خالد الدوري
في نشوء النظرية السياسية في الاسلام
حين نشرع في الاستعراض التاريخي للأوضاع السياسية في الدولة الاسلامية، من أجل فهم موقع رئاسة الدولة، (أوما يُعَبّر عنها بالإمامة)، من تفكير الفِرَق التي أدلت بدلوها فيها، فسنجد ان تعرض أصحاب الفِرَق - في وقتهم المبكر– لطرح موضوع الإمامة في أبحاثهم، ومجالسهم، والتنافس في المناظرات الكلامية التي دونوها فيما بعد، بالإسلوب الجدلي، المسوق بالحجج والبراهين، المؤيدة لوجهات النظر المختلفة. قد أدّت كل تلك التجاذبات السياسية إلى إثارة التعصبات، وتوجيه المطاعن. كما قادت إلى زيادة حِدّة الخلاف السياسي، وتفاقمه بين الفِرَق. ومن ثم أفضى كل ذلك بدوره إلى تفريق وبعثرة جهود الأُمة، وتَشكُل أُطُر المذاهب السياسية المختلفة.
لا نغالي إن عزونا سبب ظهور ونشوء أكبر وأوسع الفِرَق القديمة الى الاعتراض على صيغة الحكم واجتهاد الحاكم، فيما هو ضمن إطار صلاحياته المحققة لمعنى الإمامة . هذا الإعتراض إنطوى على تباين في الرأي، نابع عن تباين في زوايا النظر والرؤية للحدث الواحد. كلٌ يلتمس المنطلق والخلفية التي يبنى عليها إعتراضه، مما يعتقد انه الصيغة الأصح والأفضل. وهذا هو ما حصل مع الخوارج والشيعة، حيث كانت قضية قبول أمير المؤمنين علي (رضي الله عنه) لمسألة التحكيم وملابساتها ، دافعا لنشوء الفرقة الاولى. كما كان عدم الرضا عن تولية الخلفاء الثلاثة الأوائل، وما أحاط ذلك من ظروف المغالاة في الإنتصار للخليفة الرابع، دافعاً لظهور الفرقة الثانية.
كان من جراء هذا التباين والتَجاذُب، أن شهد الواقع الاسلامي نزاعا طويلا حول مفاهيم الدولة والإمامة، مما يجعل الطموح الى الصيغ التي تحقق وتكفل الإستقرار أمراً ضروريا... والحقيقة ان النزاعات السياسية بين المسلمين في القديم والحديث حول المعاني المحققة للإمامة - ان لم يتم سبكها وصياغتها – وجعلها اساسأ للتفاهم والتعايش المشترك، فستبقى تشكل خطراً كبيراً على كيان ووحدة أُمّة الاسلام.
ومن زاوية اخرى وإحقاقا للحق، لا بد أن نذكر أنّ هنالك جانب على كثير من الأهمية، قد أدى اليه هذا التجاذب والتنافس في الجدل والمناظرات الكلامية. إذ لم تكن عند أهل السنة نظرية سياسية ناضجة متكاملة في الخلافة، مستقاة من القران الكريم والسّنة النبوية الشريفة.(1) فلو إعتبرنا كتاب الخراج لأبي يوسف المتوفى سنة (182 هـ) من أقدم المؤلفات التي وُضِعت في بيان النظرية السياسية للدولة الإسلامية كمبحث مستقل،(2) فسنلاحظ أنّ المصنَّف لا يقرر نظرية متكاملة في واجبات وحقوق ومفاهيم الخلافة. وإنما هو عبارة عن مجموعة إرشادات أدبية بالدرجه الأولى. مقترنة بالنصوص، والآثار، والموضوعات الفقهية. وهذه الإرشادات مقصود بها الخليفة في تلك الأيام. ويتضح هذا في مقدمة الكتاب الموجهة الى الخليفة العباسي هارون الرشيد، حيث يخاطبه صاحب المصنَّف بقوله: (وقد كتبتُ لك ما أمرتَ به، وشرحته لك، وبينته، فتفقهه، وتدبره، وردّد قراءته حتى تحفظه، فاني قد اجتهدتُ لك في ذلك ولم آلُك والمسلمين نصحاً، إبتغاء وجه الله وثوابه وخوفَ عقابه. وإني لأرجو- ان عملتَ بما فيه من البيان- أن يوفر الله لك خراجك من غير ظلم مسلم ولا معاهد، ويصلح لك رعيتك، فإن صلاحهم بإقامة الحدود عليهم، ورفع الظلم عنهم، والتظالم فيما اشتبه من الحقوق عليهم. وكتبتُ لك أحاديث حسنة، فيها ترغيب وتحضيض على ما سالتَ عنه، مما تريد العمل به، ان شاء الله، فوفقك الله لما يرضيه عنك.)(3) فالكتاب إذاً وُضِع أساساً للخليفة وبأمر منه كذلك. ولهذا فالإمام أبو يوسف كما يبدو، قد راعى في كتابته عمداً ان يتخذ الكتاب تلك الصيغة الإرشادية، متلافيا الإشارة الى عورات يمكن ان تكون موجودة في النظام، لأن الإشارة اليها من المحتمل ان تؤدي الى إثارة فتنة، واضطراب ضد الخلافة، الممثلة والجامعة لكل المسلمين. أو لعلها هِنات أو إجتهادات، يمكن غض النظر عنها، لإنفاذ ماهو أهم من قبيل المصالح العامة التي لها الأولوية.
وكذلك الحال بالنسبه لكتاب الاحكام السلطانية والولايات الدينية، للماوردي المتوفى سنة (450 هـ) حيث يُعدّ الكتاب من أفضل ما كتب في النظرية السياسية للدولة الأسلامية. فهو قد إستفاد من جميع آراء ومذاهب الفقهاء السابقين له. ومزج نتائج المناقشات الكلامية، بتقرير ما يراه صحيحا وفق اجتهاداته وآرائه، مما نستبعد معه ان يكون قد إعتمد على نظرية سالفة مصاغة، وذات أبعاد مُعَيّنة . إضافة الى ان الكتاب هو الآخر ظهر أيضا الى الوجود بسبب خاص، يبرره الماوردي بقوله: (لما كانت الأحكام السلطانية بولاة الامور أحق، وكان امتزاجها بجميع الاحكام يقطعهم عن تصفحها مع تشاغلهم بالسياسة والتدبير، أفردت لها كتابا، إمتثلت فيه أمر من لزمت طاعته، ليعلم مذاهب الفقهاء، فيما له منها فيستوفيه، وما عليه منها فيوفيه).(4) فهو قد أعَدّ كتابه بناءً على أمر من الخليفه في زمانه، كمنهج تطبيقي لنظام الحكم ومايتصل به من مسائل. ولعل "ولا أجزم " ان المقصود بالخليفة هو الخليفة العباسي السادس والعشرون أبو جعفر عبد الله القائم بأمر الله بن أحمد القادر بالله.
والذي نستخلصه من كل ما تقدم ان الفقهاء السابقين، لم يتبنوا وضع مصنف كامل، ناضج، ومستقل، عن نظرية الإمامة ورئاسة الدولة، مستنبطة ومستوحاة كليا من القران الكريم والسنة النبوية الشريفة. وانما تكونت هذه النظرية على هدى التطورات السياسية المتاخرة، وكان وضع تفاصيلها العملية أمراً تدريجيا له صلة وثيقة بتلك المناقشات الفقهية والكلامية، والشكوك، والتجاذبات السياسية، والتوجهات المذهبية، في القرون الثلاثة الاولى.(5) فكان أهل السُّنّة ازاء ما يُتهمون به- من قبل بعض خصومهم- من خطأ عند مبايعة بعض الخلفاء، يضطرون الى الدفاع عن وجهة نظرهم، وعن الاحداث التاريخية، وتبرير منهجهم السلوكي والفقهي فيها، وبيانهم للحقائق ذات العلاقة بالعقيدة التي أوحت للجماعة المؤمنة بهذا الموقف أو ذاك. والخلاصة الجامعة للأمر، أنه لا يمكن القول بأن الأمة قد أخطأت في نهجها، واستنباطها، واجتهادها، لأن الأمة لا تجتمع على ضلال. فكان من مجموع ماجرى من أحداث ومواقف ورؤى، أعظم الأثر في رسوخ وتطور الفكر السياسي الإسلامي عموماً، وتبلور مفهوم الإمامة منه بالذات، على وجه الخصوص.
المصادر والمراجع:
(1) الخلافة والإمامة لعبد الكريم محمود يونس الخطيب، ص234 دار المعرفة للطباعة والنشر بيروت ط2 1395هـ/ 1975م.
(2) مقدمة المحققان د. فؤاد عبد المنعم ، و د. مصطفى حلمي على كتاب غيّاث الأمم للجويني، ص9 طبعة دار الدعوه بالاسكندرية. وانظر كذلك النظم الإسلامية للدكتور عبد العزيز الدوري 1/ 72 مطبعة نجيب بغداد 1950.
(3) الخراج لأبي يوسف، ص 6 نشر المطبعة السلفية ومكتبتها ، القاهرة ط4 سنة 1392هـ .
(4) الاحكام السلطانية لأبي الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي، ص3 ، شركة مكتبة ومطبعة البابي الحلبي وأولاده بمصر، ط2 سنة 1386هـ/ 1966م.
(5) النظم الاسلامية للدكتور عبد العزيز الدوري 1/ 74
604 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع