د. علي محمد فخرو
مؤسسات العبادة الإسلامية والوحدة النفسية
في مقالين سابقين بينا بعضا من أسباب وباء الوحدة النفسية العولمي. من أحد الأسباب الأخرى التي يشار إليها هي تقلص التفاعل الاجتماعي الإنساني في أحياء المدن الحديثة.
فبنية مساحات الترابط في الأحياء قد تقلصت كثيرا. وقد رأينا في السنين الأخيرة السكاكين الحكومية وهي تقلص المكتبات العامة والمتنزهات الشعبية للأطفال وكبار السن، وتقلصت أعداد المنتمين إلى عضوية المؤسسات الدينية والنوادي الاجتماعية والأحزاب وجمعيات الأعمال الخيرية وتجمعات النشاطات الثقافية المشتركة والمجالس العائلية والديوانيات في الأحياء.
وحتى في المجمعات التجارية تراجعت عادات المصافحة والتحية التعارفية أو السؤال عن أسباب الغياب المفاجئ.
وفد أثبتت دراسات ميدانية كثيرة حقيقة أنه كلما تقلصت المساحات العامة المشتركة، مثل التي أشرنا إليها، زادت وانتشرت مشاعر الوحدة النفسية وأحاسيس الضياع وعبثية الحياة عند الملايين من ساكني المدن الحديثة.
وهذا بدوره لا يمكن إلا أن يقود إلى كثير من سوء الفهم والظنون المتبادلة بين مختلف مكونات المجتمع المحلي، مما يسهل للحركات الشعبوية الكارهة للأغراب الآخرين أن تحشد كرنفالات الكراهية المتبادلة والصراعات المختلفة المبتذلة من أجل مكاسبها السياسية الآنية الانتهازية.
ومع توافر وسائل التواصل الاجتماعي الجماهيري بشكل لم يعرفه العالم قط من قبل تنعكس كل موبقات المشاكل التي ذكرنا كسيل تأجيجي تجييشي منهم وكازدياد في عدد مجانين حملة السكاكين والمسدسات الذين لا يتوانون عن قتل الأبرياء دون شعور بالذنب ودون محاسبة من صحوة الضمير.
إذ كيف تتحرك مشاعر الذنب وصحوات الضمير إذا كانت الوحدة النفسية تتطور شيئًا فشيئاً لتسبب كل أنواع الأمراض العقلية والنفسية والروحية؟
ألم يصرح بحار ملحمة الشاعر كولرج وهو يواجه أفق البحار الممتدة وحيدا، وحيدا، وحيدا بأن روحه في ألم ووجع؟ ألم تظهر الدراسات أن ضحايا الوحدة معرضون بمقدار عشرة أضعاف للهبوط النفسي والقلق مقارنة بالناجين من وباء الوحدة العصري؟ بل ألا تقود مشاعر الوحدة الشديدة إلى انتحار البعض؟
يجب أن نكون صريحين من أن أكثر من يسهم إلى وصول المجتمعات المحلية إلى أن يسكنها ضحايا الوحدة النفسية هي سياسات البخل والتقتير التي تمارسها البلديات والحكومات بشأن توفر الخدمات المحلية بدعوى ضرورة الاقتصاد في المصروفات وموازنة الميزانيات. آن أن يناقش هذا الموضوع بلا غمغمة بعد أن وصل الأمر إلى مستويات الوباء.
من هنا يشعر الإنسان بالأهمية الاجتماعية والنفسية والروحية التي تقف وراء تواجد المساجد لعموم المسلمين والمآتم الحسينية لأتباع المذهب الشيعي. إذ مهما تعمقت ممارسات التباعد الاجتماعي في المجتمعات المحلية في هذا العالم تظل مثل هذه المؤسسات عند المسلمين، ومثلها الكنيسة عند الإخوة المسيحيين، ملاذا بالغ الأهمية للتخفيف من وباء الوحدة النفسية.
فالنشاطات التعبدية والاجتماعية المشتركة، واللقاءات المتعددة في اليوم بالنسبة للمسجد، لا يمكن إلا أن تقود إلى شعور الأفراد إلى نوع من الطمأنينة النفسية عندما يلتفون يوميا بمن يتفاعل معهم، ويهتم بأحوالهم، ويسأل عن أسباب غيابهم، و يزورهم في مرضهم، ويواسيهم أثناء محنهم ووفاة أحد أقربائهم.
لقد أدركت الديانات هذا الأمر منذ قديم الأزمنة وواجهته بتواجد مؤسسات العبادة المشتركة، لكأن الحكمة والرأفة الربانية كانت تتهيأ لمواجهة هذا الانزلاق العولمي المؤلم الحالي نحو الوحدة النفسية في المجتمعات المحلية.
1233 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع