الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
أستاذ مُتمرِّس/ جامعة الموصل
الدكتور سعدي مهدي صالح.. طبيب الفقراء والمساكين
ونحن نستقبل شهر رمضان المبارك، والذي من أسمائه الأخرى (ربيع الفقراء)، نستعرض اليوم بإيجاز سيرة طبيب معروف جيدا في الموصل كان يُطلق عليه لقب (أبو الفقراء).
من أكبر التحديات التي تواجه الإنسان هي عند عدم قدرته على توفير متطلبات العلاج له أو لأحد أفراد أسرته. لقد أدرك العراقيون هذه الحقيقة جديدا، وقد تناقلت الأجيال مآثر أطباء عراقيين، ومن مختلف الديانات، في هذا المجال الإنساني الرحب وفي شتى المحافظات العراقية.
لقد سمعنا عن أطباء كانوا يُخصصون يوما في الأسبوع للمعالجة المجانية للمرضى الفقراء والمساكين، وآخرون كانوا يدفعون أثمان الدواء عندما يعلمون أن مرضاهم غير متمكنون ماديا؛ ونماذج أخرى على هذا الغرار.
لقد تغيرت حالة الطب كثيرا في بلدنا هذه الأيام، إلا من رحم ربي. فحل الجانب المادي محل الجانب الإنساني، وأصبح المريض سلعة بيد بعض تُجار الطب، وأصبحت ظاهرة (الأدوية الزائفة) شائعة عند نسبة غير قليلة من الأطباء والصيادلة.
الدكتور سعدي مهدي صالح (1936-2006) هو طبيب أطفال عراقي غني عن التعريف في المجتمع الموصلي، واسمه الكامل (سعدي مهدي صالح سلطان جرجيس آلنجماوي الحمداني)، وهو من مواليد قضاء الشرقاط، حيث ولد هناك عندما كان والده مقيما فيها، ثم انتقل إلى منطقة المكّاوي في الموصل القديمة.
لقد نشأ سعدي مهدي صالح نشأة دينية وتعلم منذ صغره عند الكُتاب والمُلا، وحفظ القرآن الكريم منذ نعومة أضفاره. وبعد إكمال دراسته المدرسية في الموصل دخل كلية العلوم / جامعة بغداد. ونتيجة لتفوقه في الدراسة قدَّم في السنة الثانية إلى كلية الطب في تركيا/ جامعة إسطنبول بعد اجتيازه امتحان الكفاءة واللغة. وبعد تخرجه من كلية الطب (اختصاص باطنية والأمراض المتوطنة) عاد إلى العراق وأدى خدمة الاحتياط برتبة ملازم مُجنّد وخدم في وحدة الميدان الطبية في زاخو.
لقد عمل الدكتور سعدي مهدي صالح طبيبا مقيما في مستشفى الموصل، ثم عُين طبيبا في حمام العليل والعريج، كما كان طبيبا لمنتسبي معمل الإسمنت. وعمل أيضا طبيبا في طبابة صحة المدينة، ثم أصبح مديرا لمستشفى الحميات. كما شغل منصب رئيس المجلس البلدي في محافظة نينوى للفترة (1964-1969).
لقد شارك الدكتور سعدي مهدي صالح بعدة مؤتمرات محلية ودولية؛ كمؤتمر الأطباء العرب في تونس سنة 1979، وقد ضم الوفد العراقي كل من الدكتور حافظ الحافظ والدكتور محمود الحاج قاسم والصيدلي أمين الكركجي. كما حضر مؤتمرات طبية في الكويت وإنكلترا وأمريكا واليابان وتايلاند والهند. كما كُلف رئيسا للبعثة الطبية للحج لسنوات عدة.
للدكتور سعدي مهدي صالح عدة مؤلفات طبية، وهي: الملاريا والإنسان، العمل بالطب الوقائي، التيفوئيد والوقاية منه.
التوجّه نحو الفقراء:
لقد كانت عيادات جميع أطباء الموصل تقع في أيمن الموصل في شارع نينوى، وبخاصة في منطقة السرجخانة. وكانت نسبة كبيرة من الساكنين في أيسر الموصل من ذوي الدخل المحدود.
إن حي (النبي يونس) المجاور لجامع (النبي يونس) عليه السلام، هو من الأحياء الشعبية الكبيرة ويقع في أيسر الموصل، وكان المواطنون يعانون من بُعد عيادات الأطباء والصيدليات عنهم. لذا قرر الدكتور سعدي مهدي صالح أن يذهب إلى مرضى ذلك الحي بدل أن يأتون إليه، علما أن سكن عائلة الدكتور سعدي كان في منطقة المحطة قرب القنصلية البريطانية في أيمن الموصل.
لقد كان الدكتور سعدي مهدي صالح أول طبيب ينقل عيادته من منطقة السرجخانة إلى منطقة النبي يونس عليه السلام في الجانب الأيسر من المدينة. وكانت أجور الكشف على المرضى القادرين ماديا أقل الأجور بين أقرانه في الموصل، وبقي محافظا على هذا النهج ولم يرفع سعر الكشفية إلى أن توفاه الله تعالى.
لقد قام الدكتور سعدي مهدي صالح، وبالتعاون مع كل من غانم الدباغ وفتحي جرجيس وشمس الدين أبو طلال، بفتح صيدلية (الأمجاد) التي تقع تحت عيادته الكائنة مقابل جامع (النبي يونس) عليه السلام، حيث كان غانم الدباغ هو الوكيل الرئيسي لشركة النيل للأدوية المصرية في العراق.
وكان الدكتور سعدي يساعد الفقراء بالمعالجة المجانية وصرف الأدوية المجانية من صيدلية (الأمجاد). كما اشترى الدكتور سعدي عددا من أجهزة التحاليل ليتم إجراء التحاليل المرضيّة لمرضاه مجانا.
لقد شاع اسم الدكتور سعدي مهدي صالح في الموصل وأطرافها، حتى أن بعض المسيحيين كانوا يقصدون عيادته بالرغم من وجود العديد من الأطباء المسيحيين في الموصل في ذلك الوقت، وكان يعاملهم كما يعامل إخوانهم المسلمين.
ولم يكن نشاطه الإنساني مقتصرا على عيادته فقط، بل كان يتحرى عن الفقراء والمحتاجين ويوزع المال على مرضاه الفقراء ويصرف رواتب شهرية لهم من دون أن يعلم بها أحد.
الدكتور سعدي مهدي صالح ومدينة الزهور في الموصل:
فضلا عن نشاطات الدكتور سعدي مهدي صالح في مجال الطب، فقد كانت له مساهمته الفاعلة في إنشاء مدينة الزهور في أيسر الموصل بعد الاتفاق مع مؤسسها السيد عبد القادر العبيدي المحامي (1919- 1975).
في عقد الخمسينيات من القرن الماضي، بدأ المحامي السيد عبد القادر العبيدي زمام المبادرة لتأسيس مدينة في الجانب الشرقي من دجلة، عُرفت بمدينة الزهور، وهي تبعد ستة كيلومترات عن نهر دجلة، ولم تكن المسألة سهلة في وقتها لأن المنطقة كانت غير مأهولة ولا تتوفر فيها أي خدمات بلدية.
لقد ساهم الدكتور سعدي مهدي صالح في إنجاح هذا المشروع، وكان من أوائل من بنى بيتا هناك، وبدأ بحفر أول بئر في المنطقة في حديقة داره وقام بوضع مضخة ماء ومدَّ أنبوب إلى خارج الدار سُمّيت (بشمعة الدكتور سعدي) حيث قام بتعيين شخص يقوم بتشغيل المضخة وتزويد الناس بالمياه مجاننا. وبقيت هذه الشمعة تؤدي خدماتها للمنطقة حتى بعد مد شبكة الإسالة للمنطقة وفي أوقات الأزمات.
وباشر السيد عبد القادر العبيدي، وبالتعاون مع الدكتور سعدي، ببناء مدرسة مجاوره لداره. كما قام الدكتور سعدي ببناء (جامع عباد الرحمن) في مدينة الزهور بالموصل ووفر له كل احتياجاته.
ذكر أحد أولاد الدكتور سعدي مهدي صالح أنه بعد وفاة والده أرسل إليه شخص رسالة طلب منه عدم ذكر اسمه، وجاء فيها: " في أحد الأيام تمرضتُ مرضاً لا يعلم به إلا الله تعالى، وكان لنا جار فقير الحال يعرف الدكتور سعدي. فذهب الجار إلى عيادة الدكتور سعدي وأخبره بوجود مريض لا يقدر المجيئ إلى عيادته. فقال له الدكتور انتظرني حتى أنتهي من المراجعين وبعدين نطلع على بيت جارك سوية. وفعلا ذهبا سوية إلى بيت المريض وجلس الدكتور سعدي بجوار المريض على الأرض وفحصه ولم يجد به حالة مَرَضيّة، وأنه ليس في حاجة إلى الدواء، بل هو في حاجة ماسة إلى الطعام والغذاء. فأخرج الدكتور سعدي ظرفا ورقيا من جيبه وأعطاه إلى عائلة المريض. وبعد مغادرة الدكتور سعدي منزلهم وجدوا بداخل الظرف الدخل اليومي للدكتور سعدي".
كما يذكر أحد أولاد الدكتور سعدي مهدي صالح أنهم قد عثروا بعد وفاته على سجل يحمل عنوان (لجنة العوائل المتعففة في جامع عباد الرحمن)، وقد وجدوا فيه أسماء أشخاص وعوائل، وكل صفحة مرفق فيها نسخة من البطاقة التموينية لتلك العائلة. فمنهم من يتم تسليمه مواد غذائية مع احتساب عدد افراد العائلة، ومنهم من يتم تسليمهم مبالغ نقدية، ومنهم من يتم تسليمهم دواء للأمراض المزمنة. وكانت كل صفحة مُذيّلة بتوقيع رئيس اللجنة الدكتور سعدي مهدي صالح وتوقيع اعضاء آخرين في تلك اللجنة.
لقد توفي الدكتور سعدي مهدي صالح سنة 2006 عن عمر يناهز السبعين وقد خلّف ذكرا طيبا بين الناس وأعمالا جليلة وذرية طيبة مباركة هم: مجد وأسعد وأحمد وأرشد وآمنة وآلاء.
رحم الله الدكتور سعدي مهدي صالح وجزاه الله خيرا على ما قام به من أعمال إنسانية جليلة.
(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة: 274).
وكل رمضان وأنتم بألف خير.
1046 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع