خليل حمد / الكاميرون
سمات القصيدة عند جماعة أبولّو
يعرف علي عشري القصيدة الحديثة بأنها "نوع من الكشف والارتياد بمقدار ما هي نوع من المعاناة المرهقة والجهد المضني" (عشري،1978م:11) ؛ فالشاعر يعيد اكتشاف الوجود ويلبسه معنى جديدا غير المعنى المعتاد الموروث، ووسيلته النفاذ إلى صميم هذا الوجود لاكتشاف العلاقة الخفية التي تربط بين عناصره ومكوناته المختلفة، فتتحول عناصر الوجود وأشياؤه إلى مجرد مفردات وأدوات في يديه يشكل بها علمه الشعري الخاص، على نحو يزيده عمقا وثراء واكتمالا.
المحور الأول: السمات العامة للقصيدة الحديثة:
اكتسبت القصيدة الحديثة خصائص من طبيعة التقنيات المستخدمة في بنائها وطرق توظيف الشاعر لها، واكتسبت بعضها من الرؤية الشعرية الحديثة، ومن أبرز هذه السمات:
أولا: التفرد والخصوصية:
تهفو القصيدة إلى أن تكون كيانا فنيا متفردا ولا يمكن تصنيفها تحت أي غرض من الأغراض الشعرية العامة التي انحصر فيها التراث الشعري القديم من مدح وفخر وهجاء ورثاء ووصف وغيرها التي تمثل قيدا على قدرات الشاعر الإبداعية ورغبته في التجديد والابتكار (عشري،1978م:35) .
ثانيا: التركيب:
قد أصبح بناء القصيدة الحديثة على قدر من التركيب والتعقيد يقتضي من قارئها نوعا من الثقافة الأدبية والفنية الواسعة، ولا بد أن تتسع الثقافة لتشمل نوعا من الإلمام بالفنون الأخرى غير الأدب (هلال،1973م:409) ، وانطلقت القصيدة الحديثة إلى الفنون الأخرى تستعير من أدواتها وتقنياتها الفنية مما يساعد على تجسيد الرؤية الشعرية الحديثة، وتجاوزت إلى الاستعارة من الفنون غير الأدبية، كالتصوير والموسيقى وغيرها.
ثالثا: الوحدة:
تتألف القصيدة من مجموعة العناصر والمكونات المتنوعة، فإن هناك وحدة عميقة تؤلف بين هذه العناصر وتنصهر فيها هذه المكونات لتصبح كيانا واحدا متلاحما متجانسا (هلال،1973م:409) . وقد تحدث أبو شادي عن وحدة القصيدة، وأكد أن الوحدة المتكاملة التي لا يمكن فصلها بين الشكل والمضمون، فهو يرى أنه من المستحيل الفصل بين هذه العناصر أو تغيير سياق الكلمات في بيت من الشعر من دون تغيير معناه؛ فالشاعر ينظم القصيدة كلا ويتأملها كلا، ولا يتناول عنصر دون منها بمعزل عن غيره. وقد دعا إلى تحديث الشعر ولغته (الجيوسي،بدون:388) .
وتبنى فكرة رومانسية، وهي أن الشاعر كنبي أرسل إلى قومه؛ ذلك لأن الشاعر حسّاس يتفاعل مع الأشياء يجب أن يكون الشعر عنده خير، سواء كان هذا الهدف إنسانيا أو وطنيا أو دينيا (الجيوسي،:388) . وأما ناجي فإنه يحدّ الوحدة بأنها "الرباط الذي يضم التجربة والصور والانفعالات والموسيقى في وشاح خف أثيري، وبهذه الوحدة يتكامل القصيد وتدب الحياة فيه" (السحرتي،بدون:82) .
رابعا: الإيحاء وعدم المباشرة:
وهي من أبرز السمات للقصيدة الحديثة، حيث إنها لا تعبر تعبيرا عن مضمون محدد واضح، وإنما تقدم مضمونها الشعري بطريقة إيحائية توحي بالمشاعر والأحاسيس والأفكار؛ لذا فإن القصيدة لا تحمل معنى واحدا متفقا عليه (عشري،1978م:40-46) .
خامسا: الصورة الشعرية:
الصورة الشعرية واحدة من الأدوات الأساسية التي يستخدمها الشاعر الحديث في بناء قصيدته وتجسيد الأبعاد المختلفة لرؤيته الشعرية، فبواسطة الصورة يشكل أحاسيسه وأفكاره وخواطره في شكل فني محسوس وبواسطتها يصور رؤيته الخاصة للوجود وللعلاقات الخفية بين عناصره (عوين، الشعر العربي الحديث:121) ، وتلك عناصر الصورة والخيال تمثل عند شعراء الرومانسية أساس عملية الخلق والإبداع.
المحور الثاني: البناء الفني للقصيدة الشعرية عند جماعة أبولّو:
أولا: البناء الفني لشعر جماعة أبولّو
اهتمّ النقد الحديث ببناء القصيدة الفني؛ لأن القصيدة الحديثة تشتمل على عناصر شكلية وتعبيرية، حيث أصبح فيه الشاعر المعاصر "في موقف تحدّ شامل حين يبدأ عملية الإبداع، فهو مطالب –في وقت واحد- بأن يعي شروط الأصالة والمعاصرة، أي: يعرف حقيقة الواقع وجوهر التراث، أن يعيش داخل وطنه وخارجه، أن يقرأ ثقافة العالم من حوله، أن يدرك أسرار تشكيل الشعر وصياغة معظم الفنون الأخرى، أن يمحو التناقض بين الخاص والعام، وبين الذات والموضوع، وبين الماضي والحاضر، بل بين الحاضر والمستقبل" (وادي،1994م:16) ، وإنما جاء ذلك نتيجة لما يراه الشعر الحديث والمعاصر من المتناقضات الحياتية مما يجعله يتخيل كأنه واقع في مستنقع المتنافرات، ومنحدر إلى داخل وادي المتناقضات.
إن ثورة جماعة أبولّو التجديدية يثير الانتباه فيما يتعلق بالبناء الفني؛ فإن شعراء أبولّو قد "أعلنوا الشعر الحرّ واحتفوا بالشعر المرسل، ونوّعوا الأوزان وجددوا فيها، وعددوا القوافي ولوّنوها بألوان كثيرة، ونظّموا القصص والروايات التمثيلية، والأقصوصة الشعرية، وصاغوا الأناشيد في الهيام بالطبيعة ووصف الجمال، والتحدّث عن أعمق خطرات النفس الإنسانية، غير مبالين بالمناسبات الطارئة والحالات الوقتية الملحّة، ونادوا بتحرر القصيدة في شكلها ومضمونها وفي فكرتها، وصورتها الموسيقية من قيود كثيرة.." (الخفاجي،بدون:87) .
ثانيا: القصيدة الشعرية عند جماعة أبولّو:
وقد كانت القصيدة عند شعراء أبولّو تستمد حياتها ورونقها من مظاهر الطبيعة حولهم، فتظهر معظم قصائدهم معتمدة على الأزهار والأشجار تملأ الحقول والرياض.
إن شعراء أبولّو كان لهم معجمهم اللفظ الخاص بهم، من حيث استحداث ألفاظ شعرية، ومن حيث توظيف لغة عصرهم لغرضهم الشعري كما جددوا في الصورة الشعرية، وهذه من أهم سمات شعراء أبولّو.
اعتمدت الصورة على صور البيان الجزئية كما اعتمدت على التشخيص، وتقوم على أساس تشخيص المعاني المجردة ومظاهر الطبيعة الجامدة في صورة كائنات حية تحسّ وتتحرك وتنبض بالحياة (هلال،1973م:140) ؛ لذا قامت الصورة التشخيصية بدور بارز في الشعر الحديث. ويعتمد الشاعر إبراهيم ناجي اعتمادا أساسيا على هذه الوسيلة الفنية في تشكيل الكثير من الصور الشعرية في قصيدة العودة التي شخص فيها الكثير من المعاني والأحاسيس التجريدية في صورة كائنات تنبض بالحياة، كما لجأت نازك الملائكة إلى هذه الوسيلة في قصيدتها "النهر العاشق" حيث كان التشخيص فيها الوسيلة الأساسية في بناء القصيدة كلها، حيث شخصت النهر في صورة كائن حي، وكانت هذه الصورة الأساسية في القصيدة إطارا عاما تتعانق خلاله مجموعة من الشعر الجزئية التشخيصية التي تدعم التشخيص في هذه الصورة الكلية وتقويه (عوين،78) .
كما تعتمد الصورة على تراس الحواسّ ومعناه وصف مدركات حاسة من الحواس بصفات أخرى، تصف الأشياء التي ندركها بحاسة الذوق بصفات الأشياء التي ندركها بحاسة الشم، وهكذا تصبح الأصوات ألوانا والطعوم عطورا .. الخ (هلال،1973م:425) .
تعتمد الصورة على مزج المتناقضات في كيان واحد تعبيرا عن الحالات النفسية والأحاسيس الغامضة المبهمة التي تتعانق فيها المشاعر المتضادة وتتفاعل، كما تعتمد على التراكم الصور والتجسيم والتجريد، وتعتمد الصورة في القصيدة الحديثة على الغموض، وتشع بإيحاءات خفية غير محددة يحسّها القارئ.
كما نجد شعراء أبولّو إن الصورة تعتمد على التجسيم والتشخيص والتجريد، والتعاطف مع الأشياء والميل إلى استعمال التعبير الرمزي بالصورة، والإكثار من الألفاظ الرشيقة ذات الخفة على اللسان (قشوان،1985م:222) .
يقول أحمد هيكل: "إن خصائص هذا الاتجاه من حيث الأسلوب وطريقة الأداء فأساسها الطلاقة البيانية والحرية التعبيرية بحيث تستعمل استعمالا جديدا شبه جديد في استخدام الألفاظ ودلالتها ووضع الصفات من موضوعاتها ثم في التوسع الكبير في المجازات والابتكار المبدع في الصور" (هيكل،:329) . فقد جدد شعراء أبولّو في الألفاظ، وقد استخدموها بدلالات جديدة معادل موضوعي لنفوسهم الحائرة المضطربة.
المحور الثالث: الرؤية الفنية الإبداعية عند جماعة أبولّو
يمتاز شعر جماعة أبولّو بالحرية التعبيرية، والطلاقة البيانية، واستقلال الشخصية بالإضافة إلى أنهم أَثْرَوا الشعر الغنائي ، وهذا يتمثل في نزعاتهم الشعرية والتي مثلت تيّارا جديدا اتّسم بالوجدان الفردي والتعبير الرمزي (الدسوقي،1972م:514) .
و إن المضمون الشعري لدى جماعة أبولو يفصح عن رغبتهم في أن يوقفوا معاصريهم من الشعراء والأدباء على ما توصلوا إليه ليحققوا النهوض بالشعر الحديث إلى مستوى أكثر رقياً وملائمة للروح الجماعية الحية و أقدر على تمثيلها عصراً وبيئة بصورة منفتحة انفتاحاً يقظاً متنامياً، محققين بذلك حداثة الارتقاء الأدبية الصادقة في تاريخ الأدب العربي الحديث.
و كان لشعراء الجماعة فضل كبير في تجديد الشعر وتمثّلت التجديدات في الألفاظ حيث جاءت ألفاظهم تحمل دلالات جديدة، فاستخدموا التعبير الرمزي. وجاءت قصائدهم رشيقة تمتلئ بالأطياف والظلال والعطر والليل الأبيض والشفق السحري وغيرها. وخطا الشعر الغنائي إلى مجالات أخرى كالشعر القصصي والشعر التمثيلي. وأصبحت الصور الحية هي الوحدة التي يبنى فيها الشاعر عمله الفني، كما التزموا الوحدة العضوية، ومن مظاهر التجديد التحرر من القافية الموّحدة، والتزموا الوزن (الشعر المرسل) واستخدام بحورا جديدة، وحاولوا أن يمزجوا بين البحور المختلفة، ونوّعوا في الوزن والقافية (الشعر الحرّ) ونسجوا على غرار الموشحات وتوّسعوا فيها.
يقول الدكتور محمد مصطفى هدارة في كتابه (مقالات في النقد الأدبي): إن "هوارس" في كتابه "الشعر" قال عن الألفاظ: إن عبارة الشاعر لا يمكن أن تعبر وتبيّن ، ولكن تجارب الإنسان التي وجد الشعر للتعبير عنها دائمة التغيير والتبدّل؛ لأنها آخذة في الازدياد وكلما نمت التجارب وازدادت وجب على لغة الشعر أن تجاريها وتتمشّى معها إذا أريد أن تكون صادقة التعبير، واللغة بمثابة الشجرة والألفاظ بمثابة الورق ، وعلى مدى السنين تتساقط الأوراق القديمة وتنمو بدلا منها أوراق حديثة والشجرة باقية كما هي(السيد،2008م:334) .
ومن هنا وجب على الشعراء أن تساير لغتهم لغة العصر الذي يعيشون فيه وتتطوّر بتطوّر المجتمع الحضاري، وهذا هو شأن جماعة أبولّو في معجمها الشعري، فكان معجمهم الشعري هو ذلك الرصيد الضخم من الكلمات الشعرية مما سَلِس لفظُه وعذُب معناه من ألفاظ السابقين، ومما تحتاجه لغة الشعر من الألفاظ العصرية كي يؤدي الشعر رسالته في الحياة (السيد،2008م:334) .
و لشعراء أبولّو معجمهم الخاصّ الذي ميّزهم عن غيرهم، يقول الدكتور يسري العزب: حين جنَح الرومانسيين إلى التعبير عن مواقفهم من الذات والمرأة والطبيعة والكون والواقع الاجتماعي، كانت لهم لغتهم الشعرية الخاصة التي شكّلت عالمهم الشعري والتي تعتمد مجموعة من الألفاظ جديدة على الشعر العربي بقدر ما حملت من قدرة على الإيحاء (العزب،1986م:81) .
و شاعت في شعرهم بعض الألفاظ ذات الدلال المختلفة، والتي تعبر عما في نفوسهم والتي تعكس شخصيتهم في أشعارهم اشتركوا فيها جميعا، مثل: الفراشة والفراشات، كانت هذه الكلمة ذات الدلالة الإيحائية لدى شعراء أبولّو لأن الفراشة فيها الرقّة والضعف أيضا، وحركة الفراشة توحي بالحيرة والاضطراب مما يتلاءم مع نفوس شعراء التي كانت تعاني الحيرة والاضطراب، قال ناجي:
وأنا حبُّ وقلب ودمٌ *** وفراش حائر منك دنا (ديوان ناجي،بدون:37) .
يقول علي محمود طه:
يخيّل للعين فيما ترى *** فراشة روضُ جفتها الظلال (طه،بدون:43) .
ويكون الحبّ مصدر العذاب إلا أن المُحبّ هذا العذاب فكذلك الفراشة تنجذب دائما للضوء النور مع أنه مصدر هلاكها، يقول الصيرفيّ:
أيرتاع الضياء الصفو *** من خفق الفراشات!
وكم لقيـــت فراشات *** على الضوء احتراقات
وكــــــــــــل فراشة تلتــــذّ *** آلام الجـــــــراحــــــــــــــــــــات
ومـــــا زال الفراش له *** غـــــــــــــــــــــــرام بانتحارات (الصيرفي،1982م:32) .
١- عشري،مرجع سبق ذكره:11
٢- المرجع السابق:35
٣- هلال، محمد غنيمي (1973م)، الرومانتيكية، دار العودة:409
٤- المرجع السابق:409
٥- الجيوسي (بدون التاريخ)،الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث:388
٦- المرجع السابق:388
٧- السحرتي، محمد عبد اللطيف (بدون التاريخ)، الشعر المعاصر في ضوء النقد الحديث،82
٨- عشري، مرجع سبق ذكره:40-46
٩- عوين، الشعر العربي الحديث:121
١٠- وادي،1994م:16
١١- خفاجي،مرجع سبق ذكره:87
١٢- هلال،مرجع سبق ذكره:140
١٣- عوين،***:78
١٤- هلال، مرجع سبق ذكره:425
١٥- قشوان، محمد سعد (1985م)، حسن كامل الصيرفي وتيارات التجديد في شعره، القاهرة: المكتبة الأزهرية للتراث:222
١٦- هيكل،******:329
هوامش الفصل الثالث:
١٧- الدسوقي، عبد العزيز (1972م)، جماعة أبوللو وأثرها في الشعر العربي الحديث، القاهرة: الهيئة العامة المصرية للتأليف والنشر:514
١٨- السيد، علي محمد محمد (2008م)، صورة المرأة عند أبولّو، بدون الطبعة:334
١٩- المرجع السابق:334
٢٠- العزب، محمد أحمد (1986م)، القصيدة الرومانسية في مصر، القاهرة: الهيئة العامة للكتاب، الطبعة الأولى:81
٢١- ديوان ناجي، إبراهيم (بدون التاريخ)، قصيدة «رسالة محترقة»:37
٢٢- طه، علي محمود المهندس (بدون) الأعمال الكاملة ديوان الشوق العائد، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، بدون الطبعة:43
٢٣- الصيرفي، حسن كامل (1982م)، نوافذ الضياء، دار المعارف:32
495 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع