د. جابر ابي جابر
نتائج الحرب الأهلية في روسيا وأسباب هزيمة البيض
ألحقت الحرب الأهلية، التي أعقبت الثورة البلشفية، مصائب كبرى بشعوب روسيا. فقد حصدت أرواح حوالي 13 مليون شخص منهم 8 ملايين هلكوا من جراء الجوع والأوبئة. كما أسفرت هذه الحرب عن تشريد 5 ملايين طفل. وهاجر إلى الخارج حوالي مليوني شخص يمثلون نخبة المجتمع الروسي من حيث المستويات الثقافية والعلمية. وخلال سنوات الحرب (1917-)1921 تقلص الإنتاج الزراعي مرتين وهبط الإنتاج الصناعي ستة أضعاف بالمقارنة مع عام 1913.
ومع أن الجيش الأحمر كان يُمنى بخسائر عديدة في مختلف الجبهات إلا أنه، في نهاية المطاف، حقق النصر رغم المساعدات الأجنبية، التي كان يحصل عليها البيض. وكان تدخل فرنسا وبريطانيا وغيرها في هذه الحرب يستهدف تأمين تفوقهم على قوات الحمر. ولكن في واقع الأمراستحال هذا التدخل وبالاً على البيض لأنه أتاح للسلطات البلشفية، تحت ستار النضال ضد المحتلين، توجيه المشاعر الوطنية لدى الجماهير ضد جيوش البيض المتلقية للمساعدات الأجنبية، مما سهل على البلاشفة مهمة إنشاء جيش نظامي على أساس الخدمة الإلزامية خاضع للانضباط العسكري. وقد وصل عدد أفراده في نيسان/أبريل عام 1920 إلى أكثر من 5 ملايين مقاتل، بينما لم يكن عددهم في الشهر نفسه من عام 1918 يتجاوز المئة ألف معظمهم من الرماة اللاتفيين. وحيث أن قيادة جيش كهذا كانت تستدعي توفر كوادر عسكرية مؤهلة فإن الحكومة السوفيتية عمدت إلى استخدام خبرات عشرات الألوف من ضباط الجيش القيصري و415 ألف ضابط صف. فبدونهم، كما اعترف بذلك لينين لاحقاً، كان يتعذر إنشاء هذا الجيش وإحراز النصر. كما ساعدت على انتصاره المزايا الجيوسياسية والعسكرية الاستراتيجية لمناطق وسط روسيا، التي أصبحت حصناً للبلاشفة. وكانت موسكو وبتروغراد وغيرهما من المدن الصناعية الكبيرة في تلك المناطق تقوم بإرسال الإمدادات اللوجستية والأسلحة لهذا الجيش.
أما القوات العسكرية للبيض وأنظمتهم فقد كانت تقع بأطراف روسيا في مناطق ذات كثافة سكانية قليلة مثل سهوب الدون وكوبان وكذلك سيبيريا. وكان بوسع الحكومة السوفيتية المسيطرة على وسط البلد تحويل قواتها عند الضرورة من جبهة إلى جبهة أخرى مستخدمة الاحتياطات على أفضل شكل ممكن بينما لم تكن هذه الأفضلية متوفرة لدى البيض المتواجدين في الأطراف.
كما أن تعامل حكومات البيض مع سكان المناطق الخاضعة لها، لم يكن يتميز كثيراً عن ممارسات البلاشفة في المناطق السوفيتية. فهناك نفس أساليب العنف والقمع المعهودة لدى الشيوعيين. وبالإضافة إلى ذلك عجز البيض عن إنشاء قيادة موحدة وصياغة استراتيجية واحدة في صراعهم مع العدو المشترك. كما أنهم لم يستغلوا الفرص، التي أتاحها لهم الموقف السلبي لمعظم السكان إزاء سياسة البلاشفة. وعوضاً عن ذلك فقد قاموا بإلغاء مرسوم الأرض مما أثار استياء شديداً لدى الفلاحين.
ومن جهة أخرى فإن فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة لم تقدم، في حقيقة الأمر، الدعم الكافي لقوات البيض نظراً لاعتبارات عديدة بينها تعرض حكوماتها إلى ضغوط شديدة من جانب العمال والقوى اليسارية المتعاطفة مع البلاشفة فضلاً عن ضغوط أخرى مارستها الجاليات اليهودية المستاءة للغاية من مواقف البيض المعادية لليهود، وخاصة في مناطق أوكرانيا حيث كانت تجري أعمال سلب ونهب وجرائم عديدة ضد السكان اليهود أسفرت عن مقتل زهاء 100 ألف يهودي. ويطرح بعض المؤرخين في السنوات أموراً أخرى لعبت دورها في إخفاق حركة البيض وانتصار البلاشفة وهي:
1- تمسك البيض بموقف وطني حاسم لا يتزعزع إزاء وحدة روسيا وضد الحركات القومية الانفصالية مما حرمهم من دعم هذه الحركات ووحداتها المقاتلة. فقد تبنى كولتشاك ودينيكين وغيرهما من زعماء البيض الشعار القائل "روسيا ستكون بلداً عظيماً موحداً غير قابل للتجزئة". وهذا الشعار لم يرق لبريطانيا والغرب عموماً. كما أنه لم يترك أي أمل لغير الروس الطامحين إلى تحقيق الحكم الذاتي أو الاستقلال الكامل. وبهذا الصدد يمكن القول أنه كان بوسع الزعيم البولندي جوزيف بيلسودسكي إبداء دعم قوي للبيض لو أنهم وافقوا على منح بلاده الاستقلال. ولكنه آثر الانتظار حتى يهزمون ثم شرع بعد ذلك بالهجوم على الجيش الأحمر.
2- رفض البيض اقتراح دول الوفاق منح بولندا وفنلندا الاستقلال وتقديم حكم ذاتي لبلدان البلطيق والقوقاز نظراً لأن ذلك يهدد، حسب اعتقادهم، وحدة روسيا.
3- فقد البيض أوفى حلفائهم نتيجة تعنت دينيكين وفرانغل بخصوص تلبية مطالب القوزاق.
4- مما لا ريب فيه أن قادة البيض كانوا عسكريين احترافيين مخضرمين، ولكنهم افتقروا كثيراً إلى الحنكة السياسية. كما أن التنسيق بينهم كان شبه معدوم نتيجة الزهو والغرور والطموحات الشخصية. وفضلاً عن ذلك فإن نهجهم السياسي اقتصر على السعي لإعادة الأوضاع القديمة السائدة في العهد القيصري دون طرح أي رؤية مستقبلية واضحة.
5- عجز البيض عن إجراء مفاوضات مع المعارضة الديمقراطية والاشتراكيين المعتدلين والتنسيق معهم في مواجهة البلاشفة. وبدلاً من ذلك منعوا نشاط النقابات والأحزاب ذات التوجه الاشتراكي.
6- افتقار البيض إلى جهاز حكومي مرموق كالذي كان في حوزة البلاشفة.
7- أولى البلاشفة منذ البداية اهتماماً بالغاً بالدعاية والعمل الإيديولوجي وأغدقوا شتى الوعود على السكان فضلاً عن تصويرهم البيض كممثلين للنظام القيصري البائد. وقد لعب ذلك بلا شك دوراً محورياً في انتصارهم.
8- من الواضح أن سياسة الإرهاب الأحمر والتماسك الإيديولوجي السياسي والتنظيمي والنزعة الأممية ساعدت السلطة البلشفية بلا شك على تحقيق النصر. وقد تجلت هذه النزعة في مشاركة عشرات الألوف من أسرى الحرب العالمية الأولى الأجانب في القتال ضمن صفوف الجيش الأحمر والأجهزة الأمنية السوفيتية.
9- لم يكن لدى البيض إيديولوجيا جذابة.
866 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع