الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
أستاذ مُتمرِّس/ جامعة الموصل
رمضان في العراق ومحطاته
مع دوران عجلة الزمن تعود بنا ذاكرتنا كل عام إلى أيام جميلة عايشناها وتمتعنا بها على بساطتها، وبقيت منقوشه في خواطرنا، ونحنّ تواقون لها كلما عادت إلينا ذكرناها من جديد. وفي هذا اليوم نستذكر أهم محطات الشهر الفضيل والتي عايشناها في الزمن الجميل.
لشهر رمضان الفضيل خصوصيته الخاصة في كل بلد إسلامي، ولكل بلد من هذه البلدان عاداته وتقاليده وخصوصيته الخاصة به. وما يميز شهر رمضان المبارك في العراق، فضلا عن تأدية العبادات والطقوس والشعائر الدينية، أن له محطات تبدأ قبيل قدوم الشهر الفضيل وتنتهي مع انتهاء العيد.
تبدء مرحلة التهيؤ لرمضان من أواخر شهر شعبان، فيقوم الناس بشراء المؤونة التي تدخل بطعام الافطار والسحور، فضلا عن المكملات الغذائية الرمضانية والتي تدخل في صناعة العصائر وما شابه ذلك. كما تقوم العوائل بتهيئة البيوت وتنظيفها لإعدادها لاستقبال الضيوف والزوار.
وتستعد المقاهي لاستقبال شرائح المجتمع بتهيئتها وتنظيفها وتجديد أثاثها وفوانيس إنارتها. وفي الجمعة الأخيرة من شهر شعبان يصعد بعض الرجال والشباب إلى شرفات المآذن وحول قباب المساجد وأسطح المنازل للترحاب بقدوم شهر رمضان مرددين مع التهاليل والتكبيرات: "مرحبا مرحبا يا رمضان .. مرحبا مرحبا يا شهر التراويح وعليك السلام ".
وفي الليلة الأخيرة من شهر شعبان أو التي قبلها يبدأ الأهالي قبيل الغروب بالتحري عن الشهر المبارك، حيث يخرج بعض الرجال ذوي الخبرة إلى أطراف المدن، ويصعد البعض إلى أسطح المنازل للتحري عن ولادة هلال رمضان.
وعند ملاحظة الهلال على هيئة خيط رفيع أبيض، يذهب المُشاهد إلى قاضي المحكمة الشرعية للإبلاغ عن الرؤية الشرعية. وبعد التأكد من قبَل القاضي من شرعية الرؤبة، يُعلن عن ثبوت شهر رمضان، ثم يُكَبر بالجوامع وتضاء مصابيح المآذن والقباب ايذانا بثبوت الشهر الفضيل. وتقوم المدفعية التي اُستخدمت في العصر العثماني بإطلاق قذائفها وسط نهر دجلة. كما كان الطبالون يجوبون في الأزقة للإعلان عن دخول شهر رمضان.
ومع الدخول في أول أيام الشهر الفضيل يبدأ نمط الحياة يتغير: فيتغير نظام النوم ليبدأ الاستيقاظ قبيل صلاة الفجر للسحور، ويتغير نظام الطعام ونظام الشراب لتكون هناك وجبتي طعام بدل الثلاث وجبات، ويتغير نظام العمل لتُراعي ظروف الصائم.
وتنشط التقاليد الاجتماعية والموروثات الشعبية خلال هذا الشهر الفضيل، وتبدأ النساء منذ العصر بتهيئة وإعداد الأطعمة التي ستجتمع فيها العائلة حول المائدة الرمضانية.
والمائدة الرمضانية العراقية تتميز بالتنوع وتعدد الأكلات العراقية الشهية، يتقدمها التمر وشوربة حساء العدس والقيسي ومختلف الأكلات الشعبية والمشويات، فضلا عن المشروبات مثل الشنينة وشربت الزبيب وشربت التمر هند.
وبالإضافة إلى هذا التنوع في الأطعمة والمشروبات هناك عادة جميلة متوارثة ولا زالت قائمة في رمضان وهي (تبادل الأطعمة)؛ حيث يقوم الجيران بإهداء بعضهم البعض بعض الأطباق المميزة لتوطيد عرى المحبة بينهم ولتٌظهر كل ربة بيت شطارتها.
ولشهر رمضان في العراق نظام خاص به، وهناك فقرات تتقيد بها أغلب العوائل وفي مختلف المحافظات. فبعد أداء صلاة المغرب بشكل جماعي في المساجد أو في المنازل والانتهاء من الإفطار، تأتي فقرة تناول وجبة الچاي العراقي (الزنكين) والذي قد يضاف إليه الهيل أو العطرة أو حبيبات الجوز لزيادة نكهته. وبطبيعة الحال يكون تناول الچاي بواسطة قدح زجاجي خاص هو (الاستكان).
والچاي المفضل في العراق هو (الچاي السيلاني) المُخدر على الفحم. وقد تغنى الشعراء بهذا الچاي، وهناك أغنية تراثية عراقية جميلة تحكي قصته.
ثم يأتي آذان العشاء مسرعا ليتوجه الرجال والأطفال والعديد من النساء إلى المساجد لأداء صلاة العشاء والتي تعقبها مباشرة صلاة التراويح، ثم تفتح المقاهي ومحلات الحلويات والكرزات والعصائر أبوابها لتبدأ بعدها الزيارات المتبادلة وحضور المجالس والتي تُقدّم فيها الحلويات الرمضانية كالبقلاوة والزلابيا وزنود الست والكنافة وغيرها.
كما تبدأ الفعاليات الاجتماعية في المناطق الشعبية، حيث تجري ألعاب شعبية بين المناطق، وبخاصة لعبة المحيبس ولعبة (الصينية) ولعبة (الفر)، حيث ينقسم الجمهور إلى فريقين، وقد تستمر هذه الفعالية إلى ساعات متأخرة من الليل بأجواء من المحبة والسرور.
إن لمّة رمضان الدينية الاجتماعية، بقدر ما تحمل من الألفة والود والمحبة بين الناس، فإنها تمثل تشكيلة من الطقوس والعبادات واللقاءات الاجتماعية التي غالبا ما يجتمع الأحبة فيها على مائدة من الموائد الغنية، إذ تعود للأجواء لعبة "المحيبس الشعبية" الشهيرة في العراق، ورهانها بالنهاية الفوز بصواني من حلويات البقلاوة والزلابية أو الكنافة العراقية أو النابلسية المُقلّدة. والفوز هنا يكون للرابح والخاسر؛ فكلهم يتقاسمون الأكلة بينهم. وفي مساء كل يوم على مدى شهر رمضان، يردد الناس بابتسامة جميلة وقلوب متسامحة "ماجينا يا ماجينا حلي الكيس وانطينا"، وواقع حالهم يقول: في شهر البركات تعاد الذكريات.
ومن مراسيم شهر رمضان الأخرى إقامة الاحتفالات الدينية في الجوامع، والسهر في الليلة السابعة والعشرين منه (ليلة القدر) حتى صلاة الفجر. كما كانت توجه دعوات لعلماء دين وقُراء قرآن من خارج العراق لاستضافتهم في الجوامع. وفي ليلة الجمعة الأخيرة من الشهر يبدأ توديع الناس للشهر الفضيل، وبنفس عبارات الترحاب بعد استبدال كلمة (مرحبا) بكلمة (الوداع).
ومن الملاحظات الأخرى في شهر رمضان المبارك ركون أرباب بعض المهن إلى الراحة والانقطاع إلى التقوى، في حين نجد أرباب مهن أخرى كالخياطون ينهمكون بالعمل ليل نهار لإكمال متطلبات الأهالي الخاصة بالعيد الذي يعقب شهر رمضان مباشرة.
من الفعاليات الرمضانية الشعبية الفلكلورية التراثية العراقية في بغداد وجنوب العراق عادة (الماجينا) والتي تبدأ بعد أذان المغرب يوم الخامس عشر من رمضان بأنشودة:
ما جينا يا ما جينا ... حلي الكيس وأعطينا
تعطونا لو نعطيكم ... لبيت مكّة نودّيكم
ربي العالي يخَلّيكم ... تعطونا كلما جينا
الله يخلي راعي البيت.. آمين بجاه الله وإسماعيل.. آمين
ومع الاقتراب من نهاية الشهر الفضيل والتهيؤ لعيد الفطر المبارك، تبدأ الاستعدادات لعمل (كليچة العيد). والكليچة هي ملكة الحلويّات الشعبيّة في العراق، وقد استخدمها العراقيون منذ القديم كمادة غذائية سهلة الحفظ، وهي تتحمل الخزن الطويل فضلا عن كونها غذاء متكامل.
والكليچة هي زي العيد.. والعيد اللي بلا كليچة ما عليه زي عيد، كما تقول العراقيات الماجدات. لذا نجد، حتى في بلاد الغربة، لا يخلوا بيت عراقي من (كليچة العيد). والكليچة ممكن أن تكون سادة بدون حشوة، وممكن أن تكون محشوّة بالتمر أو الجوز أو السمسم أو جوز الهند.
وفي الموصل، وفي أواخر أيام رمضان يخرج الصبيان من الذكور والإناث سوية بعد المغرب ويطرقون أبواب جيرانهم مهنئين إياهم بقدوم العيد وهم ينشدون:
يالعايدة .. يالعايدة .. باب الچبير .. باب الچبير
عامودكم فضة .. ودايركم حرير
تنـطونا لو ننـطيكم .. بيت مكة انوديـكم
هذي مكة المعمـورة .. مبنيـة بجـص ونـوره
الله إيخلّي الواحد.. آمين
وبجاه الله وإسماعين .. آمين
فيقوم أهل الدار بإعطائهم (كليجة العيد) والعيدانية، وإذا لم يستجيبوا لهم ولم يعطوهم يغنون:
هاون هاون .. هاون .. تنطونا لو نتكاون
سغبس سغبس .. سغبس ... تنطونا لو نتكغبس
وقد وثَّق الفنان زكي إبراهيم هذه الأغنية التراثية الجميلة ضمن الفعاليات المدرسية في الموصل.
وفي صبيحة يوم العيد ينهض الأطفال وهم يرددون (جا العيد .. والسيارة اباب جديد)، أما الرجال فيخرجون لأداء صلاة العيد ثم ينتقلون مع النساء لزيارة المقابر لقراءة الفاتحة على أرواح موتاهم.
وتجتمع العوائل في بيت كبير العائلة، وتتنافس النساء في صناعة أطباق الطعام. ومن الأمور التي يحرصون عليها ارتداء الملابس الجديدة وإعطاء العيدانيات للأطفال.
ويمضي العيد مسرعا ويتهيأ الناس للعودة إلى الحياة الطبيعية، وفي مساء ثالث أيام العيد تُنشد النساء: (راح العيد وقلقو ... كلمن يرجع الخُوَقو)، و (خُوَقو) تعني: الملابس القديمة.
https://www.youtube.com/watch?v=pTxjmgRQvd4
مبارك لكم شهر رمضان الفضيل وعيد فطر مبارك.. وكل عام وأنتم بخير.
1352 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع