د. سعد ناجي جواد*
في ذكرى يوم ٩ نيسان ٢٠٠٣ المشؤوم.. حقائق تتكشف يوما بعد يوم.. بغداد لم تسقط ولكن اجتاحها الساقطون من احفاد هولاكو
تمر اليوم الذكرى العشرين لدخول القوات الامريكية الغازية الى بغداد، هذه الذكرى التي يستعيد فيها غالبية ابناء العراق وبالم ما جرى لبلدهم. بعد هذه السنين العجاف لم يبق هناك من يعتقد ان ما حصل في عام 2003 كان تحريرا او خطوة نحو ارساء ديمقراطية في العراق، اللهم الا من كان في قلبه مرض. في ذكرى بداية الحرب البربرية التي حلت في 20 آذار/مارس الماضي، امتلأت الصحف الغربية والأمريكية وكذلك برامج المرئيات بمقالات ومقابلات كلها تحدثت عن ذلك الحدث على اساس انه كان خطاءا كبيرا قلب العالم راسا على عقب. وأجمعت كل الآراء ان قرار الحرب على العراق كان الغلطة او الخطيئة الاكبر في القرن الواحد والعشرين، لكن أيا من اصحاب هذه الأراء لم يعترف بالحقيقة الواضحة التي تقول ان ما جرى كان جريمة ضد الانسانية مع سبق الإصرار والترصد، تم الإعداد لها وتنفيذها وبشكل مقصود ولهدف مقصود، وهو تدمير العراق، ولم يكن غزو العراق خطاءا عابرا نتج عن سوء تقدير. ربما اعتقد الأشخاص الذين تحدثوا وكتبوا بهذه المناسبة (في وسائل الاعلام الغربي والأمريكي خاصة)، بانهم بانتقاداتهم قد برأوا أنفسهم وصحفهم ودولهم مما جرى من جرائم حرب راح ضحيتها في العراق فقط ما يقرب من مليوني شخص، ناهيك عن العدد الكبير من الأرامل والأيتام والمهجرين والمعوقين، والأخطر هي نسبة التلوث الكبيرة بسبب استخدام كل الأسلحة المحرمة دوليا، وخاصة اليورانيوم المنضب، والتي ستبقى اثاره في العراق لعقود قادمة. او ربما أشعرهم الاعتراف الشفهي بالخطأ (براحة ضمير). او لعل انتقادات بعضهم كانت للتخلص من (وخز الضمير)، اذا كانوا يمتلكونه. ولكن ذلك لن يحصل لان الحرب لم تكن قرارا خاطئا بل جريمة ولعنة ستظل تلاحقهم طوال حياتهم وما بعدها، وما نتج عنها من تفشي للإرهاب سيظل يضرب دولهم.
الملاحظة الملفتة للنظر انه لم يظهر مقال او متحدث واحد يقول للعالم ان على الولايات المتحدة وبريطانيا الاعتذار للشعب العراقي وللعراق ويطالب بتعويضهما نتيجة لهذه الحرب اللاشرعية واللااخلاقية ومحاكمة من اتخذ ذلك القرار، وهو ابسط ما يمكن ان يعوض به العراق وأبناءه الذين عاشوا كل هذه الكوارث وتبعاتها. ومع كل هذا الكم من الادانات كتب احد الكتاب الامريكان المشهورين (جورج فريدمان) في هذه الذكرى مندهشا من شدة الانتقادات لحرب (احتلال العراق)، الذي اصر على وصفها (بانها كانت ضرورية للقضاء على الإرهاب!!) هل يوجد استهتار وغطرسة بل وغباء اكثر من ذلك.
صحيفة الغارديان البريطانية تساءلت في هذه المناسبة اين اصبح أولئك الذين خططوا للحرب ونفذوها، (جورج بوش، توني بلير، ديك تشيني، بول ولفوفيتز، كوندليزا رايس، بول بريمر، ومن توفى منهم كولن باول ورامسفيلد وغيرهم من اقطاب المحافظين الجدد المتصهينين)، وخلصت الى ان جميعهم اغتنوا وجمعوا مئات الملايين من الدولارات بعد تلك الكارثة. والأكثر ايلاما ان قسما منهم جمع ثروته اما من سرقة اموال العراق او من العمل بمهام (استشارية) فخرية لدى دولا عربية. كما ذكر التقرير ان كل هؤلاء لا يزالون يحلون ضيوفا على نوادي ثقافية ومنتديات ومراكز أبحاث ويحصلون على مائة الف دولار وأكثر عن كل كلمة يدلون بها تتضمن تبريرات كاذبة بشان غزو العراق. وكرر ذلك ايضا مقدم برنامج تلفزيوني ناجح (Mahdi Hassan).
الأكثر غطرسة من بين الاسماء التي ذكرت هو توني بلير، الذي يكفي ان نتذكر ما قاله بعد خروجه من لجنة تحقيق تشيلكوت (2016): (لا استطيع ان اعتذر للعراق… وسأفعلها ثانية اذا تطلب الامر).
اما عن الفساد المالي للمحتلين فيكفي ان نقول انه في ظل ادارة بول بريمر اتهم هو مباشرة بقضية اختفاء ثمانية مليار ونصف دولار من اموال العراق. كما انه قام بدعوة روؤساء اهم الشركات الامريكية للعراق وقال لهم (ان العراق يمتلك المليارات وهذه الثروات كلها تحت تصرفكم). الشركة التي كان يرأسها ديك تشيني (هاليبرتون) كانت سباقة في السرقة حيث انها حصلت على عقد بتطوير ميناء ام قصر في البصرة بقيمة أربعة مليارات دولار ونصف، في وقت كانت القوات العراقية مازالت تقاوم القوات البريطانية الغازية، مع مشاريع اخرى، ثم ظهر ان الشركة لم تفعل اي شيء في هذه المشاريع وباعت قسم منها الى شركات كويتية وعراقية بأبخس الأسعار.
اعترافات روؤساء وأعضاء لجان التفتيش بدأت تتوالى، (وهم الذين كانوا الأداة الأهم لإدامة الحصار الظالم واللاإنساني ومن ثم شن الحرب، وكان كل فرد فيها يتقاضى مئات الألوف من الدولارات كرواتب، ومن اموال العراق المجمدة، بينما كان أغلبية العراقيين يتضورون جوعا بسبب الحصار الظالم). جميعهم الان يتحدثون عن كذبة أسلحة الدمار الشامل. رئيس اخر لجنة قال قبل أسابيع ان الولايات المتحدة كانت تجبره على عدم نشر اي خبر عن عدم وجود أسلحة دمار شامل في العراق، وقال ان بوش وبلير يجب ان يحالوا الى القضاء (الان يقول ذلك!)، وقال اخر ان الغالبية العظمى من المفتشين كانوا ضباط مخابرات من دول مختلفة ولم يكن لهم اي صلة بالأسلحة المحظورة، واعترف ثالث مؤخرا ان هدف عملهم الوحيد كان استفزاز العراق وقيادته. وعندما سئل احدهم لماذا لم يقل ذلك في حينه اجاب بانه حاول لكن تم تهديده من قبل الادارة الامريكية بصورة مباشرة!
مقال اخر نشر في مجلة أمريكية (Responsible Statecraft) ذكر بعض الصحفيين والكتاب الذين روجوا الأكاذيب وزوروا الحقائق من اجل تبرير الحرب. وأكد الكاتب انه لم يظهر اي دليل على ندم هؤلاء على ما كتبوه وروجوا له. والاهم انه لم توجه لأي واحد منهم تهمة تلفيق الأخبار او الكذب.
نفاق الإعلام الغربي وعنصريته ظهر بجلاء عند قيام حرب أوكرانيا، اذا تساءلت بعض الصحف ووسائل الاعلام (كيف يمكن قبول قتل شعب أوربي ابيض؟ أوكرانيا ليست العراق او اية دولة شرق اوسطية).
المفارقة الاخرى ان الولايات المتحدة وبريطانيا بل واغلب الدول الأوربية منذ ان بدأت حرب أوكرانيا تسعى لجمع كل ما يدين الرئيس الروسي بوتين من اجل إحالته للمحكمة الجنائية الدولية كمجرم حرب!! وبالفعل اصدرت المحكمة قرارا بتوقيفه، بينما كل الحقائق والوثائق موجودة ومتوفرة لكل محكمة دولية لكي تحاكم مجرمي حرب العراق، ولكن لم يتم اتخاذ اي خطوة بهذا الاتجاه.
قصة كولن باول والحديث في الامم المتحدة التي يتذكرها الجميع، والتي اعترف قبل وفاته بان المخابرات خدعته بها، (مؤخرا اعترف مدير مكتبه لورنس ويلكيرسون انه هو من اعد التقرير الكاذب بناءا على طلب اجهزة مخابراتية)، تلك القصة تخفي خلفها قصة دالة اخرى لا يعرفها الكثيرون وتمثل قمة النفاق الامريكي. تقول القصة ان خلف المكان الذي جلس فيه باول في مجلس الامن ليروي قصته الكاذبة عن (ما يمتلكه العراق من أسلحة دمار شامل) توجد لوحة شهيرة للفنان العالمي الشهير بيكاسو معروفة باسم (غيرنيكا)، وهي لوحة تصور الحقائق المروعة للحروب. قبل ان يبدا حديثه طلب باول من ادارة مجلس الامن ان تغطي تلك اللوحة كي لا تظهر على الشاشة وهو يروج للحرب على العراق، وعندما اعتذرت الادارة لصعوبة فعل ذلك، طلب من كاميرات التصوير ان تظهره لوحده على الشاشة ولا تظهر اللوحة خلفه.
الأكيد ان الماكنة الإعلامية الرسمية في الولايات المتحدة قد نجحت، بعد عشرين عام على اكبر جريمة عرفها التاريخ الحديث، في اخفاء او طمس اي خبر يشير اليها او الى الجرائم التي نتجت عنها (ابو غريب، قتل المدنيين الأبرياء، ومن بينهم نساء وأطفال واستخدام الأسلحة المحظورة وغيرها). لكن ذكرى 11 سبتمبر لازالت تثار هناك بشكل واسع تحت مسمى (يجب ان لا ننسى)، وتوكد كاتبة أكاديمية أمريكية (Nazia Kazi) ان الاطراف الأمنية والاستخبارية الامريكية اصبحت هي من يمول ويخطط كل برامج الدراسات العليا في الكليات الانسانية للقيام ببحوث ودراسات عن الإرهاب ودور الولايات المتحدة في محاربته، اما حقيقة ان 38 مليون شخصا تحولوا الى لاجئين بسبب ما يسمى بالحرب على الإرهاب، فهذه لا احد يتطرق لها. الدليل الاكبر على ان الولايات المتحدة والغرب بصورة عامة لم يتعظوا من كارثة غزو العراق هو ما حدث ولا يزال يحدث في سوريا وليبيا والاهم في أوكرانيا. وما يريدونه ان يحدث في ايران.
على الجانب الاخر ظهرت اعترافات جديدة من أطراف عراقية شاركت في التمهيد والترويج للحرب على العراق، من يطّلع عليها يجد ان دور هذه الاطراف كان لا يقل خطرا وربما أكثر ضررا. في حديث تلفزيوني للسيد مسعود البرزاني مع الصحفي غسان شربل قال ان قرار الولايات المتحدة باسقاط النظام العراقي بالقوة العسكرية واحتلال العراق حظي بتأييد كافة القوى التي كانت تعتبر نفسها (معارضة) خارجية، ومن كل المكونات. وقال ان الولايات المتحدة، بعد ان فشلت في الحصول على تفويض من مجلس الامن، طلبت ان تتسلم من كل أطراف (المعارضة) طلبا للتدخل حتى تقول ان غزوها (جاء بناءا على طلب العراقيين)، وحصلت على هكذا طلب من الجميع. وفي هذا الصدد قال احد قادة الحزب الاسلامي العراقي ايضا (قناة الحوار)، ان الأحزاب الموالية لايران عندما بُلِغَت بذلك، طلبت مهله للرد، وكان واضحا، حسب قول المتحدث، انهم كانوا يريدون استشارة ايران، ثم عادوا بعد يوم ووافقوا على التوقيع على هكذا طلب. البرزاني أضاف انه دعي الى واشنطن وطُلِبَ منه ان يكون الوسيط لكي يجلب موافقة أطراف المعارضة، وانه اجتمع مع اعلى القيادات الايرانية وكلها رحبت وفرحت بفكرة الحرب، ووعدت بتقديم العون (للشيطان الاكبر) من اجل احتلال العراق. وكذلك كان الموقف التركي، الا ان انقرة، حسب البرزاني، اشترطت لقاء تعاونها ان يسمح لها بإدخال فرقتين عسكريتين واحدة تذهب لكركوك والثانية الى شمال الموصل. وهذا الطلب يثبت انه حتى سقوط النظام في العراق لم تكن تركيا تجرؤ على الدخول الى الاراضي العراقية.
معلومتان جديدتان (صادمتان) قيلت صراحة في الاعلام في هذه الذكرى: الاولى نقلت عن قائد سابق في احد الأحزاب الدينية العراقية، قال فيها ان الخلافات اشتدت بين اقطاب (المعارضة) قبل الاحتلال، ولم تنجح كل سبل جمعهم، حتى تدخل رئيس الوزراء الصهيوني نتنياهو الذي كان في زيارة الى لندن وجمع الاطراف المتخاصمة في مقره وأصلح ذات البين بينهم، وكان الوسيط هو احد ابناء مرجع ديني كبير سابق في النجف الاشرف. (لقد كُتِبَ ونُشِرَ الكثير عن علاقات أطراف من المعارضة العراقية في الخارج مع اسرائيل، وهذه العلاقة لم تعد سرا، لكن هذه الرواية التي انتشرت في مقطع فيديو على مواقع التواصل اوردها كما هي واترك لذوي العلاقة نفيها ان كانت غير صحيحة).
المعلومة الثانية جاءت على لسان قيادي منشق عن حزب اخر قدم من ايران (عبد الرزاق الحيالي) قال فيها ان حزبهم لم يلعب سوى دور الدليل للقوات الغازية ولفرق الاغتيال التي كانت تستهدف الضباط والطيارين والعلماء، وأنهم لم يكن لهم اي برنامج سياسي لما سيفعلوه بعد سقوط النظام سوى سرقة ثروات البلاد. احزاب وشخصيات اخرى بنت لها مجدا عن طريق مقارعتها للاستعمار منذ الأربعينيات رمت كل مبادئها ونضالها في سلة المهملات وتعاونت مع (الإمبريالية العالمية) من اجل احتلال وتدمير العراق.
في مسالة قانون حل الجيش العراقي والأجهزة الأمنية وحزب البعث، والذي قال بريمر انه جاء (بطلب من اقطاب المعارضة)، والدليل انهم أبلغوه بان ذلك كان اعظم قرار اتخذته ادارة الاحتلال. ظهر فيما بعد، وحسب ما ورد في كتابات بريمر نفسه انه رفض الالتحاق بوظيفته الجديدة كحاكم مدني للعراق قبل ان يحصل على تفويض بحل الجيش العراقي، وحصل على ذلك بدعم من المجموعة الصهيونية من المحافظين الجدد. في حين ان زلماي خليل زاد، السفير الامريكي الأسبق في العراق وضابط الاتصال والتنسيق مع المعارضة قبل الاحتلال، يذكر حقيقة جديدة خطيرة. يقول زلماي في كتابه (المبعوث ص 203-204) انه اجتمع مع محمد جواد ظريف (وزير الخارجية الإيراني الأسبق)، عندما كان الممثل الدائم لايران في مجلس الامن، وطلب منه المساعدة في إسقاط النظام العراقي السابق، ولما سال ظريف عن نوع المساعدة المطلوبة اخبره: ابتداءا ان لا تتعرض المقاتلات الامريكية التي قد تضطر لاستخدام الأجواء الإيرانية اثناء عملية الاحتلال، الى نيران الدفاعات الايرانية، ووافق ظريف. بالمقابل طلب ظريف ان تقوم اميركا بعد احتلال العراق بحل كل الأجهزة الأمنية التي اعتبرها (غير قابلة للإصلاح!!). اما الباحث الكويتي الاخ الدكتور عبد الله النفيسي فيقول ان القوات التي احتلت العراق كلها انطلقت من الدول الخليجية. وأضاف ان الموساد الاسرائيلي زود القوات الامريكية الغازية بقوائم تحتوي اسماء وعناوين علماء العراق في الداخل من اجل تصفيتهم جسديا، وهذا ما حصل.
كل هذه الحقائق كان يفترض ان تمثل ادلة ادانة لكل الدول والسياسيين الذين ارتكبوا جريمة احتلال العراق، وقرائن للمطالبة بالتعويضات، وكل ما يحتاجه الامر هو ان يقدم العراق ملفا للمحكمة الجنائية الدولية لاجراء تحقيق شامل بكل الجرائم التي ارتُكِبَت ضد العراق وشعبه. الا ان الكل يعلم استحالة فعل ذلك الان ولماذا. لكن الجرائم الدولية من هذا النوع لا تسقط بالتقادم، ولابد ان يأتي اليوم الذي تصل فيه الى الحكم في العراق حكومة وطنية تمثل مصالح العراقيين ونابعة من وسطهم وتتبنى هكذا قرار.
مهما طال الزمن فان دول العدوان ستضطر عاجلا ام آجلا للاعتذار الواحدة تلو الاخرى من العراق وتعويضه عن كل ما ارتُكِبَ ضده. بالتأكيد ان ذلك لن يعيد الأرواح البريئة التي ازهقت، ولكن هكذا اعتذارات ستكون بمثابة اعتراف رسمي بان كل ما جرى كان جريمة مكتملة الأركان ضد العراق وشعبه.
*كاتب واكاديمي عراقي
1385 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع