسنين من عمرنا فليس بالإمكان التأقلم في بلاد المهجر مهما كانت درجة الرفاهية والراحة وهذا ايضاً ليس جحوداً بحق من آوانا ووفر لنا الأمان لكننا نشبه النخلة البرحية التي تقتلع من جذورها في البصرة وتزرع في كاليفورنيا ذات الجو المشابه لجو البصرة لوقوعهما على نفس خط العرض وتثمر وتتكاثر لكن يبقى مذاقها يختلف عن مذاق البرحي البصراوي لسبب بسيط الا وهو نوعية التربة التي احتضنتها والمياه التي روتها وهي ليست نفسها التي تحتضنها وترويها في كاليفورنيا وقد جاءوا بنفس البرحية مع تربتها البصرية وزرعوها في ارض الامارات وكانت نتيجة التجربة ذاتها في كاليفورنيا لان المياه المروية ليست مياه دجلة والفرات. كذلك نحن الذين بلغنا الهزيع الأخير من العمر ومهما امتد بنا العمر فإننا نشبه البرحية التي انتزعت من جذورها لتغرس في بيئة مغايرة لبيئتها الاصلية ويبقى هاجس الوطن ينادينا من الأعماق شئنا هذا او ابيناه ولا يمكن محوه من الوجدان بتقادم السنين وأصبحنا من الوله كما يصف الشاعر عبد المحسن الكاظمي حاله في الغربة التي اكتوينا بنارها:

                        

أبغـداد لا فاتـتـك منـي تحيــة ٠٠٠ يفسـر منـهـا مـا أراد المفسـر

حنيناً الى الزوراء حنيناً الى الصبى حنيناً الى العود الذي هو انظر
حنيناً الى ارض حييت بتربها ٠٠٠ ويا ليتني في ذلك الترب اقبر

اما آن الأوان لبلدنا المثخن بالجراح ان يتعافى وتشفى جراحه؟ اما آن لأهله الذين فارقوه مكرهين ان يعودوا اليه لينعم بهم وينعموا به؟ الم يحن موعد اللقاء بعد؟ اما صار لزاماً على سراق الوطن ان يرحلوا ويتركوا العراق لأهله؟ اما آن "للحوتة ان تزوع الكمر" ليرجع الى سابق نوره وضيائه؟ يا ترى متى ومتى ومتى٠٠٠ أسئلة نبقى نكررها ولا نجد لها جواباً.

انتهت الحرب العالمية الثانية عام ١٩٤٥ ونحن جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية اذ عم السلام وانتبه البشر الى الأخطاء التي وقعوا بها وادت الى قيام الحربين العالميتين ووضعوا اسساً للتعامل مع بعضهم البعض لتلافي الوقوع في اتون الحروب مجدداً وجيلنا جيل الخمسينات والستينات كان له النصيب الاوفر من الرفاهية التي عمت العالم اجمع بفضل الرخاء العالمي والتطور الصناعي والاختراعات التي تصب في صالح البشرية فنلنا من التعليم ارقاه والذي بالنتيجة انعكس في بناء وخدمة الوطن بإخلاص والتفاني بحبه والتنافس الشريف لإرساء اسس الرقي والتقدم الى ان حلت بنا الكوارث والمحن من قبل فئات حاقدة دمرت كل ما يصب في صالح الانسان العراقي واستمر الحال الى ما هو عليه الان بأبشع صوره وهنا تسكب العبرات.
نحن الجيل الذي خاطبه الشاعر ووزير المعارف السابق الشيخ محمد رضا الشبيبي قائلاً:

انـتـمُ مُتـعّـتـمُ بـالسـؤدد٠٠٠يا شباب اليوم اشياخ الغد
يا شباباً دُرِّسوا فاجتهدوا٠٠٠لينالوا غاية المجتهد
وعـد الله بكـم اوطـانكـم٠٠٠ولقد آن نجاز الموعد

فأين نحن اليوم من نجاز الموعد؟ البلاد حل فيها الفساد والطغيان وآلت للخراب وقد حان موعد رجوعنا وهذا حق من ابسط حقوق المواطنة للتهيئة والاعداد لإصلاح ما يمكن من الخراب الشامل الذي بات يفتك ويفت في عضد الناشئة والاجيال الحائرة المهزوزة في فكرها وتعليمها وتربيتها واقتصادها وآمالها وكما قال الشاعر القروي رشيد سليم الخوري:

حتام احيا غريب ما لي وطن ٠٠٠ يا يوم وصل الحبيب انت الزمن
من دون كل البلاد انت المنى ٠٠٠ هل يا ترى من معــاد يوم لنــــا

هل وصلت بنا الأمور لنصبح غرباء وليس لنا وطن؟ اين العراق منا؟ أصبح العراقيون مشردين في ارجاء المعمورة على الرغم من تفوقهم ونبوغهم واخلاصهم في عملهم لكنهم يبقون غرباء في بلدان المهجر مهما طال بهم الزمن لان الحياة في صراع دائم بين أصحاب بلدان المهجر والغرباء عامة والعراقيين المتفوقين بصورة خاصة ولا مجال هنا للخوض في هذه الإشكالات. بلدنا احوج لنا من الغرباء والدخلاء الذين اضاعوه غير آبهين بالنتائج الكارثية التي حلت بأبناء الشعب منذ عام ١٩٥٨ ولغاية يومنا هذا وكلها افرازات تخبط المستهترين الذين صعدوا الى دفة القيادة الهوجاء وقادوا البلد الى التهلكة.
نحن على اعتاب عام جديد والعالم كله يحتفل بمقدم عام جديد والسير بخطى ثابتة وواثقة نحو مستقبل أفضل لكن مع شديد الأسف ليس للعراقيين أي شيئ من هذا القبيل او فهم سائرون بخطى حثيثة الى العصور المظلمة والحالكة الظلام الى زمن (النفطية واللالة) بديلاً للكهرباء و(التكتك) بديلاً لحافلات الأمانة او المصلحة و٠٠٠و٠٠٠والكثير الكثير حتى أصبحت هذه السلبيات من سمات الحياة الاعتيادية التي يحياها المواطن العراقي لأنه لم يذق طعم الطيبات بل ذاق طعم جميع المرارات بفضل الحاكمين بأمرهم وباتوا قدوة بائسة لهذا الشعب المغلوب على امره وأصبحوا يشابهونه الا من رحم ربي.

عودة لذي بدء فما احوجنا اليوم لشخص نوري باشا السعيد ليأخذ بيد هذه الامة ويخرجها من غياهب الظلام الى نور المعرفة واعتماد العلم والثقافة كسبيلين أساسيين لبناء الفرد العراقي مجدداً وتبني دعوته بنشر الإيجابيات ونبذ السلبيات وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر لكن مرحلياً نضم صوتنا الى عزيز علي وهو يقول:

يا حوتة يا منحوتة٠٠٠هذا كمرنة نريده
يا حوتة يا منحوتة٠٠٠هدي كمرنا العالي
هذا كمرنة نريده٠٠٠هو علينا غالي
وان جان متهدينة٠٠٠ادكلج بصينية

ونرفع اكفنا بالدعاء والتضرع الى الله العلي القدير ان يزيح هذه الغمة عن عراقنا الحبيب:

يـا قـريـب الفـرج٠٠٠يا عالي بلية درج
كمرنا طايح بشدة٠٠٠نطلب منك الفرج

اللهم ندعوك ان تفرج هم امتنا وتطيل بأعمارنا لتكتحل اعيننا برؤية عراقنا الأبي شامخاً وان تلطف بشعبنا الذي ذاق من الويلات والثبور وعظائم الأمور ما يشيب له الولدان وكل عام وأنتم بخير.


علي غالب البصام

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
١- المونولوج هو فن الحوار مع النفس يؤديه شخص واحد ويقدم قطعة صغيرة بأسلوب ساخر ومضحك في بعض الأحيان والمونولوجست هو الشخص الذي يؤدي فن المونولوج.
٢- البروليتاريا مصطلح ظهر في القرن التاسع عشر يعني الطبقة التي لا تملك أي وسائل انتاج وتعيش من بيع مجهودها العضلي او الفكري.
٣- البرجوازية هي الطبقة المسيطرة والحاكمة في المجتمع الرأسمالي وهي طبقة غير منتجة لكن تعيش من فائض قيمة عمل العمال.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

797 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع