جابر رسول الجابري
*أعراف الجاهلية*
المقدمة:
——————-
كثيرةٌ هي الحقبات الزمنية التي مرّت على حياة الفرد والأسرة في وادي الرافدين
ولكن لم يصل لنا ذِكرُ الكثير
من السابقات اللواتي قضيّنَ في عصور ما قبل فجر التأريخ وذلك بسبب عدم وجود نصوص أو رسوم توثق أحداث تلك الحِقب الزمنية لحياة الإنسان،
إن الإستنتاجات والبحوث العلمية هي التي صورت للبشرية حياة تلك الحِقب الزمنية الغامضة في غور الدهر بعد أن إعتمدت على تحليل ودراسة بعض من مخلفات تلك الحِقب (مثل الكهوف أو المقابر أو الهياكل العظمية للموتى أو مقتنياتهم أو الآلات والأدوات البدائية التي كانوا يستخدمونها) أو ما ورد ذكره لاحقاً في وصف تلك الحِقب سواء ما جاء بنصوص الكتب الدينية أو من خلال الرسوم الجدارية .
الموضوع :
——————
١- العهد القديم :
توصل الباحثون والمؤرخون الى أن الإنسان العراقي كان يعيش على شكل تجمعات قبلية تضبط وجودها أعراف و إتفاقات تنظم علاقة وسلوك الفرد والأسرة مع القبيلة ،
وعلى مر الزمن إستوطنت الكثير من القبائل المهاجرة لترتوي من مياه وادي الرافدين العذبة وأرضه الخِصبة فأصبحت قبلةً لهجرة القبائل الباحثة عن وطن تجد فيه الاستقرار فتكونت أنذاك أول لُبنة لشعوب الرافدين لكن تلك الشعوب إتصفت بالصراع والتناحُر فيما بينها بسبب السباق لبسط النفوذ والسلطة على وادي الرافدين ،
عاش الإنسان الرافديني في الحقب المظلمة الأولى تحت سطوة وسلطة النظام العشائري ( أعراف الجاهلية ) الذي يعتمد على قرارات مطاطية ومزاجية أو ذات رؤية مرحلية مؤقتة أو يتبع مصالح شيوخ العشيرة ووجهائها ،
بعدها بزغ فجر التأريخ وأُكتشفت الكتابة فوثق الإنسان العراقي حياته والأحداث التي تَمُرُ عليه وهو بات يعيش في تجمعات حضرية تسكن المدينة و وتتنوع فيها أعراق السكان وأشكالهم وألوانهم فكان الكُل يعيش تحت حماية وسلطة النظام الملكي ،
تلك المجتمعات الحضرية سنّت القوانين والأحكام التي تنظم وجودها وواجبات وحقوق الفرد في المجتمع المدني
( مسلة حمورابي 1754 ق م نموذج لتوثيق مجموعة منالقوانين)،
ثم تعددت المدن وإنتشرت القرى وازداد وجود الشعوب فتعدد الحكام وشُكّلت الجيوش والحراسات لحفظ الوطن ومصالحه وأُوجدت مكتبات للتوثيق ومراكز تعليم الكتابة والقراءة وأُنشأ القضاء ونُصبت المحاكم بهدف حفظ الأمن في المجتمع ،
كونت شعوب العراق إمبراطوريات عظيمة على مرّ العصور وكانت تسمو بحياة الرفاهية والقوة تحت قيادة و سلطة ملوكها ،
بعد عام 539 ق م سقطت الحضارة البابلية حينها دخل العراق مرحلة ظلام حضاري وسياسي ، ثم توالت عليه النكبات والتهميش منذ ذلك الوقت حتى تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921 حيث نُصّب على عرش الحكم ملك بموجب أعراف عشائرية وفُرِضَ على الشعب فرضاً من قبل المحتل ، ولذلك إستمر النظام العشائري وتواجد كموروث عند الفرد العراقي حتى يومنا هذا ،
في عصر الكتابة و إزدهار الحضارة التي إمتازت بها شعوب أرض الرافدين عن غيرها فلم يكن أنذاك شعبٌ تُطلق عليه تسمية الشعب العربي في محيط وادي الرافدين لكن كانت هناك قبائل بدوية عربية تنتشر فيها الأُمية وعدم الإستقرار مُتناحرة فيما بينها تعيش الحرمان وهي تقبع منزوية في أتون الصحراء معتمدة في حياتها على رعي وتربية الإبل والأغنام إضافة لما يغنموه من الغزوات بينهم أو قطع الطُرق ،
إستمر حال تلك القبائل و نمط عيشها حتى ظهور الإسلام عدى نشوء ثلاث إمارات صغيرة تسكن أطراف الصحراء ولاء حكامها لإمبراطوريات ذلك الزمن التي بسطت نفوذها عليهم ( مابين القرن الثالث ق م والقرن السابع ب م ) حيث كان يحكم تلك القبائل نظام الجاهلية القبلي ( العشائري ) الذي تسود فيه و تتسيد فيه أعراف جاهلية وقيم العبودية والذل التي سرعان ما نهت عنها و نقضتها شريعة الدين الإسلامي ،
تكونت أول لبنة للشعب العربي بعد الفتح الإسلامي فقد عرّبالقرآن الشعوب المجاورة ونشأت أول إمبراطورية العرب بلباس ديني ،
إنتقلت أعراف الجاهلية الى العراق قادمة مع الإمبراطورية الجديدة و بالخصوص عند إختيار مدن العراق عاصمةً لتلك الإمبراطورية ،
تغلغلت تلك الأعراف بين طبقات الشعب ثم بدأت الشعوب الرافدينية الذوبان شيئاً فشيئاً في بودقة الوجود و الإنتماء العربي .
٢- العهد الحديث :
تمخض الزمن فولد حقبة ليست ككل الحقب التي مرت على حياة الإنسانية ألا وهي حقبة حاضرنا في القرن الواحد والعشرين حيث وصل الإنسان فيها من الترف والرُقي وأعلى مستويات المدنية وتعددت فيها وإنتشرت وسائل التواصل الإجتماعي وتقاربت المسافات وأُختصر الزمن وراحت شعوب الكرة الأرضية تعيش وكأنها تسكن في قرية واحدة ،
فسطع فيها نظام العولمة الذي تقوده وترعاه مجموعة الدولالغربية والتي سنّت أنظمته وقوانينه ثم فرضت تلك السُنة على جميع شعوب العالم بعد أن أمسكت بخيوط الإقتصاد العالمي وراحت تستخدمه من أجل فرض حصار على كل مَن يُعارض سياستها و إستخدمته لإسقاط أي نظام سياسي يُناهض ويرفض أن ينضوي تحت كنفها ، فأُسقطت حكومات ونُصَّبت أخرى بديله عنها موالية بلباس ديموقراطي وشُرعت قوانين و دساتير وفق إرادة ذلك النظام .
العراق كغيره من الدول التي كان يحكمها نظام سياسي مُناهض لنظام العولمة فتعرض هذا الشعب الى الغزو والحرب لإسقاط النظام السياسي فيه والتخلص منه عن طريق حصاره إقتصادياً ثم غزوه وإحتلاله ،
بعد إنتهاء الحرب وإسقاط النظام السياسي عاش العراقيون في حقبة زمنية مظلمة تحت وطأة التخريب والتدمير والإنفلات الأمني ، ثم تبعها لاحقاً الصراع الأمريكي الإيراني فبدأ الشعب يعاني من وطأة الأفكار المستوردة ويتأرجح بين إتجاهين الأول فكرٌ جاءت به جيوش نظام العولمة الغربي الذي يهدف الى تخريب وهدم هيكلية مؤسسات النظام السياسي تحت غطاء تحرير الشعب من سطوة الديكتاتورية ونشر الحرية و الديموقراطية ولكن في الحقيقة هو زرع نظام العولمة بدلاً من النظام السياسي المُعارض لسياسة العولمة وقد أُطلق على نهج التخريب و التدمير الأمريكي بالفوضى الخلاقة ،
الإتجاه الآخر فكرٌ تسللت به إيران لتدسُه بين فئات الشعب تحت غطاء ديني لتخريب البنية التحتية للدولة العراقية وتركيبة الشعب الإجتماعية فزرعت الفُرقة والطائفية وإنتهجت الإغتيالات والقتل والتهجير تمهيداً لإنشاء نظام سياسي موالي لنظام ولاية الفقيه ،
إعتمد الفكر الراديكالي الإيراني الإرهابي على نشر أعراف وتقاليد الجاهلية وفق رؤية أحزابها الطائفية التي دربتها ورعتها على طاعة أوامر نظام ولاية الفقيه الإيرانية ،
إستغلت تلك الاحزاب إنشغال النظام العالمي بتخريب البنية التحتية للدولة العراقية فتولت تخريب بنية المجتمع العراقي وراحت تُشارك مسيرة نهج الفوضى في التخريب لكنها تحمل أهداف مختلفة عن أجندات نظام العولمة
تولت تلك الأحزاب مهمة زرع الفتن والفوضى في الشارع ثم راحت تُغذي وتُنمي النظام العشائري وتقاليده وأعراف الجاهلية بل وتُحارب من لا يذعن لأوامرها
كل تلك الأساليب لها هدفان أولاً لعرقلة وإفشال مشروع العولمة ثم الإستفادة من التغيير الديموغرافي لصالحها لتهشيم البُنية الوطنية الشعب وأيضا بشكل متوازي قامت بتشكيل ميليشيات قتالية بحجة حماية المقدسات و الطائفة بعد أن خلقت عدو إفتراضي يُقاتل مقدسات الشيعة لكن هدف تشكيل الميليشيات الحقيقي هو تأسيس جيش ولائي تابع لها وقوة قتالية هي تقودها موازية الى ما صنعه المحتل الأمريكي بتشكيل جيش عراقي وجهاز أمني وشرطة بعد أن وضع قيادات تلك الأجهزة تحت الإدارة الأمريكية ،هذا بالإضافة الى زرع عناصر المخابرات الإيرانية وعملاءها في الجيش وجهاز الشرطة ،
بات الشعب العراقي يتخبط في سلوكه وتفكيره فهو كان يطمح للتغيير والإستقرار والأمن بعد عقود من الحروب التي أنهكته ودمرت حاضره ،
لكن من المُضحك أن تجد فئة المثقفين العراقيين والإعلاميين في الصباح يُنادون بالديموقراطية والدولة المدنية وإصلاح الفساد وبناء دولة وحكم وطني ويدعون الى نبذ الطائفية من خلال قنوات الإعلام أو المظاهرات أو ما يُنشر على وسائل التواصل الإجتماعي لكن نفس تلك الشرائح سرعان ما تُغير أفكارها ودعواتها مساءاً فتُنادي بالفكر الراديكالي المُتعصب الطائفي لأحزاب السلطة والتعصب للطائفة ودعم المحاصصة ودعم أحزاب الفساد الحاكمة خلال جلساتها الإجتماعية أو الدينية أو خلال تواجدها في المساجد والحسينيات أو خلال حضورها المناسبات الدينية ، ثائرٌ في الصباح و ناصرٌ لأحزاب الفساد ليلاً ،
الخلاصة :
—————-
خلال عقدين من الزمن عمت الفوضى والدمار شعب العراق منذ تغيير النظام السياسي ، حيث عاش العراقي التفجيرات والحرائق والقتل والتهجير والسجون على الهوية والتغيير الديموغرافي بحجة الإرهاب لكن ذلك لم يكن محض صدفة بل كان مخطط له والهدف الرئيس منه تخريب البنية الإجتماعية للسكان وطمس هوية و تأريخ حضارة العراق
أحزاب ولاية الفقيه كانت تخطط له منذ الوهلة الأولى لدخولها تحت دبابة نظام العولمة فإستخدمت شتى الوسائل لإدامة وجودها في العراق ومن وسائل التلون التي إستخدمتها أنها خلقت لها أعداء ومناهضين في الإعلام علناً وفي الطرف الآخر خلقت لها عملاء وأصدقاء أيضاً في العلن ولكن سراً هي كانت تدير الطرفين النقيضين وتحركهما وما الأعداء إلا جنود شطرنج يدينون لها بالولاء الفكري والعقيدي ،
كما وأنها ضخت ودست ملايين الإيرانين ومنحتهم جوازات ورواتب بحجة أنهم عراقيون ليكونوا سنداً لها في تنفيذ أجنداتها ،
هدفها واحد لم يتغير ألا وهو إنشاء حكم سياسي تابع ينضوي تحت سلطة إمبراطورية الملالي،
لهذا راحت أحزاب إيران الى دعم القبلية وفرض الأعراف الجاهلية و في مؤسسات الدولة أيضا ( كما حدث في الفصل العشائري الذي طال رئيس الحكومة بعد إقالته موظف المطار ) ،
أجيال العراق تتطلع لأن تمتطي صهوة التطور وبناء دولة مدنية لكن مقود تلك الصهوة (الرشمة ) بيد أحزاب الملالي التي تربعت عرش الحكم وراحت تجر العراق للقبلية و أعراف الجاهلية بهدف إعاقة مشروع العولمة ،
أغلبية الشعب العراقي يُراقب أحداث الصراع الأمريكيالإيراني على أرضه بإعتباره المالك لساحة المعركة بين طرفين متنازعين على إحتلاله ،
تلك الأجيال تنتظر أن ينقشع غبار ذلك الصراع لكي تدعم المنتصر في هذه الحرب لتمنحه ولاءها و تأييدها في البقاء والحكم ومن ثم الإنقضاض على الطرف الخاسر و الإنتقام منه،
هذا هو حال الشعب العراقي منذ سقوط الدولة البابلية يقف متفرجاً ومشجعاً لأطراف صراع الإمبراطوريات المتنافسة على إحتلاله فيطيع ويمنح ولائه للمنتصر ويهجم و ينتقم ويفتك ويُدمر ويسحل ذيول الخاسر .
——————
المملكة المتحدة
الواحد والعشرين من تموز 2023
1170 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع