د.نادرة الحسامي
شجرة الصنوبر مع والدي
في السنة الخامسة لوفاة والدي قررت ان ازرع له شجرة دائمة الخضرة تفيه وتحميه وتدفئه وتقيه , في كل الفصول وكل أيام السنة , لا تغادره ولا تتركه ولا تقسو عليه, دوما بجانبه ومعه وعنده , يحتاجها لكي يتنفس و يترطب ويتدفأ ,ولكي يتكلم ويخاطب ويتململ, ستكون كله وبعضه, سيتحلفان ضد الزمن وغدره , ولعبة المكان واساه , حبيبين لم يجد الزمان بهما شبيها ولا نظيرا , انها علاقة التلاحم الابدي بين الذات والأخر , فهل سيرتاح ابي اكثر ويسعد في مثواه سعادة ما بعدها سعادة, قد يكون افتقدها في الحياة ولاقاها في مثواه .
ذهبت الى حيث ساجد ضالتي وطلبت بغيتي, وصاحبني وسيم الطلعة هادئها ومتزنها ومستمعها, يلبي طلبي, تجولنا معا هذه كلها اشجار دائمة الخضرة متفاوتة الحجم والقد وزمن النضج , الكبير الضخم منها لم يعجبني, والصغير الرفيع قليل الدلالات غادرته , ثم وضحت اكثر ما ابغي , أخاف ان كبرت ان تقلب الموازين راسا على عقب , فتصبح حركتها مصدر ازعاج بدل راحة , تطيح بالمكان وتقلع الجذور, ادرك ما أقول وتحرك ليراني اشجارا بطيئة في نموها , اوراقها ناعمة متطاولة القد , يتألف فيها اللون الأخضر الناصع الزاهي تزينه بقع صفراء اللون, قارنت وميزت وملت واعجبت بإحداها حملتها بين يدي وكأني احمل بيدي كما بقلبي اثرا سيدوم ..
نعم حملتها بيدي وكنت سعيدة بما سأفعل , فكرت ان لا أقوم به وحدي , سأدعو اخي معي لنزرعها سويا ونباركها لها حياة جديدة وعيد الفطر السعيد على الأبواب , ثم فكرت ان يجتمع الأولاد ويقوم الاحفاد بزراعتها , لأنها تعني الغد والغد هم , ومن سيحمل اسم والدي ويكرره , هو هذا الصغير الذي حمل اسمين معا ليختار ما يرغب منهما , ان بقى لهذا التقليد من معنى في زمن غابت فيه قيم التراث والجذور , وظهرت معاني لا تبالي سوى بما هو على الأرض اتساعا وامتدادا ! وتقودني الأحوال الى ان ترافقني في زراعة الشجرة يدان لم تلمسا التراب ولا الشجر ولا الحجر, هي كالنسيم روحا ونعومة, هي ميس الحفيدة البكر لجدها .
حملت الشجرة بإحدى يديها , ومتطلبات الزرع والحفر بيد أخرى , وحملت بيدي زهورا ستزرع عل جانبي الشجرة ستزينها بالوان متناغمة تسعد بها, اقتلعت ما كان من زهور في الحيز الترابي من القبر, ونظفته وبدأت احفر في العمق , واليد الناعمة لأول مرة تسحب الشجرة من حوضها , وتضعها في الحفرة لتناغم الابعاد , وأخيرا وضعتها واسدلنا الترب معا على جانبيها واستقرت مرتاحة , ايادي ناعمة محبه تداعبها, ثم زرع كل واحد منا نوعا من الزهور على طرفيها , سقياناها ماء واشبعناها, قرانا الفاتحة على قبر والدي , واخبرته بما فعلنا , ومن كان بصحبتي , باركنا هذا الانضمام , الذي سيكون ذكرى لمن سيرى ويسمع , وحملت معي اسم هذه الشجرة ..
في صبيحة اليوم التالي كتبت اسم الشجرة وبحثت عنها لاتعرف عليها, هي من طائفة أشجار الصنوبريات conifères والسكويات , من اقدم الأشجار عمرا على الأرض , دائمة الخضرة اوراقها ابرية , ترتصف على الفروع بتناسق جميل, فروعها تلتم على بعضها كأجمة وتتطاول نحو الأعلى , قرات عنها وامسكت القلم لأكتب عن هذا الحدث وسرحت بحديث القلب , والكلمات تتدفق بين يدي .
حياة جديدة سأعيشها مع هذا الكائن الجديد في ارضنا، نعم في ارض والدي , التي تم امتلاكها لعمر محدد الزمن 30 عاما, وبجانبها ارضا لمن رغم الزمان بوضعه هناك , ستكبر الشجرة رويدا رويدا , سأسقيها واقلمها , واتحسسها بيدي , اتحدث معها في كل مرة ازورها اسائلها عن والدي , هل هو مرتاح هل تعتني به , هل يطلب منها شيئا واشياء لا اعرفها! سأوصيها خيرا به , لقد كان حساسا ومحبا بطريقة ناعمة ووجله، يعطي ولا يتقدم كثيرا , ولا يبغي من عطاءه امرا , ستتعرف عليه رويدا رويدا وستحبه وتنسجم معه, وسأتابع علاقتهما الحلوة . فلتسعد يا والدي في مثواك , اليوم هو اول من أيام عيد الفطر السعيد , جئتك معايدة وداعية لك وحاملة اثرا بجانبك , لكي لا اتركك وحيدا, انا ابنتك التي عاشت معك العمر كله , وها هي اليوم تسلمك ليد حنونة مثلها لتتابع معها حياة أخرى تتنفس وتبتسم وتنشر البهجة والجمال , متجها نحو السماء ,الى الله , خالق الكون والحياة , ولا اعرف يد من ستقتلع هذه الشجرة , لتزرعها بمكان اخر , وهل ساكون يا ترى حاضرة في هذا المشهد ومشاهد أخرى ...
22. 04. 2023 جنيف
581 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع