قصة قصيرة - فـرح

عادل شهاب الاسدي

قصة قصيرة - فـرح

يسكن سعيد في الدار الملاصقة لدارنا ، وحيدا مع امه بعد أن توفيَ والده وهو فتى في سن المراهقة ، كانت أمه تغزل الصوف وتذهب به الى السوق لتبيعه من أجل تأمين متطلبات العيش لها ولابنها ..

بيد ان سعيدا لم يك مكترثا لما حل به وبأمه من فاجعة فقدان والده ، إذ ليس له أشقاء يعينونه الا أمه التي خرحت به وحيدا في هذه الدنيا وانتظرته يكبر أمام عينها ليصبح لها سندا وعونا يخفف عنها وطأة الحياة ..
أمضت أم سعيد حياة آمنة وبسيطة مع زوجها الذي يعمل في صناعة الزوارق الخشبية ؟ وان رحيله ترك ثلمة كبيرة في حياتها ..
وهي تأسف على ابنها الوحيد إذ لم يكن كما أرادت وتمنت ..
حينما أصبح سعيدا شابا أمتهن أعمالا حرة ..ألاّ انه كان يبذر ما يحصل عليه من نقود ليلا مع رفاق السوء في مجالس اللهو والشراب ..
قالت ام سعيد : ــ سأزوج هذا الولد العنيد عله يعود لرشده ولعل الله يرزقه بمولود فينصرف لتربيته..
ولتكون لها كنّة تعينها على امورالبيت بعد ان بلغت من الكبر ما يجعلها غير قادرة على تلبية متطلبات شؤون البيت وأبنها في الوقت ذاته ..
-تذكرت ام سعيد ثمة معارف لها في قرية ليست ببعيدة وأصدقاء عاشت معهم ايام طفولتها كانت لأسرتها فيهم سمعة طيبة ، فقد كان والدها لمرحوم الحاج صالح ( المجبرجي ) معروفا بينهم فهو يقوم بتجبير الكسور اذا ما تعرض احد ابناء القرية لكسر في رجله او يده وهو عمل تطوعي دون مقابل يجعله مثار احترام ومحبة اهل القرية ..
توجهت اليهم علها تجد لابنها فتاة طيبة تصلح له زوجة ..
حلت فرح جارة جديدة علينا بعد ان تزوجت من سعيد الذي يكبرها بثمانية اعوام ففرحت امه أشد الفرح وتوسمت خيرا بقدومها ..وراحت تعاملها كابنة لها تغدق عليها من العطف والحب ما بوسعها سيما وأن فرحاً فتاة آسرة الجمال خلوق وخجولة مطيعة ومهذبة تنحدر من عائلة طيبة ومتواضعة ..
فرح فتاة رشيقة القوام مكتنزة الجسم تفيض بالعافية عذبة بضة كأنها الشمع ، لا تكاد ان تسمع لها صوتا تتدفق حيوية وجمالا . كل ما ترجوه فرح هو ان يكون لها زوج يحبها ويحنو عليها ويوفر لها حياة كريمة وهادئة .. تحلم بأسرة صغيرة وابناء يملأون عليها حياتها .
أمضت فرح بداية أيامها مع سعيد حياة عادية وتقليدية ، وكانت أم سعيد أخذت على ابنها عهدا أن يصون زوجته ويحسن معاملتها ، فهي تخشى سلوكه الشائن وان البنت كانت لما تزل صغيرة لا تعرف في شؤون الحياة الزوجية شيئا . بدا سعيد ان للوهلة الاولى التي سبقت زواجه وما بعدها شابا مطيعا مهذبا حتى أثار إعجاب أمه التي كانت تدعو الله ان يهدي ابنها لسواء السبيل .
في بيتنا الملاصق لبيت ام سعيد كنا نعيش انا وامي واختي (بهية) التي لم تتزوج بعد مجيء (فرح) جارة لنا بشكل مفاجئ أدخل السرور الى قلب اختي الطيبة ، ولعلها وجدت من يشاطرها وحدتها وقد وقد تصبح فرحا صديقة لها تؤنسها فهما متقاربتان في العمر ..
علاقتنا مع عائلة أبي سعيد كجارين قديمة جدا وخصوصا مع زوجته حيث تربطها بوالدتي صداقة حميمة فهما تتزاوران فيما بينهما وتقضيان شوطا متجاذبتين َ أطراف الحديث ..تسر كل واحدها للأخرى ما يحدث من امور خاصة منها وعامة كنا نسكن بيوتا بسيطة ذات طابع قديم بنيت من الطابوق والجص والطين وقد حفر الزمن أخاديد وتشققات على سطوح جدرانها العتيقة وخصوصا ذلك الجدار الذي يقطع البيت عرضا ليفصل بيننا وبيت ام سعيد لدرجة تتيح لك منا يلمح حركة بعضنا وهو داخل بيته ، حتى بات امرا طبيعيا ذلك لعمق الصلة والثقة فيما بيننا . وكثيرا ما كانت والدتي تنادي ام سعيد من خلال شقوق الحائط لأمر ما ..
ثلاثة أمتار فقط تفصل بينها وبين الحائط الذي أقف خلفه حيث كنت المح (فرحا) بوجهها المتوهج وثوبها البنفسحي الملتصق على جسدها المكتنز وصدرها النافر وهي تحمل سلة غسيل الملابس لتقوم بنشرها على الحبل المربوط بين شباك الحجرة والعمود الخشبي للسقيفة المنتصبة في ركن البيت ، وكنت أتبين شكل نهديها الكُمثرَيّين وهما يتقافزان كعصفورين وجلين كلما انحنت لتلتقط قطعة ثوب من سلة الغسيل ، وحينما تهم بنشرها على الحبل ينفرج ثوبها عن ساقين بيضاوين منحوتين يلصفان تحت اشعة الشمس ، فيما تركت جدائلها تنسرح أسفل ظهرها كشرائط حريرية ، فتضطرب أنفاسي ويكاد قلبي أن يفرّ من بين أضلعي، ولكني سرعان ما أعود واخفض بصري موبخا نفسي على فعلتي ، وأكيل همسات الحسد لسعيد لما أعطاه الله من نعمة عيه أن يصونها !
لم تكُ علاقتي بسعيد علاقة وطيدة رغم اننا نعيش متجاورين طوال تلك السنين فهو لديه ما يناسبه من الأصدقاء، أما أنا فكنت أعمل في محل خياطة اخرج صباح كل يوم وأعود بعد المغرب ، كنت أدخر بعض ما أحصل عليه من أجور لقاء لإتمام مشروع زواجي المستقبلي ، أمنيتي هو أن أصبح
كاتب معروفا إذ كنت مولعا بالمطالعة وقراءة القصص ، كما وأنني كنت أحرص على توفير ما يلزم عائلتي أمي وأختي (بهية ) التي أحبها كثيرا ..
تمر الشهور وتتعاقب الأيام وها هي السنة تمضي عصيبة على (فرح) تكتم وتتحمل نكد سعيد الذي ما فتئ يعود لطباعه من سهر وشرب للخمر حتى راح يتطاول عليها بالضرب والشتم بعيدا عن مسامع وأنظار أمه بيد انها تُصَبرُ نفسها على تصرفاته معها وتدعو الله ان يهديه مذهولة من سلوك زوجها المفاجئ فهي لا تعلم إنما تلك هي طباعه الحقيقية التي جُبِلَ عليها والتي كانت قبل ان ترتبط به كزوجة ..
كان سعد يحذر (فرح ) من فكرة ان تشكوه لأمه التي لم تعلم إن ابنها نقض عهدها وعاد الى ما كانت تخشاه مهددا امرأته بالطلاق ، كانت تنظر بفارغ الصبر أن تحمل كنتها حفيدا لها يملأ حياتها بهحة وسرور ، بيد أن سعيدا لم يكن يعنيه ذلك الأمر !
لم تستطع (فرح) وهي الفتاة الصغيرة ان تكتم ما تلاقيه من زوجها من ضيم وتعسف وهو يعاود ضربها كلما كان يأتيها مخمورا منتصف الليل، إذ كانت تشكو حالها لأختها (بهية) القريبة الى نفسها كلما سنحت لها فرصة المجئ الى بيتنا فهي المتنفس الوحيد بالنسبة لها لتفرغ ما في داخلها من آلام مبرحة حتى أنها كانت تَريَ اختي أثار والضرب والكدمات التي تنتشر على جسدها الغض جراء مكان ما يفعله سعيد بها فتندب حظها وتبكي بحرقة وألم لا تدري ماذا تفعل وأي حياة تلك التي فُرِضَت عليها وأي مصير ستلاقيه إذا ما شكت سعيدا لعمتها غير إنها أخبرت أهله بما آلت إليه حياتها من عذاب وشقاء في ظل تهديد ووعيد سعيد غير أن تضع رأسها في حضن صديقتها القريبة لقلبها وتروح تجهش ببكاء مرّ ودموعها تنهمر على خديها المتوردين ..وهي لم تزل في سنتها الأولى من زواجها..
تقص ( بهية) على أمي كل تلاقيه (فرح) من (سعيد) وكنت أسمع ذلك وقليي يتقطع حزنا عليها ووددت لو أتي ظفرت سعيدا لأشبعته ضربا لجحوده النعمة التي وهبها الله إليه..
لم تستطع أمي صبرا بعد ما طالت معاناة (فرح) فقررت ان تخبر جارتها بكل ما يجري لكنتها على يد ولدها سعيد وليكن ما يكون !
صعقت أم سعيد وهي استمع مذهولة غير مصدقة كلام أمي عما تعانيه (فرح) . قالت أمي:
ــ هلمي يا فرح وأري عمتك أثار الضرب على جسدك . وما أنْ رأته من آثار حتى أحتضنت كنتها الصغيرة . صارخة يا ويلتاه قاتل الله سعيدا على فعلته والله انه لن يستأهلك هذا الكلب !
ــ بأي وجهٍ سأقابل أهلك وبأي عذر سأعتذر. وماذا عن الأمانة التي وعدت اني سأصونها عاتبة على جارتها أم يوسف لأنها لم تخبرها من البداية !
لم يأبه (سعيد) لكلام أمه التي راحت تميل له كلمات العتب والتوبيخ وهي تهم بضربه لسلوكه السادي والتعسفي بحق زوجته المسكينة بل أخذ يردد فلتذهب أينما تذهب فلا حاجة لي بها .
لا أعلم سر تعلقي بـ ( فرح ) منذ قدومها ولماذا قلبي ما برح يدق لها وكأنها تعيش في معي .. تأكل وتشرب وتنام ، وكنت أراها بين سطور الكتب التي اقرأها وأمام عيني أجدها معي في محل الخياطة وأنا أعمل ، أتعمد الوقوف بباب حجرتي حينما تزورنا ، فقط لكي أسمع صوتها الرقيق وكأنها تهمس همسا وهي تلقي التحية ، فأرد تحيتها متمتما مع نفسي
: ــ لم ينصفك الدهر مع هذا الرجل فمتى ستفرحين يا (فرح) انك لم تخلقي لهذا الإنسان الحقير وأقصد به ( سعيد ) !
في منتصف ليلة شتوية ماطرة وقد اشتد فيها البرد والناس رقود وفيما كنت منهمكا بقراءة أحد الكتب تناهى الى سمعي طرق خفيف على الباب . أصخت السمع .. نعم ..انه بابنا الذي يطرق دون شك ، ترى من الذي يأتينا في مثل هذا الوقت المتأخر في هذه الليلة المدلهمة الماطرة ؟!
كانت حجرتي قريبة من الباب الخارجي للبيت ؟ رميت الكتاب من يدي ارتديت معطفي على عجل وهرعت لأفتح باب الدار وقلبي يرفرف كأنه طير أطلق من حبسه ..
قد تكون هي .. نعم إنها ( فرح) أشعر بوجودها بل أكاد أشم عطرها ..
وما أن أنفرج الباب حتى رمت بنفسها إليّ وهي ترتجف !
ــ أدركني يا يوسف !! لقد أشبعني ضربا وهو مخمور ولم يكتفي بل أخذ يجرجرني إلى خارج البيت ويغلق الباب في وجهي زاعقا : أذهبي حيث تشائين لن أطيق وجودك بعد اليوم ! لا أعلم أين أذهب في مثل هذا الوقت سوى اللجوء اليكم ..
ــ يا إلهي ما يريده منك هذا النذل ؟ .ضممتها إلى صدري وطوقتها بذراعي لأبدد الخوف الذي يجتاح قلبه الصغير المحطم وأهدئ جسدها المرتجف . لم أتمالك نفسي في إخفاء مشاعري الهائجة نحوها ، حتى بتّ أشم عبير أنفاسها المتلاحقة وأنا أدسُ وجهي بين خصلات شعرها المعفّر بالمطر .. لم يشعر مَنْ في البيت بوجودها فالجميع يغطون في سبات عميق ،.. وكانت فرصة لي أن أروي قلبي المتعطش وهي تستسلم طوعا لذراعي اللذين ما انفكا يطوقانها كطفلة بريئة . وبحرارة المتلهف همست بأذنها
: ــ آن الأوان لأن تفرحي يا (فرح) !

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

607 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع