د. سعد ناجي جواد*
ما أشبه اليوم بالبارحة.. عراق ١٩٩٠ وإيران ٢٠٢٣. لماذا تُصر الولايات المتحدة على ارتكاب حماقة أخرى؟ ولماذا ترفض كل الأطراف أخذ العبرة من الدّرس العراقي؟
في عام 1988 عندما انتهت الحرب العراقية – الايرانية بنصر عراقي واضح تجلت فيه القوة العسكرية الهائلة التي خرج بها العراق، (بعد تلك الحرب الطويلة وغير المطلوبة والتي كان يمكن تجنبها بسهولة بقليل من الحكمة والتروي من قبل الطرفين)، بدا واضحا ان اسرائيل كانت غير مرتاحة للنتيجة. وعدم ارتياح اسرائيل يعني عدم ارتياح الولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا واغلب الدول الغربية. ومنذ تلك اللحظة بدا الاعداد لعمل ما يفضي الى تدمير الالة والقدرات العسكرية التي امتلكها العراق.
الخطوات والتطورات التي حصلت ما بين 1988 و 1990 فيما يخص العراق بدات تتكرر بشكل ملفت للنظر مع ايران.
اثناء الحرب وبعدها بدات اسرائيل تتحدث عن قرب توصل العراق لامتلاك سلاح نووي خلال اشهر قليلة، (والكل يتذكر تدمير المفاعل النووي العراقي)، وهذه الكذبة المكررة التي استخدمت لتاليب الراي العام العالمي ضد العراق، ولم تثبت صحتها، تستخدم الان ضد ايران وبنفس الكلمات والعبارات. و استُخدِمت ايضا ضد مصر عبد الناصر قبل 1967. يضاف الى ذلك عملية تشبيه قادة الدول الثلاث (مصر والعراق وايران، وكل من يمس اسرائيل ولو بكلمة) بالنازية وبهتلر بالذات، (تصوروا اسرائيل التي ارتكتب وترتكب يوميا جرائم تفوق ما ارتكبته النازية والدول الاستعمارية تتهم الاخرين بذلك)، والتباكي على حقوق الانسان وبالذات المراءة في تلك الدول. واليوم نساء الغرب يتظاهرن ضد ما تعانيه نساء ايران، وبالامس وقبل احتلال العراق استقبل جورج بوش الابن وزوجته خمس نساء (عراقيات) اشتكين من (معاناة المراءة العراقية في ظل نظام البعث)، وطالبنه بفعل كل ما بوسعه لانقاذهن. علما ان هولاء النساء اختفين بعد احتلال العراق ولم يتحدثن عن معاناة وماسي العراقيات في ظل الاحتلال وما تلاه. لكن بوش اخذ ذلك اللقاء كذريعة اخرى للمضي قدما في خططه لاحتلال وتدمير العراق. وهذا السبب نفسه يستخدم الان ضد النظام الايراني. ويكفي ان يطلع المرء على ما تكتبه الصحف وتنشره وسائل الاعلام الغربية عن احوال نساء ايران. نعم ان نساء ايران يتعرضن للكثير من التجاوزات على حقوقهن، ولكن الدول الغربية والولايات المتحدة واسرائيل هم اخر من يحق لهم الادعاء بانهم حريصون على الدفاع عن حقوق نساء ايران، وكلامهم يبقى، وكما قال امام البلاغة والحكمة (كلمات حق يراد بها باطل).
بعد نهاية الحرب مع ايران تصاعد الحديث (بتحريض من اسرائيل) عن الخطر العسكري العراقي المزعوم، وتسربت معلومات للقيادة العراقية انذاك تقول ان اسرائيل تعد العدة لشن ضربة جوية جديدة ومباغتة، بحجة تدمير كل ما يمكن ان يساعد في (انتاج اسلحة دمار شامل)، التي لم يُعثر على اي منها حتى بعد تدمير العراق واحتلاله. واليوم اسرائيل واميركا يفعلان الشيء نفسه مع طهران، بحيث ارتفعت بصورة غير مسبوقة احتمالية توجيه ضربة مدمرة وشيكة لايران قد تقلب المنطقة راسا على عقب. في تلك الفترة (نيسان/ابريل 1990) ظهر الرئيس صدام حسين على شاشات التلفاز وبصورة مفاجئة ليعلن انه اذا تجرات اسرائيل وشنت هجوما جويا على العراق فانه سيجعل النار تاكل نصف اسرائيل. شطب الاعلام الغربي الشطر الاول من التصريح وتمسك بالثاني (سنجعل النار تاكل نصف اسرائيل)، وقامت الدنيا ولم تقعد. واليوم كل التصريحات التي تصدر من ايران وعن من يقف معها والتي تقول ان نهاية اسرائيل ستحدث اذا ما تجرات وهاجمت ايران، يجري التركيز عليها على اساسان ايران تريد ان تُزيل اسرائيل من الخارطة.
وجه الشبه الثالث، والاكثر اثارة للانتباه هو اقدام ايران على اعدام مسؤول كبير سابق (رضا اكبري) اتهمته بالتجسس لصالح المخابرات البريطانية. وكيف ان الغرب وبريطانيا هاجوا وماجوا بسبب هذا الاجراء. وهو نفس الشيء الذي حدث مع العراق عام 1990، عندما اقدمت السلطات على اعدام شخص من اصول ايرانية (بازوفت) كان يعمل صحفيا في احدى الصحف الانكليزية، اتهمته بكونه جاسوسا ارسلته بريطانيا الى العراق لاغراض معينة. في تلك الحالة تدخلت شخصيات كثيرة لمنع عملية الاعدام، لانهم ادركوا انه احد الافخاخ التي نصبتها بريطانيا واسرائيل للايقاع بالعراق او لتوريطه. وقيل في حينه ان الملك حسين ارسل توضيحا عن هذا المطب للرئيس صدام حسين قال فيه (ان بريطانيا تريدكم ان تعدموا هذا الشخص لكي تطالب بدمه، ولعلمكم ان هذا الشخص لا يعني شيئا بالنسبة لبريطانيا ولا يحمل جنسيتها ومقيم فيها فقط، وهو صحفي درجة ثانية وسبق ان حُكِمَ عليه بالسجن هناك بتهم سرقة وحيازة وتعاطي المخدرات، وبالتالي فهي [بريطانيا] غير مهتمة بمصيره). واذكر اني بعد عودتي من مؤتمر علمي في القاهرة في نفس الفترة، نقلت كلاما مشابها لمسؤول عراقي كبير كان طالبا عندي في الكلية، بعد ان سالني عن سر الضجة الكبيرة في الخارج ضد العراق، قلت له (ان حقيقة الامر واصل القضية هي ان اسرائيل قلقة جدا من القوة العسكرية العراقية، وكل الدلائل تشير الى وجود مخططات لتدميرها وتدمير العراق، وان الاطراف الثلاثة بريطانيا واميركا واسرائيل يبحثون عن ذريعة لتنفيذ ذلك). وسالته (الا تجدون غرابة في تصريح تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا انذاك، والذي كررته اكثر من مرة تتحدى فيه القيادة العراقية وتقول ان العراق لن يجروء على اعدام بازوفت؟ والسبب الحقيقي هو انها تريد ان تستفزكم لكي تعدموه ثم تثير مشكلة ضدكم بعد ذلك)، وهذا ماحصل. وكان رده وبغرور ان الغرب جرب ضدنا مؤامرة الحرب مع ايران وفشل، ولا يوجد مؤامرة او خطر اكبر من ذلك. واكتفيت بالقول ان هناك خطرا كبيرا قادما يجب ان يتم وضعه في الحسبان، ورد علي بغرور اكبر قائلا (يبدو ان الدعايات الغربية خوفتك، احنه ما نخاف من هذه التهديدات). واليوم بريطانيا التي جندت نائب وزير الدفاع علي رضا اكبري جاسوسا لها، والمتهمة بانها غضت الطرف عن عودته لايران مرة ثانية، ان لم نقل شجعته على العودة، مع علمها بانه كان قد سجن سابقا وافرج عنه ولجا الى بريطانيا وحصل على الجنسية البريطانية، وهي على يقين بان الشكوك كانت ما تزال تحوم حوله، وانه سيعدم اذا ما القي القبض عليه، كل ذلك كي تخلق ذريعة جديدة لشن حملة اعلامية وسياسية ودولية ضد ايران، واتخاذ ذلك الاعدام سببا لتوجيه ضربة عسكرية عليها.
وجه الشبه الاخر يتمثل في تحريض الدول الاقليمية وبالذات المجاورة لايران، وخاصة دول الخليج العربي، ومنعها من التقارب مع طهران، او التوصل الى تهدئة تخدم المنطقة. وفي تخويف المنطقة من القوة العسكرية الايرانية الهائلة، ومحاربة ايران بالعقوبات الاقتصادية. كل هذه الخطوات والاساليب استعملت ضد العراق للفترة من 1988 وحتى 1990، والتي نجحت في جعل اغلب دول الجوار تتعاون مع عملية احتلال العراق. الفرق الوحيد ان التحالف الذي قادته اميركا لم يفرض عقوبات اقتصادية على العراق قبل آب/اغسطس 1990، وانما فعل ماهو أسوأ من ذلك حيث حرض بعض الدول الخليجية على اغراق الاسواق العالمية بالنفط لكي ينخفض سعر البرميل الى درجة يعجز فيها العراق عن تسديد ديونه او فوائدها، ناهيك عن العجز في توفير الغذاء والدواء والرواتب لمواطنيه. الامر ذاته يحصل مع ايران عن طريق فرض العقوبات وتكثيفها يوما بعد يوم.
وظل ثالوث الشر (الولايات المتحدة وبريطانيا واسرائيل) يخطط لخلق حدث يكون السبب المباشر لتنفيذ مخطط تدمير العراق، والذي جاء في النهاية كهدية من النظام العراقي الذي اتخذ القرار الكارثي وغير المدروس المتمثل باجتياح الكويت وعدم الانسحاب منها في الوقت المناسب. ايران اليوم تُدفع دفعا بنفس الاتجاه ولكي ترتكب حماقة تبرر الهجوم عليها وتدميرها. ومن يتتبع الاحداث يجد اوجه الشبه من خلال القضايا التي تثار مع ايران يوميا وما يصاحبها من تهديدات مباشرة. احد الان لم تصل ايا من هذه المشاكل (مثل الادعاءات حول رفض ايران العودة للاتفاق النووي وزيادة تخصيب اليورانيوم، ودعم الارهاب، ومهاجمة القوات الامريكية في المنطقة، وتزويد روسيا بمسيرات، وتزويد سوريا ولبنان بالنفط كسرا للعقوبات، وتزويد المقاومة اللبنانية والفلسطينية بالسلاح، والان ارسال سفنا حربية الى استراليا والعمل على التواجد قرب قناة بنما، وغير ذلك كثير) الى درجة اشعال الفتيل، ولكن بالتاكيد وسيبقى هذا المسلسل مستمرا حتى ينجح الثالوث في ايجاد ما يبرر لهم القيام بعمل عسكري كبير.
طبعا لابد من القول ان الظروف التي سهلت تدمير العراق ومن ثم احتلاله لم تعد كلها متاحة او قابلة للاستغلال الان، والامر كله ليس بتلك السهولة التي كان عليه مع العراق، وان القيام بمغامرة مشابهة قد يقلب المنطقة راسا على عقب، واكثر سوءا مما شهدته بعد جريمة احتلال العراق. لكن ذلك يجب ان لا يجعل اصحاب الشان، وخاصة في ايران،ان يستهينوا بالمخططات الامريكية-البريطانية- الاسرائيلية، لقد علمتنا التجارب ان الولايات المتحدة واسرائيل لا يأبهان بنتائج اي عمل كارثي كهذا طالما، وحسب تفكيرهم الضيق، ان ما سيحدث هو بعيد عنهما. اضف الى ذلك فان صناع القرار في اميركا يعتقدون ان النجاح في تدمير ايران سيعيد الولايات المتحدة كقطب مهيمن وحيد عالميا،وان عملهم هذا سيوجه ضربة مدمرة غير مباشرة لغريمتها روسيا، (تضاف الى الحرب غير المحسومة في اوكرانيا).
اسرائيل من جهتها تعتقد بان تدمير ايران سيوفر لها امانا كاملا وينهي تهديد حتى حركات المقاومة المحيطة بها، وان القبب الحديدية قادرة على حمايتها. وكلا الاعتقادين خاطئين، بل ويتسمان بغباء كبير. فلا الضربة، ايا كان حجمها وقوتها، ستنجح في انهاء ايران تماما، ولا اية محاولة لاجتياحها ستكون بالسهولة التي حدثت مع العراق، وذلك لثلاثة اسباب: الاول ان ايران لم تتعرض للحصار ولا للتدمير شبه الكامل لاسلحتها الرادعة كما حصل مع العراق وهي بالتالي تمتلك قدرات عسكرية قادرة على الرد والمطاولة، والثاني ان دول الجوار التي تامرت على العراق لن تجروء على الاندفاع في دعم اي هجوم امريكي-اسرائيلي، وذلك لانها ستتعرض الى ضربات ايرانية موجعة تشعل المنطقة كلها، والثالث ان ايران تتمتع بدعم روسي واضح يحرص على ان لا يعطي الفرصة للولايات المتحدة ان تعيد هيمنتها الكاملة في المنطقة. اما محاولات زعزعة النظام الايراني من الداخل فلقد اثبتت عدم قدرتها على تحقيق اية نجاحات كبيرة. وكذلك العقوبات الاقتصادية المتصاعدة لن تجدِ نفعا طالما ظلت بعض الدول بحاجة للنفط الايراني وطالما ظلت الاحزاب الموالية لايران تحكم في العراق. كما اناسرائيل لن تنعم بامان او استقرار اذا ما ارتكبت هكذا خطأ، لان كل الدلائل تشير الى حقيقة ان المقاومة وايران سيجعلون النيران تطال كل مدن ومناطق فلسطين المحتلة، وان هذه النتيجة لن ينفع معها حتى محاولة استخدام اسرائيل لسلاح نووي او قبب حديدية او طيران متقدم، والاكيد فانه في حالة حصول هكذا كارثة، واذا ما اصرت إسرائيل والولايات المتحدة على تنفيذ مخططاتهم التوسعية، فان المنطقة ستفقد كل مقومات الحياة فيها، ناهيك عن تفشي الارهاب والمنظمات الارهابية حول العالم بصورة تفوق ما حصل بعد احتلال العراق.
مرة اخرى يجب التذكير والتكرار ان واضعي الخطط والاستراتيجيات من الاميركان والاسرائيليين لن يتورعوا عن ارتكاب اية حماقة، وهذا ما يجعل المنطقة تعيش على كف عفريت. ومرة اخرى يجب ان نتذكر ان كل التحذيرات العالمية ضد عملية شن الحرب على العراق واحتلاله، ورفض مجلس الامن الموافقة على تلك الخطة وخروج التظاهرات المليونية الرافضة لها، لم يمنع الولايات المتحدة وبريطانيا واسرائيل من شن تلك الحرب. والان لا يوجد في الافق ما يشير الى وجود اية عوامل او اطراف رادعة اذا ما قررت تلك الدول تكرار جريمتها مع ايران، وهذا الحال سيستمر طالما ظل صانعوا القرار في تلك الدول يعتقدون بل ويؤمنون ان ما يفعلونه هو (خدمة لاسرائيل ولامنها ولبقائها).
*كاتب واكاديمي عراقيه
547 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع