الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
الأنهار في الموسيقى العربية
من أكبر التحديات التي تواجه عالمنا العربي الكبير شحة المياه، والتحدي الأكبر أن مصادر المياه الرئيسية في العالم العربي تقع خارج حدوده.
في أجواء موجة الحر التي يشهدها العالم حاليا، يجد الناس في شواطئ البحار والأنهار ملاذا لطيفا لتلطيف الأجواء واستنشاق نسمات الهواء العليل في الصباح والأماسي.
لقد تغنى الشعراء وصَدَحَ المغنون صَدْحًا وهم يصيغون كلامهم وينشدون عن الأنهار والأجواء اللطيفة التي توفرها.
وفي بلدنا الغالي الذي أنعم الله تعالى عليه بالآلاء الكثيرة، ومنها الأنهار، يتجه الناس صوب شواطئ الأنهار التي تطل واجهاتها الأمامية على النهر وتحف بجانبها الآخر الأشجار الخُضر والهواء العليل، ويمضون فيها أوقات هانئة حيث الحرية المطلقة والجو اللطيف.
وفي تلك الأجواء، يبتعد الإنسان عن أجواء الشد النفسي والهموم، ويشعر بالسعادة وهو جالس بين أحبائه وينظر إلى كل ما حوله من مناظر خلابة، وقد ارتدت الطبيعة حلتها الزاهية، فتسمو الروح وتتفتح الآفاق.
في العراق هناك التوأم الأزلي دجلة والفرات. ومن أبرز الشعراء الذين ذكروا الفرات في قصائدهم أبو الطيب المتنبي (915م - 965م) وذلك في ستة مواضع في ديوانه، منها قوله:
شوقي إليك نفى لذيذ هجوعي ... فارقتني واقام بين ضلوعي
أو ما وجدتم في الصراة ملوحةً ... مما أرقرق في الفرات دموعي
ويقول عبد المحسن الكاظمي (1871-1935):
عدا رحب الديار النائيات ... عدا نجع الغيوث الواكفاتِ
ويحسبني بماء النيل اروي ... وبي ظمأ لدجلة والفراتِ
وهذا محمد مهدي الجواهري (1903-1997) يخاطب دجلة قائلا:
حيّيْتُ سفحكِ من بُعد فحييني ... يا دجلة الخير يا أمّ البساتينِ
يا دجلةَ الخير يا نبْعاً أفارقُهُ ... على الكراهةِ بين الحين والحينِ
يا دجلة الخير: يا أطياف ساحرةٍ ... يا خمر خابيةٍ في ظلّ عُرجونِ
أما مائدة نزهت فتشدو:
دجلة والفرات أشحلو مجراهم ... والباري عطف بالقرنه لاقاهم
أغنية "على شواطئ دجلة مُرّْ":
قلة من الأنغام عَنتْ بالملامح الطبيعية والبشرية التلقائية لدجلة الخير، ومن بين تلك القِلة ما بدا مخلصا لعبقرية المكان الطبيعي، أي النهر والملامح الإنسانية المتشكلة منه ومن حوله. وأغنية "على شواطي دجلة مُرّْ" هي تمثيل رائع لذلك المعنى الفريد الذي يتدفق طواعية في مشاعره؛ كما تتدفق مويجات النهر في شواطئه.
لقد خُصصت هذه الأغنية التراثية الجميلة لنهر دجلة، وهي تجمع حب بغداد بحب نهر دجلة وبوصف شعبي جميل جمع بين أوقات النهار من الفجر إلى العصر إلى السهرة الليلية.
لقد اشتهرت هذه الأغنية في النصف الأول من القرن العشرين، حيث غنتها المغنية الحلبية الأصل زكية جورج (1879-1966) والتي جاءت إلى بغداد سنة 1920م، وهي أول مغنية غنت في إذاعة بغداد بعد تأسيسها عام 1936. كما غنت هذه الأغنية سليمة مراد باشا (1905-1974)، ثم غناها آخرون لاحقا ومنهم أنوار عبد الوهاب.
لقد حملت الأنغام، قديمها وحديثها، تلويحات أشواق وفخر وأوصاف للذكرى متوجهة بما يشبه التحية لبغداد ورمزها الحي المتجدد أبد الدهر: نهر دجلة.
لقد صاغ كلمات هذه الأغنية الشاعر والباحث والصحافي عبد الكريم العلاف (1894-1969)، ووضع لحنها صالح الكويتي (1908-1986) على نغم البيات.
لقد صاغ صالح الكويتي، ضمن نهجه العبقري، لحنا قائما على السهل الممتنع، لجهة بساطة النغم الذي يترسخ في الذاكرة عبر ترديد اللازمة "على شواطي دجلة مُرّْ"، ولكن بنسيج نغمي تصويري يحاكي تدفق النهر. فجاءت المقاطع مطواعة التأثير تندفع بتأثيراتها شيئا فشيئا في روح المتلقي ومشاعره.
على شواطي دجلة مُرّْ ... يا منيتي وقت الفجرْ
شوفوا الطبيعة تزهي بديعة ... ليلة ربيعة يضوي البدرْ
دجلة نهرنا يروي شجرنا ... ماحلى فجرنا لمّن يطرّْ
لفرش برمله على شاطى دجله ... والماي ديله هل من حزرْ
يا دجلة الغالي بسحره زهالي ... وحبي صفالي وكت العصر
ليلة گمريه على المي ضويه وگعده هنيه حتى الفجر
يا محلى السهره على شاطي دجله والماي دهله يا المنحدر
نفرش الرمله على شاطي دجله والگيش دهله يالمنحدر
أغنية (النهر الخالد) وقصتها:
تُعد أغنية (النهر الخالد) واحدة من روائع الموسيقار محمد عبد الوهاب (1898-1991)، وتحكي قصيدتها عتاقة نهر النيل وارتباط المواطن المصري به، وما ينطوي عليه من أسرار وحكايات ارتبطت بتقاليد وعادات عند المصريين على مرِّ العصور.
تتحدث القصيدة عن جمال ضفاف النهر والنخيل المتواجد على ضفتي النيل، حيث يناجي الشاعر النهر الذي صوره بأنه يسقي الحب والأغاني، في سردية تتواصل مع عظمة هذا الموصوف.
تتميز هذه القصيدة بكثرة التشبيهات والصور البلاغية، ويتجلى ذلك في تشبيه نهر النيل بشخص يناجيه الشاعر ويتكلم معه.
مؤلف هذه القصيدة هو الشاعر محمود حسن إسماعيل (1910-1977)، وهو صعيدي من محافظة أسيوط. ومن أعماله الخالدة أنه أنشأ محطة القرآن الكريم في إذاعة القاهرة وجمع تسجيلات الشيخ محمد رفعت وحفظها.
ومن قصائد محمود حسن إسماعيل المغناة (بغداد يا قلعة الأسود) التي غنتها أم كلثوم، و(النهر الخالد) و(دعاء الشرق) اللتان غناهما الموسيقار محمد عبد الوهاب، و(نداء الماضي) التي غناها عبد الحليم حافظ، وأنشودة (يد الله) للمطربة نجاح سلام و(الصباح الجديد) التي غنتها فيروز، وأنشودة (أصلي عليك) التي غناها مشاري العفاسي.
قصة الأغنية:
لقد كان محمود حسن إسماعيل صديقا للشاعر أحمد رامي (1892-1981). وفي إحدى أمسيات الصيف ذهب الشاعران إلى إحدى الكازينوهات على ضفاف النيل للاستجمام.
لاحظ أحمد رامي صديقه محمود حسن إسماعيل وهو يتأمل نهر النيل لفترة طويلة دون أن يتكلم، فتركه ولم يقطع تفكيره. ثم طلب محمود حسن إسماعيل من رامي ورقة وقلم، فعلم رامي أن (شيطان الشِّعر) قد جاء صديقه. فخرج من الكازينو واشترى دفترا وقلما وأعطاه لصديقه الذي أخذ يُدون فيه.
تأخر الوقت ومحمود حسن إسماعيل يكتب، حتى جاء صاحب الكازينو وطلب من رامي وصاحبه المغادرة لكي يقفل الكازينو. فترجاه رامي بالتريث لكي لا يقطع تفكير الشاعر.
وهكذا استمر محمود حسن إسماعيل يدوّن قصيدته لغاية ظهور تباشير الصباح، لتولد قصيدة (النهر الخالد) والتي غناها محمد عبد الوهاب عام 1954.
فكرة القصيدة:
تحكي القصيدة عتاقة نهر النيل وارتباط الملاح المصري به خاصةً والمواطن المصري عامةً بصفته أيقونة لمصر على مرّ العصور، وما ينطوي عليه من أسرار وحكايات ارتبطت بتقاليد وعادات عند قدماء المصريين، وما زالت هذه الأسطورة مرتبطة بالنهر الخالد.
وتتحدث القصيدة عن جمال ضفاف النهر والنخيل المتواجد على ضفتيه، حيث يناجي الشاعر النهر الذي صوره بأنه يسقي الحب والأغاني، في سردية تتواصل مع عظمة هذا الموصوف.
تتميز القصيدة بكثرة التشبيهات والصور البلاغية، ويتجلى ذلك في تشبيه نهر النيل بشخص يناجيه الشاعر ويتكلم معه.
يرى متخصصون أن قصيدة (النهر الخالد) تُعدُ من أروع الأغنيات الوصفية التي قدمها عبدالوهاب كلاماً ولحناً وأداءً يتخطى حدود الجمال والإعجاز بكثير، وأنها بعد تقديمها صارت معلماً مرتبطاً بكل عشاق نهر النيل، وأنه رغم غناء عبد الوهاب لها من مقام الكرد، فإن عبقريته جعلته يتنقل بين الكرد والحجاز والشورى والسوزناك والراست، كما نوّع في الإيقاعات، فاستخدم الرومبا والوحدة السائرة والتقسيمة.
كلمات القصيدة:
مُسافرٌ زاده الخيالُ والسحر والعطر والظلالُ
ظمآن والكأس في يديه والحب والفن والجمالُ
شابت على أرضه الليالي وضيعت عمرها الجبالُ
ولم يزل ينشدُ الديارَا ويسأل الليل والنهارَا
والناس في حبه سكارى هاموا على شطه الرحيبِ
آهٍ على سرك الرهيبِ وموجك التائه الغريبِ
يا نيل يا ساحر الغيوب
******
يا واهب الخلدِ للزمانِ يا ساقي الحبِ والأغاني
هات اسقني واسقني ودعني أهيـم كالطير في الجنانِ
يا ليتني موجة فأحكي إلى لياليكَ ما شجاني
وأغتدي للرياحِ جارا وأسكب النور للحيارى
فإن كواني الهوى وطارَا كانت رياح الدجى طبيبِي
آهٍ على سرك الرهيبِ وموجك التائه الغريبِ
يانيل يا ساحر الغيوب
******
سمعت في شطك الجميلِ ما قالت الريحُ للنخيلِ
يسبح الطيرُ أم يغني ويشرح الحبَ للخميلِ؟
وأغصنٌ تلك أم صبايا شربن من خمرة الأصيلِ؟
وزورقٌ بالحنين سارَا أم هذه فرحة العذارى؟
تجري وتُجري هــواك نارَا حملتُ من سِحرُها نصيبِي
آهٍ على سرك الرهيبِ وموجك التائه الغريبِ
يانيل يا ساحر الغيوبِ
https://www.youtube.com/watch?v=m5uJWaNbZPY
حفظ الله أنهارنا وأدام عطائهم إلى الأبد.
1319 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع