د. جابر أبي جابر
دور الغرب في تحقيق مشاريع التصنيع الثقيل بالاتحاد السوفيتي
في العقود الأخيرة من العهد القيصري كانت حصة الصناعة في اقتصاد روسيا حتى 1914 تنمو باطراد. ولكن هذه العملية الطبيعية للتحول من الاقتصاد الزراعي إلى الاقتصاد الصناعي انقطعت من جراء اندلاع الحرب العالمية الأولى ثم الحرب الأهلية. وفي العشرينات كانت قدرات السياسة الاقتصادية الجديدة (النيب) المدعوة إلى إعادة بناء الاقتصاد المدمر محدودة. فقد تمحور حول الإنتاج السلعي الصغير والمضاربات. ولإقامة مؤسسات صناعية كبيرة كان الأمر يتطلب عقوداً من الزمن. ولكن البلاشفة لم يرغبوا مطلقاً في عودة سيطرة القطاع الخاص لفترة طويلة ولاسيما في ظروف الخطر الخارجي، الذي اعتقدوا أنه يتهددهم من جانب" الدول الإمبريالية".
وقد تزامنت بداية عملية التصنيع الاشتراكي كمكون أساسي لمهمة ثلاثية العناصر ترمي إلى إعادة بناء المجتمع (التصنيع والكلخزة والثورة الثقافية) مع الخطة الخمسية الأولى لتطوير الاقتصاد الوطني(1929-1933). وفي الوقت نفسه قامت السلطة الشيوعية بإلغاء أشكال الاقتصاد الحر بحيث قُضي على التنافس مما أدى في المحصلة إلى انخفاض الخيرات المادية المنتَجة.
من أبرز مفارقات البلشفية أن الحزب، الذي اعتبر نفسه ممثلاً حقيقياً للعمال وتبنى دكتاتورية البروليتاريا كأسلوب للحكم، جاء إلى السلطة في بلد زراعي لم يكن عمال المصانع يشكلون سوى نسبة قليلة من السكان بينما كانت الأغلبية إلى عهد قريب من الفلاحين، الذين لم يتخلوا عن ارتباطهم بالأرض وصلتهم بالقرية. وكان هدف التعجيل بعملية التصنيع يكمن في إزالة هذا التناقض.
ومن وجهة نظر السياسة الخارجية فإن البلد، حسب اعتقاد قيادة الحزب الشيوعي الحاكم، كان يعيش وسط محيط معادِ وتوقع كبير لنشوب حرب جديدة نتيجة "النوايا العدوانية" للدول الرأسمالية. و بالتالي أصبح مفهوماً تماماً أنه يتعذر تعزيز الطاقات العسكرية بدون صناعة قوية وأبحاث علمية رصينة. فمن شأن الجيش القوي وحده الدفاع عن الوطن وصون استقلال أي دولة. وبهذا الصدد أشار ستالين قائلاً: "لقد تأخرنا عن البلدان المتقدمة 50-100 عام وعلينا أن نجتاز هذه المسافة في غضون عشرة أعوام. فإما أن نفعل ذلك أو أنهم" سيحكمون قبضتهم علينا". ومن جهة أخرى كان على الدولة تحسين ظروف عمل الشغيلة، التي كانت في تلك الفترة أسوأ مما كانت عليه قبل الثورة.
ولدى بحث الطريقة الأمثل لإجراء التصنيع ظهرت تصورات مختلفة لدى شتى المجموعات الحزبية، حيث أن مجموعة من أعضاء المكتب السياسي (بوخارين وتومسكي) اقترحت التركيز على دعم المزارع الفردية للفلاحين الفقراء ومتوسطي الحال، الذين يشكلون أغلبية سكان البلد، ثم بعد تحقيق نهضة زراعية ملموسة يمكن الشروع بعملية التصنيع. أما كامنيف وزينوفييف فقد اقترحا إجراء التصنيع عن طريق زيادة الضرائب المفروضة على الفلاحين. وأعلن تروتسكي وبياتاكوف تأييدهما لاستخدام الأساليب العسكرية الآمرة في إدارة شؤون الاقتصاد.
وفي المحصلة اعتمد المؤتمر الرابع عشر للحزب (كانون 1/ ديسمبر عام 1925) قراراً بالتوجه نحو التصنيع. وكان الهدف من ذلك الاستغناء عن استيراد الآلات والمعدات المختلفة وتحويل الاتحاد السوفيتي من بلد مستورد إلى بلد مصنّع لها. واستدعى بلوغ هذا الهدف حل عدة مهام وبالدرجة الأولى إعادة تجهيز الصناعة والزراعة تقنياً وتعزيز القدرة الدفاعية للبلد وإرساء القاعدة الاجتماعية للسلطة السوفيتية أي للبروليتاريا وإزاحة الرأسمال الخاص من نطاق الإنتاج والتوزيع. ولتحقيق ذلك أقرت الخطة الخمسية الأولى (1929- 1933). وقبل طرحها للمصادقة وضعت لها هيئة التخطيط المركزي والمجلس الأعلى للاقتصاد الوطني خمس صيغ مختلفة. ولم يأت ذلك من قبيل الصدفة إذ لم يكن لدى الحكومة المفهوم الدقيق عن الوتائر الواجب اتباعها ومصادر التمويل، التي ينبغي الاعتماد عليها لتحقيق عملية التصنيع. وكان من الواضح أن هذه العملية تتطلب أموالاً ضخمة غير متوفرة لدى الدولة. وكان هنالك اتجاهان لحل هذه المسألة. وقد تجلى الاتجاه الأول في تبني اقتراح بوخارين القاضي باعتماد التصنيع البطيء، الذي يستند إلى تطوير قطاع الأعمال الخاص واستقطاب القروض والاستثمارات الأجنبية. أما الثاني، وهو الذي كان تروتسكي يدافع عنه بحماس، فقد تجلى في إجراء عملية تصنيع سريعة استناداً للموارد الداخلية الآتية من الزراعة والصناعة الخفيفة.
وقد كان ستالين يميل في البداية إلى قبول صيغة بوخارين ولكنه أعاد النظر في مطلع عام 1928 لصالح التعجيل بعملية التصنيع. ففي الكلمة، التي ألقاها خلال الاجتماع الموسع للجنة المركزية(تموز/ يوليو عام 1928)، تبنى السكرتير العام للحزب الصيغة، التي كان قد طرحها تروتسكي، وهي تحقيق التصنيع بالاستفادة من الموارد الداخلية أي على حساب الفلاحين.
كانت الخطة الخمسية الأولى تقضي بتحقيق نمو سنوي متوسط بمقدار 19-20 في المئة. وبهذا الصدد شنت وسائل الإعلام السوفيتية حملة دعائية واسعة النطاق بخصوص ضرورة القيام بقفزة صناعية ضخمة. وفي عام 1930 بدأ العمال بشتى أنحاء البلاد وسط ظروف قاسية للغاية ببناء مئات من المؤسسات الصناعية الجديدة ومحطات توليد الكهرباء ومد الطرق البرية والسكك الحديدية. ومن أهم هذه المشاريع : محطة دنيبر الكهرمائية ومصانع الميتالورجيا في مغنيتوغورسك وليبتسك وتشيليابنسك وخاركوف ونوريلسك وكذلك مصانع "أورال فاغون زافود" ومعمل السيارات بمدينة غوركي(غاز) ومعمل ليخاتشوف للسيارات "زيل" بموسكو.
وكانت معظم هذه الأعمال تنفذ يدويا. وقد استخدمت فيها السلطة على نطاق واسع أعمال السخرة، التي كان يقوم بها مئات الآلاف من نزلاء معسكرات الاعتقال. وفي عام 1929 أدرجت في الخطة الخمسية الأولى كبند أساسي مسألة إنشاء فروع صناعية جديدة وإجراء عملية تصنيع ضخمة بوتائر سريعة لتذليل التخلف الاقتصادي، والاستغناء عن استيراد المواد الاستراتيجية من الدول الرأسمالية المتطورة، وتحويل الاتحاد السوفيتي من بلد زراعي إلى دولة صناعية رائدة. وقد اقتضى توسيع البناء الصناعي توفر موارد مالية كثيرة.
ومن أجل تحقيق ذلك قررت الحكومة السير في عدة اتجاهات منها توسيع تصدير المواد الخام والأخشاب وبيع لوحات فنية نفيسة في الخارج من متحف الارميتاج. غير أن بيع الحبوب وخاصة القمح كان المصدر الرئيسي لعملية التصنيع ، وأخيراً اصبحت هذه الإجراءات قادرة على تأمين المبالغ اللازمة لتأمين تمويل العملية المذكورة. وتحت إشراف وزير الصناعة الثقيلة غريغوري اورجنكيدزه بدأ العمل في تطوير قطاع الميتالورجيا وتوسيع الفروع الاستخراجية (النفط والفحم الحجري والمعادن المختلفة إلخ.)، وإنشاء فروع صناعية جديدة في البلد مثل تصنيع الآلات والصناعة الكيميائية وصناعة الطائرات والسيارات والجرارات فضلاً عن بناء المحطات الكهرمائية بفضل تأمين التكنولوجيا اللازمة من الغرب.
وأدت عملية إشاعة المزارع التعاونية القسرية (الكلخزة) ونزع ملكية المزارعين (الكولاك) إلى نزوح ملايين الفلاحين للمدن هرباً من المجاعة. وقد أصبح هؤلاء من أهم مصادر عملية التصنيع، التي جرت في إطار الخطتين الخماسيتين الأولى والثانية (9192-7193)، حيث تمّ تحقيق نمو سريع لاستطاعات وأحجام الإنتاج في الصناعة الثقيلة. وكان تعزير الجبروت العسكري للاتحاد السوفيتي في طليعة أهداف التصنيع الثقيل. فعلى سبيل المثال كان الجيش الأحمر في عام 1932 مجهزاً بـ 1446 دبابة وبعد عامين من ذلك أصبح لديه 7574 دبابة من الإنتاج المحلي.
وفي البداية لم تتكلل بالنجاح محاولات التصميم المستقل والبناء السريع والنوعي للمشاريع الكبرى المعقدة فنياً. وبات واضحاً للسلطات السوفيتية أن خبرة ما قبل الثورة لم تصلح للتعجيل بعملية التصنيع الثقيل. وفي ظل هذه الظروف كان لا بد من اللجوء إلى استخدام الخبرات الغنية للشركات الغربية لتنفيذ المشاريع الكبرى للخطة الخمسية الأولى. ففي شباط/ فبراير عام 1930 جرى التوقيع على اتفاقية بين مؤسسة "آمتورغ" السوفيتية وشركة المهندس العماري الأمريكي ألبرت كان،(albert kahn incoperation) ، التي بموجبها أصبحت هذه الشركة الاستشاري الرئيسي للحكومة السوفيتية، وحصلت، في الوقت نفسه، على حزمة طلبيات بقرابة ملياري دولار(تعادل حوالي 120 مليار دولار بالأسعار الحالية) تتعلق ببناء 500 مشروع صناعي. وعقب ذلك افتتح بموسكو فرع لشركة "ألبرت كان" تحت اسم "غوسبرويكت ستروي". وقد ترأس هذا الفرع شقيق رئيس الشركة موريس. وكان يعمل معه 25 مهندساً أمريكياً رئيسياً وزهاء 2500 من المهندسين والموظفين السوفيت. وقد كان هذا المكتب المعماري في حينه أكبر مكتب هندسي في العالم. وخلال 3 سنوات من نشاطه عمل فيه أكثر من 4 آلاف مهندس وفني سوفيتي قاموا في غضون ذلك بدراسة التجربة الأمريكية. وفي موسكو كان يعمل أيضاً " المكتب المركزي لتصميم الآلات الثقيلة" التابع لشركة "ديماغ" الألمانية.
وقد لعبت شركة"ألبرت كان" دور المنسق العام بين صاحب الطلبيات (الزبون) السوفيتي ومئات الشركات الغربية المصدرة للمعدات والتجهيزات المختلفة والمقدمة للاستشارات الفنية الخاصة ببناء منشآت معينة. وعلى سبيل المثال نفذت شركة "فورد" المشروع الفني لمصنع سيارات غوركي. أما تصميم بناء المصنع فقد وضعته الشركة الأمريكية" أوستين موتور كومباني". وقامت شركة" ألبرت كان" بتصميم مصنع كراسي التحميل في موسكو، الذي جرى تشييده بمساعدة فنية من قبل شركة"Riv" الإيطالية. كما تجدر الإشارة إلى أن مصنع الجرارات في ستالينغراد كان قد بُني في البداية بالولايات المتحدة ثم جرى تفكيكه ونقله بعد ذلك إلى الاتحاد السوفيتي حيث قام المهندسون الأمريكان بتركيبه. وقد جُهّز هذا المصنع بمعدات أنتجها أكثر من 80 مصنعاً أمريكياً لبناء الآلات وكذلك عدد من الشركات الألمانية.
وأصبح الخبير الأمريكي في بناء السدود هيو كوبير المستشار الرئيسي لبناء محطة دنيبر الكهرمائية، التي جهزت بعنفات مائية من صنع شركتي" جنرال إلكتريك" و"نيوبوت نيوز شيب بلدينغ".
ومنذ عام 1924 وحتى عام 1936 كان يعمل في موسكو مكتب استشاري لشركة "سيمنس" الألمانية، التي قامت في عام 1930 بإعداد منصة البناء لمحطة دنيبر الكهرمائية، وقدمت الاستشارات الفنية لبناء مترو الأنفاق في العاصمة السوفيتية. وقد صدّرت هذه الشركة في الثلاثينات مجموعة من العنفات البخارية إلى الاتحاد السوفيتي باستطاعة 44 ألف و55 ألف كيلوواط فضلاً عن أجهزة تشغيل آلات دلفنة الفولاذ ومصانع النسيج والورق والمعدات الكهربائية والكوابل وأجهزة القياس وأجهزة التصوير بالأشعة "روتنجين" وغيرها.
ويتضح من تحليل وثائق العشرينات والثلاثينات الدور الريادي، الذي لعبته الشركات الغربية الكبرى في تصميم وتنفيذ أهم المشاريع الصناعية بالاتحاد السوفيتي خلال الخطتين الخمسيتين الأولى والثانية. وضمن هذه الشركاتInternational General Electric, Radio Corporation of America, Ford Motor Company, International Harvester, Dupont de Nemours . تسنى للاتحاد السوفيتي الاستفادة من خبرات وإمكانيات هذه الشركات وساعدته في ذلك ظروف الكساد العالمي الكبير(1929-1933). وهكذا فقد لعبت المؤسسات الصناعية الغربية دوراً هاماً للغاية في تنفيذ مشاريع الصناعة السوفيتية الثقيلة، الذي سعت السلطات السوفيتية إلى التغاضي عن ذكره خلال عقود طويلة.
ومن أهم نتائج التصنيع:
1- تذليل تخلف البلد التقني
2- تحقيق الاستقلال الاقتصادي
3- ظهور الصناعة الثقيلة والعسكرية
4- تأمي الريف بالمعدات والآليات الزراعية الحديثة
5- تحويل الدولة الزراعية إلى واحدة من الدول الصناعية الكبرى
6- تطوير التعليم حيث أن النمو الصناعي لم يكن ممكناً بدون مهندسين ومصممين وعمال مهرة.
ولكن، من جهة أخرى، هيمنت في بنية التصنيع السوفيتي المجموعة" A "( إنتاج وسائل الإنتاج). وقد بقي الأمر على هذا الحال حتى انهيار الاتحاد السوفيتي. وبالإضافة إلى ذلك رافق عملية التصنيع نهب فظيع للمناطق الزراعية أسفر عن حدوث مجاعات واسعة النطاق في حوض نهر الفولغا وكازاخستان وأوكرانيا حيث تراوح عدد ضحايا هذه المجاعات بين 7و8 ملايين شخص. كما أدى المستوى المتدني لمعظم العمال إلى حدوث حالات تعطل متكررة للآليات والمعدات الثمينة. وقد طال ذلك بشكل خاص الجرارات والحصادات الدرّاسات.
886 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع