رمضان مهلهل سدخان
بمناسبة مئوية الشاعرة نازك الملائكة
كزنبقة ماء تنشر عطراً بحجم غربتها، وتتفتح قوافي بلون حلم أزرق ما يلبث أن يتشظّى ويستحيل رماداً، فتكون بذلك نشيداً يحكي زمناً ضاع بين الأسفار.. إنها "عاشقة الليل"، هائمة "في وادي الحياة" وهي تترنم بـ "مرثية يوم تافه".. وبرغم "الكوليرا" الذي أجهز على بعض محبيها، هناك دائما ذلك "الخيط المشدود في شجرة السرو" يجذبها إليه نسغ تتوحّد فيه مع نفسها "في أغنية حب للكلمات".. وها قد "مرَّ القطار"، وحانت "صلاة الأشباح" بين جمع من "غرباء" تحت "شجرة القمر"، فتتساءل مستغربة شاكية "أيغيّر ألوانه البحر"؟! فيأتيها الجواب من "قرارة الموجة" بأنها "في وادي العبيد"، لم يبقَ لها متسع "للصلاة والثورة".. أو حتى متسع لتوديع الأحبة الذين تركوها نبتةً برية، تذبل على رويدها ويجف عودُها الغض، بعد أن انقطع عنها القطر وبقيت تصارع العلل وأمراض الكبر منذ عام 1990، إذ عاشت في منفى فرضته بمحض إرادتها على نفسها، مفضّلة الوحدة والانقطاع عن الناس.. إنها الشاعرة الرقيقة، نازك الملائكة، التي أبصرت النور عام 1923 في بغداد وفارقت مريديها يوم الأربعاء 20 حزيران من سنة 2007 في مستشفىً في القاهرة بعد صراع طويل مع المرض والوحدة والإهمال وكأنها تقول معاتبة:
إلامَ يا زورقي المعنَّى نرجو إلى الشاطيء الوصولا
والموج من حولنا جبالٌ سُدَّتْ على خطونا السبيلا (من قصيدة: في وادي الحياة)
ولدت الشاعرة الراحلة نازك صادق الملائكة في بغداد في 23 آب، 1923 في عائلة معروفة بالأدب والثقافة. إذ كان والدها شاعراً ومدرّساً للغة العربية في المدارس الثانوية ببغداد، تاركاً موسوعة تتألف من 20 مجلداً تبحث في قضايا الأدب العربي. فيما كانت أمها شاعرة أيضاً درجت على كتابة الشعر تحت اسم مستعار هو "أم نزار". فلا غرو، إذن، أن تقرض شاعرتنا نازك الملائكة الشعر و لمّا تبلغ الحلم بعد، فالّفت في عمر العشر سنوات أولى قصائدها في العربية الفصحى.
درست في دار المعلمين العالية ببغداد، وحصلت على شهادة البكالوريوس عام 1942. وقد نشرت العديد من القصائد في الصحف والمجلات وهي ما تزال طالبة في تلك الدار. كما أنها سجّلت في قسم الآلات الموسيقية في معهد الفنون الجميلة لتدرس العود، وتحضر دروساً في قسم التمثيل. وبسبب معرفتها بالأدب الانكليزي، فإنها حصلت على بعثة إلى جامعة برنستون في ولاية نيو جرسي بأمريكا لتكون أول امرأة تحظى بهذه الفرصة.
في العام 1954 واصلت الملائكة دراساتها في جامعة وسكونسن حيث نالت درجة الماجستير في الآداب، فعملت أستاذة جامعية درّست في جامعتي بغداد و البصرة. وفي العام 1961 تزوجت بعبد الهادي محبوبة، وهو زميلها في قسم اللغة العربية في كلية التربية ببغداد. وبمعية زوجها، ساهمت في تأسيس جامعة البصرة عام 1963. هذا ودرّست الملائكة، بعد خروجها من العراق عام 1970 في جامعة الكويت التي تركتها عام 1990 بعد غزو الكويت. فتضطر إلى العودة إلى وطنها الأم ثم ما تلبث أن تهرب من العراق بعد أعقاب حرب الخليج الثانية متوجهة إلى القاهرة. وبرغم تحاشيها الظهور، فإن نازك الملائكة دخلت الساحة الأدبية عام 1999 بكتاب شعري جديد هو "يغيّر ألوانه البحر" الذي تضمن بعضاً من قصائدها المكتوبة قبل 25 سنة خلت في العام 1974، كما انه ضمّ لمحة عن سيرتها الذاتية.
لقد كان أول ظهور لنازك الملائكة بوصفها كاتبة عام 1947 بديوان "عاشقة الليل"، الذي يطغى عليه اليأس وخيبة الأمل، وهذا ربما انعكاس لرومانسية الأدب العربي عموماً في ثلاثينات القرن الماضي وأربعيناته. بينما ظهر ديوانها الثاني "شظايا ورماد" عام 1949 الذي جعل الشعر الحر شكلاً جديداً في الشعر الطليعي أو الحديث، سيما بعد ازدهار الشعر ذي الشطرين ردحاً طويلاً من الزمن يربو على الخمسة عشر قرناً. وبرغم وجود بعض التجارب التي حاولت الخروج بالشعر العربي الكلاسيكي من شرنقة الأشكال والتراكيب الصارمة في بداية القرن العشرين، فإن الشعراء لم ينجحوا في خلق شكل مقبول للشعر الحر إلاّ في أواسط الأربعينات. لقد ضمّ ديوانها هذا 11 قصيدة ومقدمة شرحت فيها حسنات الأنماط الشعرية الجديدة بالمقارنة مع الأنماط القديمة.
في الخمسينيات، أصبحت الملائكة من أبرز الشخصيات المنادية بالحداثة، وساندت هذه الحركة بكتاباتها النقدية حينما كان الجدال محتدماً بشأن شعر التفعيلة. ففي قصيدة "الكوليرا"، المستندة أصلاً على التأثير العاطفي الذي خلقه وباء الكوليرا المنتقل من مصر إلى العراق عام 1947، أظهرت نازك ولأول مرة إمكانيات الشعر الحر. مع ذلك فأن هذه القصيدة كانت مبنية على بحر الخبب أو المتدارك.
وفي قضايا المرأة، كانت الملائكة من أشد المناصرات لحقوق المرأة، وأسطع مثال على ذلك مقالها الذي نشر في الخمسينات بعنوان "المرأة بين السلبية والخيار الأخلاقي" الذي ركّزت فيه على وضع المرأة آنذاك بكل ما تعانيه من حرمان واضطهاد. وبذلك جاءت قصيدتها "مرثية امرأة لا قيمة لها" انعكاساً لوجهة نظرها تلك بالنسبة لوضع المرأة.
في أواخر الستينيات، بدأت الملائكة تنأى بنفسها عن التجريبية وأخذت تطوّر رؤى محافِظة، وتكتب قصائد دينية كزميلها السياب في فترة من فترات حياته، وغالباً ما كانت تستخدم الشعر ذا الشطرين. هذا ناهيك عن مداومتها على عزف العود والترنّم بأغاني أم كلثوم وعبد الوهاب.
وفي مجال الترجمة، قامت الشاعرة الراحلة بترجمة قصائد لشعراء كبار أمثال بايرون وتوماس غراي وروبرت بروك. وفي القصة كان لها شأن أيضاً، فقد كتبت العديد من القصص المكتنزة بالتجربة الإنسانية المتعلقة بالمرأة عبر تركيزها على ثيمات ذات طابع إنساني مشترك بين بني البشر لاسيما الاغتراب وصعوبة المواجهة والمصالحة مع الذات والآخرين. ومن بواكير قصصها "ياسمين" و "الشمس خلف قمة الجبل".
وفضلاً عن آثارها الشعرية التي صدرت تباعاً منذ العام 1947 ابتداءً بديوان "عاشقة الليل" كما أسلفنا، فإن للشاعرة الراحلة العديد من الكتب والدراسات النقدية منها: قضايا الشعر المعاصر، والصومعة والشرفة الحمراء، وسايكولوجية الشعر، و التجزيئية في المجتمع العربي.
أخيراً.. نقول رحم الله شاعرتنا الرقيقة في ذكرى مئويتها الأولى، التي في حياتها تجرّعت كؤوس الغربة غصة بعد غصة، حتى فارقت محبيها وأهليها، وبقيت قوافيها تحكي غربتها ولوعتها وحنينها وهي ترفرف حية تعلن بقاءها ما بقي الشعر والأدب.
878 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع