د.مؤيد عبد الستار
دلالة الكلمة في طائر بلقيس
بين آونة وأخرى أتناول أحد الدواوين الشعرية وأقلب فيه مترنما بـبيت شعر أو قطعة شعرية ،لاعود وأضعه جانبا كي لا استنفذ جميع مافي الديوان من جمال مرة واحدة، على طريقة التقسيط المريح الشائعة في اوربا لا على طريقة الدفع نقدا كما كنا نشاهده في الكاركتير المعلق في كثير من المحلات التي ترسم شخصين أحدهما بائع النقدي سمين ضحوك والاخر بائع التقسيط نحيف عبوس .من بين تلك الدواوين (اغتراب الطائر) للسيدة بلقيس حميد حسن وهو ديوان شعر أنيق من طراز كتب الجيب أغراني بعنوانه الذي ينهل من حالنا وسنين العمر التي ضاعت في مشرق الارض ومغربها . فاخترت النظر في الديوان من زاوية بعض مفرداته التي استخدمتها بلقيس ومنحتها أبعادا شعرية زادتها غنى وثراءً.
نقلت بلقيس في عنوان الديوان مفهوم الاغتراب من البشر الى الطير وهذا يندرج ضمن نقل الموصوف من حال الى حال لايمت بصلة الى الاصل ، فالاصل في الاغتراب للبشر ، غربة الانسان أو غربة الروح ، الغربة عن المجتمع أو عن الواقع ، فاعطت للعنوان بعدا جماليا إذ منحت صفة الاغتراب للطير ، فحلقت الغربة مع الطائر لتسبح في فضاء فسيح تتسع لغربة الانسان العراقي الذي ظل يجوب الافاق كي يعيش بامان وسلام .
في قصيدة اليكم أهلي ، أولى قصائد الديوان ، تقول :
(يابيت أهلي
في العراق
لك التحية ...............كتبت لك الكثير
بكيت في كل الحروف
جبلتها بدم الحنين .....) ص7
تكاد تنفجر الدموع من تعبيرها المجازي : بكيت في كل الحروف. رغم ان الحروف محدودة ولكنها تتسع للغة بمجملها، بالفها ويائها. فأي تعبير بليغ عن حرارة البكاء و كثرة الدموع!!
في خاتمة ابيات القصيدة تقول :
لليلة مدمنة الارق
لساعة ظامئة الجنون
لصاحب الزمان ،
لشمعة لاتحترق ...........ص13
تصف الساعة بالجنون ، وصف لاغرابة فيه ، فالساعة قد تكون مجنونة أو قاتلة أو ساعة شيطانية ... الخ
الا ان بلقيس اختارت صفة غريبة ، الظمأ ، فقرنت صفات متباعدة لتنحت منها ساعة تقيس الزمن بظمأ الجنون.
في قصيدة خوف البصمات تختار بلقيس المزيد من المفردات التي تمنح النص بعدا غرائبيا ، تقول :
( أوقدت دمي
من ثلج الحرمان
رقصت وأخفيت دموعي ...) ص14
هنا صيّرت الدم وقودا ، وتلحقه بما لايوقد؛ الثلج ! لترسم صورة مركبة ذات جوانب يصعب التوفيق بينها ، فيقف القارئ أمام صور لها مستويات بحاجة الى تأمل عميق.
وترسم صورة للفارس وبقايا بعيره ، فتقول :
( علنا نعثر
على فارس متعب .
وبصمات خف لبعير منسي .) ص16
تستخدم بلقيس كلمة بصمات بدل آثار أو أثر وكأن خف البعير أصابع انسان لها بصمات تكشف عن هويته. بالاضافة الى ما تحمله كلمة بصمات من دلالات كأن تكون مأثرة أو ميزة أو علامة ... الخ
وفي قصيدتها صوت المسافات ص17 أضفت على المسافة صفة ليست لها ، فالمسافة بعد مكاني بين نقطتين، جعلت بلقيس لها صوتا، فاكسبتها غرابة توحي بعاطفة ما ، سواء كانت عاطفة حزن أو فرح لتخصصها بجملة لاحقة تصف فيها أمل المهاجر الذي ( يحط على أهداب الروح ويرحل ...).
اقترن صوت المسافات بالمل المهاجر، عمق الحزن الذي يتركه هذا الرحيل .
فالصوت يأكل المسافات... والدرب. طويل ص18.
تفتتح بلقيس قصيدة (أنتظر فينوس) بصخب البحر فتقول :
(بحر مسبي في القلب
أسميه وطنا
وأنتظر )ص24
في مبالغة يستسيغها متذوق الشعر العربي، تُدخل بلقيس البحر في القلب ، وأي بحر! بحر مسبي،
بهذه الصفة تتجاوز بلقيس البحر الصاخب مثلا ، أو البحرالمضطرب ، فهو بحر مسبي لايقر له قرار ولا يعرف السكينة ، إنه الوطن الذي شغل القلب ببهائه وسبيه.
في قصيدتها (الصورة وهم) ص65 تستعير الجنون :
(تموز أصرخ
شظف العيش يجرجرني،
صبرا :
جنوني يلهث
أعيد الكرة
أسأل
تموز أنت ؟
تبادلني شفتاك حنان
فأجوع،
أبرد،
ألتمس الدرب الى ذاتي
أيني ؟) ص66
في هذه اللوحة نلتقط تعبيرها ( جنوني يلهث ) .
جعلت بلقيس من الجنون كائنا يتحرك، فهو يلهث ، في محاولة لاضافة الحركة العنيفة الى الجنون، فاللهاث هو نتيجة الركض ، أو التعب ، أو بذل جهد ما . لذلك أصبح الجنون أكبر تأُثيرا مما هو عليه في الواقع ، رغم ان الجنون يعد مرحلة قصوى يبلغها المرء اذا ما تعلق بمن يحب أو يـبغض الى أقصى مدى ، وفقد القدرة على التحكم بمشاعره ، كما ترنم عبد الوهاب :
ويقول تكاد تجن به ..فاقول واوشك أعبده .
...........................
* بلقيس حميد حسن، شاعرة عراقية تقيم في هولندا لها العديد من الاصدارات والمقالات المنشورة,
ديوانها اغتراب الطائر ترجم الى الهولندية ولها رواية بعنوان: هروب الموناليزا
1315 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع