عباس عبيد
أكاديمي وباحث من العراق
ماذا أراد عبد الكريم قاسم من نوري السعيد؟-عن إشكالية قراءة التاريخ
عبد الكريم قاسم
لا يقوى الماضي -بعظمته وتفاهته- على النهوض من ركام تعاقب العقود والقرون. لمصلحة ما، نحن من نستدعي الماضي بأبطاله الأخيار والأشرار، بحقائقه وأكاذيبه. ننفخ فيه روحاً من حياة بمواصفات خاصة، حياة "تحت السيطرة"، وإن خرجت عنها في أحيان كثيرة. وفي أثناء ذلك، ربما سنكتشف أن كثيراً مما كنا نحسبها حقائق تاريخية يقينية ليست سوى تخيلات لا أكثر، سرديات بمحتوى تاريخي، وبقالب يستجيب لقوانين بلاغية بحسب هايدن وايت. يحدث هذا حين نؤمن بأن كل قراءة للتاريخ هي تأويل بالضرورة، وأن رفاهية امتلاك معنى نهائي واحد لخبر، أو رواية تاريخية أمر بعيد للغاية، لأن فعل التأويل محكوم بميول، وأهواء، ومصالح، ومستوى إدراك، وطموحات، ومخاوف شعورية، ولا شعورية، حقيقية، أو وهمية، وجميع ما ذكر يلقي أثراً بقدر ما على طبيعة فهمنا للنصوص.
لكن الاشتباك العلمي مع النص التاريخي يبقى مقيداً بحدود، بموثوقية مصدره، بعدم تعارضه مع نصوص أخرى، بأفق تلقيه، وأفق انتاجه أيضاً، والأهم بلغته. وبخصوص هذه الأخيرة فإننا إن أثبتنا النص بألفاظه، وبدأنا بتفسيره/ تأويله/ الاستشهاد به نكون قد نقلناه من سياق، إلى سياق ثانٍ. فما بالنا إن تمت روايته بمعناه فقط لا بألفاظه، وكانت الألفاظ البديلة بعيدة عن الأولى. إن النص منظومة من العلاقات، وأي استبدال لكلمة بكلمة أخرى حتى وإن بدت لنا قريبة في معناها سيؤدي إلى إحداث تغير في الدلالة، والمثال الآتي سيخبرنا بالكثير.
كان قد استوقفني تعليق للدكتور عبد الخالق حسين، على هامش مقال له نشر في موقع الحوار المتمدن بتاريخ 17/ 7/ 2023، جاء بعنوان (الذكرى الخامسة والستين لثورة 14 تموز)، وقد وجدت من المفيد أن أقدم رأيي فيما أعده أمرأ جوهرياً: كيف نقرأ تاريخنا بطريقة علمية؟ وما السبيل الأمثل لاختبار صحة رواية تاريخية ما، ثم الخروج منها بنتيجة؟ سأكتفي بهذه الغاية، لأني أجدها أكثر نفعاً من إصدار أحكام قِيمة، تجاه عهد، أو شخصية سياسية. ولعل من المفيد البدء بنقل التعليق المشار إليه، ثم التعقيب عليه. يقول الدكتور عبد الخالق حسين:
(وكل الشكر لك أخي العزيز سيد طالب على تعليقك القيم، وتفهمك لأمور المرحلة، وتعقيداتها. نعم، كان الزعيم "عبد الكريم قاسم" محاصراً من كل الجهات. ولم يكن في نيته إعدام أي مسؤول من العهد الملكي، ما عدى "عدا" سعيد قزاز وزير الداخلية، وبهجت العطية مدير الأمن، لأنهما تسببا في قتل عشرات العمال المضربين، وكذلك عبد الجبار فهمي متصرف بغداد أيضاً له دور في بعض الجرائم. والزعيم كان يريد أن يستفيد من كبار الشخصيات في العهد الملكي، بمن فيهم نوري السعيد، فعندما سمع بوجود نوري في بيت استرابادي "الحاج محمود الأسترابادي" أرسل مرافقه وصفي طاهر لجلبه سالماً ومحترماً، ولكن لما وصل وصفي طاهر إلى بيت استرابادي وجد الجماهير هناك تسحل بجثة السعيد. وهذا ما جاء في مذكرات إسماعيل العارف. تاريخ العراق دموي).
لقد عرفت بعد قراءة التعليق المتقدم أن الدكتور عبد الخالق حسين يتبنى هذا الرأي، وقد سبق له أن أورده، مستعيناً بالإشارة إلى رواية إسماعيل العارف، دون اثبات نصها أيضاً، ضمن مقال نشره قبل واحد وعشرين عاماً، في موقع إيلاف، في الثاني من أغسطس من العام 2002 وكان بعنوان "رد على محمد الرميحي: ثورة 14 تموز لم تكن انقلاباً فاشلاً". يقول فيه: "فأرسل الزعيم مرافقه العقيد وصفي طاهر على رأس قوة عسكرية مع أوامر مشددة بالحفاظ على حياة الباشا، وعدم المساس به، لأنه أراد الاستفادة من خبراته، ومعلوماته، ويؤكد ذلك المرحوم إسماعيل العارف في كتابه".
إن مذكرات اسماعيل العارف التي يشير إليها الدكتور عبد الخالق حسين جاءت في كتاب له بعنوان "أسرار ثورة 14 تموز وتأسيس الجمهورية في العراق". سأرجع هنا إلى الكتاب نفسه أيضاً، بطبعة لندن الصادرة في العام 1986 لمناقشة ما استنتجه من الرواية.
خبرات أم أسرار؟: ما لم يقله النص
يوحي حديث الدكتور عبد الخالق حسين بأن الزعيم عبد الكريم قاسم –أول رئيس للوزراء في العهد الجمهوري- أراد الحفاظ على حياة رئيس الوزراء الأسبق نوري السعيد، ورجالات العهد الملكي -باستثناء ثلاثة منهم- والتعامل مع كبارهم باحترام لغرض الإفادة من خبراتهم. ولعل من غير المستبعد أيضاً أن يفهم كثيرون بأن الزعيم كان ينوي إتاحة فرصة جديدة لهم للعب دور ما –استشارياً في الأقل- لا سيما وأنه لا يذكر أمداً محدداً لبقاء "الباشا" محتفظاً بحياته بلا عقاب، وإنْ كان سيتم تقديمه للمحاكمة أم لا. كما أنه لا يبين لنا نوع الخبرات والمعلومات التي يمتلكها نوري السعيد. إن اعتماد المفردتين على إطلاقهما يجعل أذهان أغلب القراء تنصرف إلى الخبرات الشهيرة الشائعة عن نوري السعيد، أي إلى مهارته في ميدان العمل السياسي، إلى "دهاء" رجل ترأس 14 وزارة، وله تاريخ مديد من العلاقات، والصداقات مع ملوك، ورؤساء كثيرين، عرباً، وأجانب.
نوري السعيد
لكننا إذا عدنا لأصل النص الذي أشار إليه الدكتور عبد الخالق حسين فسنجده يقول شيئاً آخر مختلفاً. كان إسماعيل العارف يتحدث عن "إلقاء قبض" لا عن "جلب"، وعن "أسرار سياسية" لا عن "خبرات". وبهذا أصبحنا أمام كلمات جديدة مُخفَّفة، ومًلطَّفة لا تؤدي المعنى المثبت في الأصل. يقول: "أخبرني الزعيم عبد الكريم قاسم أنه كان يرغب في إلقاء القبض على نوري باشا حياً، قبل أن تكتشف مكانه الجماهير الثائرة فتقضي عليه، لأنه كان يعتقد بأن لدى نوري السعيد أسراراً سياسية ذات نفع كبير للثورة والعراق" (ينظر: العارف: الصفحة 174).
إذن. كان طلب الزعيم يتلخص بإلقاء القبض على نوري سعيد "حياً"، أما "محترماً" فلا وجود لها، ولا يوجد أيضاً أي حديث عن رغبة لدى الزعيم للإفادة من "خبرات" نوري السعيد، أو سواه. ف"الخبرات" شيء و"الأسرار السياسية" شيء آخر. باختصار، إن قيمة حياة نوري السعيد تتلخص -في الرواية المتقدمة- بمقدار ما يملكه من أسرار سياسية نافعة، يُراد الحصول عليها لسبب أمني محض.
إن تركنا لغة الرواية، واتجهنا لتقييم صدقيتها في ضوء الوقائع فسنجد أن العهد الجمهوري الأول الذي تركزت فيه أغلب السلطات بيد عبد الكريم قاسم قد هيمن عليه مزاج ثوري شعبوي أسهم بإهدار خبرات رصينة لرجال دولة كبار، وعرضهم لإهانات شتى، لمجرد تسنمهم مناصب في العهد الملكي. وإذا كان أستاذ تربوي قدير، يحمل مؤهلاً علمياً عالياً، ورئيس وزراء سابق مشهود له بالوطنية، والكفاءة مثل الدكتور محمد فاضل الجمالي يُهان، ويُتهم بالخيانة، ويُحكم عليه بالإعدام – تشفعت له بعض الجهات لاحقاً فغادر العراق - فكيف سيكون مصير نوري السعيد المؤمن بأن مصلحة العراق تتحقق بالتحالف مع بريطانيا، لو كان هو الواقف في قفص الاتهام أمام المهداوي؟
كان اسماعيل العارف وهو واحد من "الضباط الأحرار" صديقاً مقرباً لعبد الكريم قاسم، وأصبح في عهده وزيراً للمعارف. وليس من الصعب على من يقرأ كتابه أن يكتشف فيه تعاطفاً مع الزعيم. بالمناسبة، جاء حديث الدكتور عبد الخالق حسين بسياق ذي سمة اعتذارية متعاطفة مع الزعيم أيضاً: (كان الزعيم ...محاصراً من كل الجهات...، لم يكن في نيته إعدام أي مسؤول من العهد الملكي، كان يريد أن يستفيد من كبار الشخصيات... بمن فيهم نوري السعيد...، أرسل مرافقه وصفي طاهر لجلبه سالماً ومحترماً...ولكن...، تاريخ العراق دموي).
لا ريب في أن الدكتور عبد الخالق حسين كان قد قرأ كتاب إسماعيل العارف، ولعله حين أراد أن يستشهد بالرواية المتقدمة في العام 2002 ثم في العام 2023 اعتمد على ما حفظه في ذاكرته، فتبدلت بعض الكلمات، وكان النتيجة تقديم رأي في قضية تاريخية مهمة لا يؤكده المصدر الذي أشار إليه، ولا تؤيده الوقائع. هذا فضلاً عن وجود سهو في رواية الأحداث، فهناك خلط بين وقائع يومي 14 و15 تموز 1958. في الواقع، لم يعرف عبد الكريم قاسم، ولا أي أحد من رجالات العهد الجديد بلجوء نوري السعيد إلى بيت الحاج محمود الأسترابادي في الكاظمية، حيث بات ليلته الأخيرة هناك. أما ذهاب وصفي طاهر للقبض عليه فقد كان في اليوم الثاني "15 تموز"، في منطقة البتاويين.
في اللحظة التي قرأت فيها تعليق الدكتور عبد الخالق حسين، تملكني شعور غريب. تمنيت بصدق أن يكون لما قرأته نصيب من الصحة، أن لو صدقت نية الزعيم، لو شمل عفوه نوري السعيد أيضاً، مثلما سيشمل من أطلقوا عليه النار في شارع الرشيد. وبرغم أن ثقتي بحصيلة ما قرأته عن تلك الأيام كانت تمنعني من التصديق، لكنني عدت لكتاب اسماعيل العارف على الفور. كنت مدركاً أن أمنيتي البعيدة لن تغير ما حصل قبل ستة عقود ونصف، ولن تعيد الحياة لأي من الضحايا، لكن لو كنت قد وجدت شاهداً حقيقياً ينفي بقية الروايات فسيكون درساً نافعاً عن إشكالية فهم التاريخ، درساً لي في الأقل.
يبقى من الضروري الانتباه إلى الجملة الأخيرة في حديث الدكتور عبد الخالق حسين: "تاريخ العراق دموي". مما يؤسف له أن هذه الجملة أصبحت أشبه بالمُسلَّمة عند كثيرين، ولازمة تفسيرية، لا تتيح لنا معرفة مسببات العنف، ولا تساعدنا على تجنبه. من شأن جملة من ذلك القبيل أن ترسخ في أذهان المؤرخين والباحثين نتائج جاهزة، وأحكاماً مسبقة أقل ما يقال عنها أنها غير مثمرة، ولا تنفعنا في فهم الحاضر، ومن شأنها أيضاً أن تشيع اليأس، والإحباط في نفوس الأجيال العراقية الجديدة، أجيال تستحق حياة أفضل من تلك التي عشناها. ولا أنبل من أن نسهم كلنا بجعل ذلك أمراً ممكناً.
الكلمات المفتاحية: عباس عبيد. عبد الكريم قاسم. نوري السعيد. التاريخ. العراق.
738 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع