د. سعد ناجي جواد
كيف فضحت التظاهرات المليونية الأوروبية والأمريكية ضد الحرب على العراق اكذوبة “احترام الرأي العام”.. والى متى يظل هناك من يحاول ان يضحك على عقولنا بادعاء ان اميركا ستصلح الامور في العراق؟
في مثل هذه الايام قبل عشرين عاما بالتمام والكمال اجتاحت العواصم الأوربية ومدن الولايات المتحدة تظاهرات مليونية شعبية غير مسبوقة اعتراضا على التحضيرات للحرب على العراق. في لندن بلغ عدد المتظاهرين مليون ونصف شخص، وشارك فيها شخصيات وقيادات سياسية من كل الأحزاب، بالاضافة الى اصحاب مهن طبية وطلاب وأكاديميين وعمال وعوائل ونساء يحملن او يدفعن اطفالهن في عرباتهم الصغيرة. وعلى حد تعبير احد الصحفيين انذاك ان حتى الجهات التي دعت الى تلك التظاهرات فوجئت بالإعداد الهائلة التي شاركت فيها. ونفس الإعداد سارت في باريس وواشنطن ونيويورك امام البيت الأبيض ومقر الامم المتحدة وعواصم أوربية اخرى.
اما المظاهرة الاكبر فلقد كانت تلك التي سارت في وسط روما والتي بلغ تعداد المشاركين فيها ثلاثة ملايين متظاهر.
كان السبب الرئيس لخروج هذه الإعداد الهائلة هو التقرير الذي قدمه هانس بليكس رئيس لجنة البحث عن أسلحة الدمار المزعومة في العراق، قبل اسبوع تقريبا من انطلاق تلك الفعاليات، والذي قال فيه انه بعد عمل سنين لم تعثر اللجنة على اية أسلحة محظورة، وطلب إمهاله وفريقه مدة اكثر. (طبعا بعد سنين من احتلال وتدمير العراق اعترف اغلب الفنيين الأعضاء في لجان التفتيش، وليس رجال المخابرات الامريكية والاسرائيلية، انهم كانوا يُجبَرون على تقديم تقارير غامضة عن عملهم او اخرى ملتوية من اجل ان تستخدمها الإدارتين الامريكية والبريطانية لإدامة الحصار على الشعب العراقي وتبرير الحرب).
كانت المظاهرات تطالب بأمرين: الاول منح فرق التفتيش مدة اطول والثاني عدم الشروع باي عمل عسكري ضد العراق بدون موافقة الامم المتحدة. ولكن كل ذلك لم يحصل وشن التحالف الامريكي-البريطاني-الاسرائيلي الحرب التدميرية على العراق ضاربا عرض الحائط موقف الرأي العام الساحق وغير المسبوق، وكذلك رفض مجلس الامن اضفاء الشرعية على تلك الحرب. وبعد ان تم الاحتلال اتخذت الامم المتحدة، التي كانت قد أعلنت في عام 1964 نهاية عصر الاستعمار، قرارها المخزي باعتبار العراق دولة مستعمَرة من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا. والأكثر من ذلك ظلت تلك المنظمة ، ولا تزال، تتفرج على المآسي التي يتعرض لها العراقيون (ومعهم السوريون والليبيون واليمنيون) دون ان تحرك ساكنا، وهذا موضوع اخر.
عندما كنا ندرس في الجامعات الغربية، ونظرائنا في الجامعات الامريكية، كنا كثيرا ما نصطدم او بالأحرى نُحرَج من قبل اساتذتنا او زملائنا الغربيين حول مواقف بلدانهم (الديمقراطية) من القضية الفلسطينية وسلب حقوق شعب كامل وتشريده، ونبدي لهم عجبنا لسياسات الدعم غير المحدود لإسرائيل، والسكوت عن جرائمها العنصرية تجاه الفلسطينيين، وكان الجواب يأتينا دائما، (وهذا ما لا يزال يردده بعض المحللين الغربين لحد الان)، ان الحكومات الديمقراطية، وفي الولايات المتحدة بالذات لا تستطيع ان تهمل الرأي العام الداعم لإسرائيل، وان الأخذ بالرأي العام هو من أهم أسس الديمقراطية الغربية . لكن عندما قررت ادارة المحافظين الجدد وحلفائهم من حكام الغرب تدمير العراق خدمة لأمن اسرائيل وللاستحواذ على النفط، تم رمي موقف واراء ملايين البشر في سلة المهملات، والأكثر انه لم يظهر علينا احد قبل وقوع الكارثة ليقول للحكومتين الامريكية والبريطانية ان عدم احترام الرأي العام يمثل خرقا للدساتير والأعراف الديمقراطية. اما توني بلير فلقد برر قراره الطائش والإجرامي بقوله (كانوا يقولون لي ان استمع الى راي الناس، وهذا امر جيد، ولكن كيف لي ان افعل ذلك والناس لديها آراء مختلفة؟).
وعندما التقى بعدد من الأكاديميين البريطانيين، الذين اخبروه جميعا، باستثناء واحد اسرائيلي الهوى، ان الحرب مغامرة غير محسوبة النتائج قال (نعم ولكن صدام حسين رجل سيء) وذهب الى الحرب، وسكت عن الاسوأ الذين أتوا من بعده. اما المحافظين الجدد الذين ينتقدون أنظمة دينية شمولية ويبذلون الأموال لمحاربتها وإسقاطها بدعوى انها متخلفة وتعتمد على للغيبيات فانهم لم يفعلوا شيئا عندما قال بوش الصغير ان الحرب على العراق كانت أمراً ربانياً.
ما اثار هذا الكلام هو ليس ذكرى تلك المظاهرات فقط، او مشاهدة العراق وهو يُنخر من قبل الفاسدين او يُتلاعب به من قبل أطراف خارجية عديدة، او وهو يُضيّع ثروات أجياله القادمة بعمليات سرقة منظمة وغير مسبوقة، وسط سكوت مريب للحكومات المتعاقبة والأجهزة القضائية والدول التي دمرته بدعوى تحريره، وإنما السبب هو عودة الأصوات التي تبشرنا بان الحل الامريكي قادم، وان امريكا ستضع حدا للسرقات المليارية وستعيد الأموال المنهوبة وتحاسب الفاسدين والذين تسببوا او ساهموا في قتل العراقيين، متناسين ان من تسبب في ذلك بالأساس، وأسس له هي الولايات المتحدة نفسها وسياسيوها الطائشون المتعجرفون والحاقدون على كل ما هو عربي. كما يتناسى أولئك المبشرون ان الهدف الرئيس للاحتلال كان هو لتدمير العراق وليس لبنائه كنموذج سياسي واقتصادي متطور، كما كان يصرح من اصطفوا مع الاحتلال وخدموه ومكنوه من احتلال بلدهم كأُجراء رخيصي الثمن .
مرة اخرى يحب التأكيد، وفي ذكرى التظاهرات المليونية التي جرت في مثل هذا الشهر قبل عشرون عاما، بانه لا يحق للحكومات او الصحافة الغربية ان تتحدث عن عدم وجود احترام للرأي العام في دول العالم الثالث، لأن من لم يحترم ذلك حقيقة هي الأنظمة الغربية، ومن سكت عن جريمة احتلال العراق هي الصحافة واجهزة الاعلام التي لا تزال تدعي انها (حرة ومحايدة وحريصة على حقوق الانسان). اما ما كتب وانتقد بعد وقوع الجريمة فهذا لن يغير من الامر شيئا، وينطبق عليه المثل الإنكليزي الذي يقول
It is easy to be wise after the event
من السهل ان تكون حكيما بعد الحدث.
بعد أسابيع قليلة ستحل الذكرى العشرون للحرب والاحتلال. هذه الذكرى المؤلمة التي لا يستطيع احد ان يقدر فظاعتها الا من عاشها. وكل الكلمات لا يمكن ان تصف ذلك. وذكريات ما جرى في العراق اثناء الاحتلال وبعده تحتاج الى مقال بل مقالات اخرى لتذكير الاجيال القادمة بالكارثة التي ارجعت العراق عقودا الى الوراء. وليس لنا لدينا ما نتأسى به الا قوله تعالى:
بِسْم الله الرحمن الرحيم ( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) صدق الله العظيم
891 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع