الفريق الركن
الدكتور عبد العزيز المفتي
محاضرة-كركوك الكوردية جغرافياً وتاريخياً في الماضي والحاضر
كركوك الكوردية جغرافياً وتاريخياً في الماضي والحاضر(*)
في ضوء التنقيبات الأثارية، أكدت الدراسات الأركولوجية في أن كوردستان العراق كانت موطناً لأقدم قرية في العالم كوردية زراعية، وذلك منذ أكثر من ستة آلاف سنة قبل الميلاد ... ومع اتساع اليابسة في جنوب العراق (السهل الرسوبي). أقام السكان الكورد القادمون من الشمال (كوردستان العراق)، مستوطناتهم الاصلية الى (جنوب العراق) وفي ذلك يشير (طه باقر) إلى (أن الحضارة السومرية في جنوب العراق، ما هي إلا امتداد للحضارة الزراعية الأولى في كوردستان العراق)( ).
وشهدت المنطقة (السهل الرسوبي) خلال الفترة بين الألفين الرابعة والثانية قبل الميلاد، موجات بشرية متتالية، قادمة بعضها من جزيرة العرب وبعضها من المناطق الجبيلة (كوردستان) من بينها: الأكديون، الأموريون، الأشوريون، الآرميون .. ويظهر أن العراق الحالي، كان وحتى الألف الأولى قبل الميلاد. مقسماً بين الميديين (الكورد) الذين حكموا الأقسام الشمالية منه (منطقة كوردستان العراق) ، والكلدان الذين سيطروا على الجنوب السهل الرسوبي (العراق)( ).
أما (العرب)، فقد ظهرت لهم مستوطنات شبه مستقرة جنوب نهر الفرات منذ القرن الأول الميلادي، فيما كانوا قبل ذلك يغيرون من جزيرة العرب باتجاه الأطراف الجنوبية من العراق. ويرى (جرجي زيدان) أن (مصطلح العرب، كان يطلق قبل الإسلام على سكان جزيرة العرب فقط) ( ).
ويعد الزحف العربي، في ظل الفتوحات العربية الإسلامية في القرن السابع الميلادي للعراق أعظم حدث كان له تأثيره في التكوين القومي العربي لسكانه (العراق)( ). وقد استمرت هذه الظاهرة خلال العهود التالية( ). وما أن حل مطلع العصر الحديث حتى ظهرت قبائل بدوية (العربية) تجوب بادية الجزيرة الكوردية غرب دجلة، متجهة نحو المنطقة الجغرافية لكوردستان العراق منها: الجبور، الدليم العبيد، الحديدين، عنزه، وقبائل شمر( ). واستمرت مثل هذه الهجرة، بعد الحرب العالمية الأولى( ).
وفي ظل قيام الدولة العراقية العربية الجديدة23 اب1921م، وبعد أن وضعت الحرب العالمية الاولى أوزارها، وإلحاق ولاية الموصل (كوردستان العراق) ذات الاغلبية الكوردية بها (دولة العراق الجديد)، وضعت السلطات الحكومة العراقية العربية برنامجاً لإعادة التكوين القومي للسكان، ولاسيما في المحافظات ذات التنوع الأثنوغرافي مثل: كركوك، الموصل، وديالى .. بهدف إحكام سيطرتها عليها، وبسط نفوذها .. وهي البرامج التي عرفت بـ (سياسة التعريب).
ولعل أكثر تلك المحافظات التي ابتليت بسياسة التعريب، هي محافظة كركوك الكوردية، التي تمثل بوابة إقليم كوردستان العراق. إلى السهل الرسوبي ومنطقة البادية (العراق). وقد كانت، إلى عهد قريب كانت كركوك جزء من ولاية شهرزور الكوردية وعاصمتها، مثلما كانت مدينة كركوك الكوردية مركزاً لها (ولاية شهرزور) الكوردية. وذلك قبل أن تشكل و(تصبح) كركوك سنجقاً مهماً ضمن ولاية الموصل (كوردستان العراق) ذات الاغلبية الكوردية، ثم لواءاً في التشكيلات الإدارية الأولى للدولة العراقية العربية الجديدة.
تشغل محافظة (لواء) كركوك الكوردية المنطقة الكوردية الممتدة بين نهري الزاب الأسفل وسيروان من جهة والجبال العالية ومرتفعات حمرين من جهة أخرى. وتضم أقضية: جم جمال، كفري، كلار، وقضاء المركز ثم استحدثت فيما بعد أقضية: دوزخورماتو، الحويجة، داقوق، وقضاء كلار، بحيث بلغت مساحته (5/4)% من مجموع مساحة العراق، (7/5)% من مجموع سكانه(العراق) سنة 1970( ).
وفي عقد الستينات من القرن الماضي، وما بعده، شهدت المحافظة (كركوك) تغيرات واسعة ليس فقط في مساحتها وتشكيلاتها الإدارية حسب، بل وفي حجم سكانها وتوزيعهم الجغرافي والاثنوغرافي. وفي منتصف العقد السابع (السبعينات). عمدت السلطات العراقية تمزيق وحدة المحافظة (كركوك الكوردية) فألحقت أقضية: كلار وجم جمال الكوردية بمحافظة السليمانية وقضاء دوزخورماتو الكوردية بمحافظة صلاح الدين فيما ألحق قضاء كفرى الكوردية بمحافظة ديالى. وتقلصت بالتالي (كركوك) مساحتها إلى (2/2%) من مساحة العراق. ولم يتجاوز عدد سكانها نسبة (4%) من مجموع سكانه (العراق)، كما تم استبدال اسمها من كركوك بـ (محافظة التأميم) (انظر خارطة رقم 1).
من جانب آخر شهدت محافظة كركوك الكوردية توطين الآلاف من أبناء العشائر العربية من وسط وجنوب العراق، محل سكانها الكورد والتركمان (السكان الاصليين للمنطقة الكوردية في كركوك) والذين تم ترحيلهم قسرا إلى خارج المحافظة (كركوك) الكوردية، فيما تعرض الالاف من السكان الكورد إلى الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، لاسيما خلال فترة الحرب العراقية – الإيرانية بين عام 1980-1988.
ومن خلال المشاريع الاستيطانية للعرب القادمون من وسط وجنوب العراق في كركوك الكوردية التي أقامتها الحكومات العراقية العربية المتعاقبة، لاسيما بعد تنفيذ مشروع الحويجة، ومشروع ري كركوك (مشروع صدام)، وتوزيع الأراضي الكوردية في كركوك على العشائر العربية القادمة اليها من وسط وجنوب العراق لتطويقهم في كركوك ومنحهم المكافآت والامتيازات المغرية، تم استقرار الكثير من أبناء تلك العشائر العربية في المناطق الغربية والشمال الغربية من المحافظة (كركوك) الكوردية، كإجراء أولي للتوغل العربي نحو مدينة كركوك الكوردية. ومن هنا أشارت نتائج إحصاءات سكان العراق، إلى ارتفاع في عدد سكان الأرياف في قضاء الحويجة بنسبة تزيد على (4/9%) للسنوات (1977-1987) وأكثر من (5%) سنوياً بين (1970-1977)، فيما عانت الأرياف الأخرى في المحافظة (كركوك) هبوطاً في حجم سكانها. انظر الجدول التالي:
جدول رقم (1)
نسب سكان الأرياف في محافظة كركوك وقضاء الحويجة (%) سنوياً بعد توطين العرب في أماكن واراضي الكورد1
وشهدت الفترة بين عامي (1963-1989) سياسة تدمير وحرق القرى الكوردية في محافظة كركوك، وترحيل سكانها الاصليين من الكورد قسرا بعيداً عن الأهل والموطن ... وبلغت أعداد مثل تلك القرى (779) قرية وتجمع سكني، وأكثر من (198) ألف أسرة وعائلة كوردية تم تهجيرهم من مناطقهم الجغرافية منذ الاف السنين مدينتهم كركوك الكوردية قسرا، لاحظ الجدول رقم (2).
جدول رقم (2)
القرى الكوردية المرحلة في محافظة كركوك ومجموع الأسر الكوردية المهجرة منها قسرا(1 )
لقد كان من شأن سياسة التعريب في (كركوك) الكوردية هذه، تغيراً كبيراً في التكوين القومي لسكان الكورد في المحافظة (كركوك) الكوردية، حيث ارتفعت نسبة السكان العرب من (28%) إلى أكثر من (44%) من مجموع سكانها فيما انخفضت نسبة السكان الكورد من (58%) إلى أقل من (38%) بين سنتي 1957 و 1977)( ).
تلك هي الصور المأساوية التي شهدها سكان الكورد في محافظة كركوك، مثلما شهدها الكثير من سكان إقليم كوردستان ايظا، حتى تحرير العراق في 9 نيسان سنة 2003، حيث عاد الأمل إلى النفوس الكوردية المتطلعة إلى الحرية والعدالة، وإلى يوم العودة للاكراد إلى الأهل والديار(مناطق سكناهم الاصلية)، وتعويض ما عانوه الكورد من تشرد وحرمان وظلم وقتل جماعي.. فكانت المادة (140) من دستور العراق البلسم الذي يداوي تلك الجروح .. والأمل الذي يعيدهم إلى الوطن وقراهم .. إنها دعوة إلى أخوتنا المسؤولين العرب والحكومة في العراق وفي غيره .. لإنهاء هواجس الشعب الكوردي عبر التاريخ الأسود من الممارسات الحكومات العراقية السابقة والاستفادة من تجارب الماضي ... ولنا امل في اجتماع البرلمان العربي في أربيل عاصمة إقليم كوردستان العراق، ما يبرر هذا الأمل .. ويعزز وشائج الصلة بين الشعبين العربي والكوردي .. بما يصب في بناء الوطن ويعيد الأمن والاستقرار إلى النفوس الكوردية والاستقرار إلى البلاد (الوطن-العراق) ... ليعود العراق الى الأرض الخصبة والعطاء الدائم للجميع.
هوية كركوك الكوردية والأدلة التاريخية والجغرافية
كان سكان كركوك الأوائل من السوباريين (سوبير- سابار) على ما جاء في دائرة المعارف البريطانية أي أن كركوك كانت جزءً من بلاد سوبارتو قبل أن يستولي الكَوتيون الكورد على العراق التي حددها مؤسس الدولة الأكدية (سرجون الاكدي 2340- 2284 ق.م) بأنها "ماتام عالليتام ما- رى- أم لارموتييام كى اييلاكى ايما كَيش، تيركَيش ابرين او كوركوركو) أي أنها تشمل البلاد العليا لحد ابيلا (تل عطشانة شمال غرب حلب) وكل بلاد كوركور (الجبال).
وشملت برأي العالم (هرتسفيلد) مناطق الفرات العليا ووديان نهر مرادصو (أي القسم الشرقي من نهر الفرات الذي ينبع بالقرب من جبال آرارات) وديار بكر ومناطق ثالا وتومانا بوسط كوردستان تركيا( ).
لم تكن كركوك الكوردية ومنطقتها جزءاً من العراق في العهد السومري والأكدي وعهد الدولة البابلية الأولى والعهد الكشي والأشوري وعهد الدولة البابلية الحديثة على ما ذكرت ذلك مفصلاً في المواضيع الخاصة بهذه الدول.
لقد أكد العديد من علماء الآثار والباحثين في التاريخ القديم أن كركوك (ارابخا) كانت عاصمة الدولة الكَوتية الكوردية التي سيطرت على العراق وقضت على الدولة الأكدية حوالي سنة (2210 ق.م) وكانت أيضاً (كركوك) عاصمة الحوريين الكورد في القرن الثامن عشر والسابع عشر قبل الميلاد لملوك حوريين الكورد وهم آموريا ابن أوتا ومانسى وآرن- أورخى وآر- تيشوب وإلهيب تيلا ابن وورو- كونى وغيرهم( ).
أما في عهد (دولة أديابين) الكوردية في العهد الفرثي فكانت كركوك أيضاً عاصمتها قبل أن تتحول العاصمة إلى (أربيل) وقد امتدت هذه الدولة اديابين الكوردية إلى نهر الفرات كما مرّ التفصيل في موضوع حكومة أديابين الكوردية (راجع الموسوعة الاكراد حقائق ووقائع عبر التأريخ-الجزء العاشر) للدكتور عبدالعزيز المفتي.
وفي العهد العثماني كانت (كركوك عاصمة) أي مركز أيالت شهرزور الكوردية التي شملت معظم مناطق كوردستان الجنوبية (كوردستان العراق) وامتدت في الفترة الأولى بالقرب من بشتكوه وكرمانشاه إلى ما وراء منطقة بارزان أي إلى جزء من هكاري وإلى منطقة (شنة- أشنه) وسردشت وحتى منطقة مريوان وهورامان وباوه كما مرت التفاصيل في الموضوع الخاص بولاية شهرزور( راجع الموسوعة اعلاه-ج10).
هكذا نرى أن مدينة كركوك كانت تحتل المقام الأول من بين مدن كوردستان الجنوبية (كوردستان العراق) حيث أصبحت عاصمتها (كركوك) مراراً منذ أواخر القرن الثالث من الألف الثالث قبل الميلاد إلى النصف الأخير من القرن التاسع عشر.
إن الجغرافيين العرب والمسلمين في العهد العباسي أي في أوج قوة العرب في العراق أي في عهد الخلافة العباسية لم يعتبروا كركوك ضمن العراق ولم يذكر أحد منهم أنها مدينة عربية أو تركمانية مع أن التركمان الذين لم يثبت التاريخ أنه أسكن واحداً منهم في كركوك. من أولئك الجغرافيين ابن خرداذبه والبلخي والاصطخري وابن حوقل والمقدسي والهمداني والجيهاني والشريف الإدريسي كما ذكرنا سابقاً (راجع الموسوعة اعلاه-ج10)و(موسوعة كوردستانج6-7-9) تحديدهم مع صور خرائطهم لحدود العراق وحدود إقليم الجزيرة وحدود العرب في العراق.
اعتبر شمس الدين سامي في كتابه قاموس الأعلام المطبوع سنة (1315هـ/ 1896م) وهو من المؤرخين الترك المعتمدين المنصفين ان مدينة كركوك إحدى مدن كوردستان وقال أن ثلاثة أرباع سكانها من الأكراد وقد قال ما يلي:
"كركوك مدينة في ولاية الموصل بكوردستان العراق وتقع على بعد 160 كيلو متراً جنوب شرق مدينة الموصل ووسط تلول صفراء وعلى واد أدهم وتشكل مركز سنجاق شهرزور الكوردية عدد سكانها 30000 وفيها قلعة و 36 جامعاً ومسجداً و 7 مدارس و15 تكية وزاوية و12 خاناً و 1282 مخزناً ودكاناً ودبستان واحد (مدرسة ابتدائية) و8 حمامات وجسر واحد على النهر ورشدية واحدة (مدرسة متوسطة) و18 مدرسة للصبيان و3 كنائس وحارة واحدة وفي القلعة المقامة على التل وكذلك في المحلات (الأزقات) الواقعة تحتها وعلى الجهة اليمنى من النهر التي تتركب منها المدينة نجد أن ثلاثة أرباع السكان كركوك هم من الكورد والبقية هم الترك والعرب وغيرهم وهناك تعيش 760 أسرة يهودية و460 أسرة مسيحية كلدانية الخ".( )
لقد اعتبرت دائرة المعارف الإسلامية: مادة (باجرما بيت كرماى- باكرما) اي كركوك وهي من مدن كوردستان ومركز إقليم يمتد من نهر دجلة إلى جبل لارب وجبل شنعار شرقاً ومن نهر ديالى إلى الزاب الصغير. علماً أن جبل لارب هو سلسلة جبل بازيان التي تمتد من الضفة الشرقية للزاب الصغير بالقرب من مدينة طق طق إلى نهر باسرا وأن جبل شنعار هو سلسلة جبل (سكَرمه) أي سلسلة قره داغ الجنوبية التي تمتد من نهر باسرا وإلى نهر سيروان أسفل مدينة (دربنديخان) فيبدأ إقليم بيت كرماى (كركوك) من قرية (باني خيلان) بالقرب من دربنديخان جنوباً إلى جبل حمرين وطوله من الزاب إلى نهر سيروان حوالي (150 كم) وكانت السلسلتان تشملان الخط الفاصل بين هذا الإقليم كركوك وإقليم شهرزور (منطقة السليمانية) وفي منطقــــة كركوك حالياً مدينة كركوك وحويجة وآلتون كربى وجمجمــال وكه لار الحديثة و كفري وقره تبة وطوز وداقوق. وعند البحث عن نفوس الأكراد ورد في دائرة المعارف الإسلامية النص الآتي:
"وهم يشغلون لواء السليمانية (189000) وهم أغلبية في أربيل (170650) ولهم الأغلبية كذلك في كركوك".
وصل الرحالة (بارون ادوارد نولد) إلى كركوك في أواخر القرن التاسع عشر وقال إنها منطقة كوردية لذلك ألحقت بها منطقة السليمانية. راجع رحلته (كَه شتيك به عه ره بستان وكوردستان وئه رمه نستان ص28) ترجمة الدكتور حميد عزيز.
وقال المؤرخ العراقي عبد الرزاق الحسني في ص220 من (العراق قديماً وحديثاً):
"وينقسم سكان كركوك إلى ثلاثة عناصر الكورد والعرب والتركمان
ولكن الأغلبية الساحقة للأكراد لأن معظم قبائل اللواء هم من الأكراد كما
قدمنا".
أما يحيى الخشاب فكتب في مقدمة شرفنامه ص20 بخصوص الأكراد
قائلاً:
"وهم يسكنون مدينة السليمانية كلها كما يكونون غالبية السكان في أربيل وكركوك".
وقد اعتبر الدكتور شاكر خصباك لواء كركوك ضمن ألوية كوردستان وكذلك لواء الموصل وذلك في كتابه (الكورد والمسألة الكوردية ص41 وقال إن نسبة الأكراد في لواء كركوك هي (56.2%). لكن النسبة غير صحيحة واعتبر محمد هادي الدفتري أيضاً كركوك من مدن كوردستان في كتابه ( العراق الشمالي ص3، 4) وكذلك (ميجر ميلينغن) الذي جاب البلاد الكوردية حيث نص على أن حدود كوردستان تمتد إلى جبل حمرين كما سبق كلامه وكذلك (أدموندز وجرجيس وجبرائيل وهومى) واعتبر (لونكَريك) نهر الروز أي أن بلدروز الواقعة جنوب جبل حمرين بمسافة كبيرة والواقعة بمسافة 45 كم إلى الشرق من بعقوبة الخط الفاصل بين العرب والأكراد وبهذا أدخل كركوك الكوردية ومنطقتها ضمن كوردستان وكذلك كابتن (هي) وتقدم ما كتبوه في موضوع (لكوردستان الجنوبية حدود طبيعية) وكذلك لجنة عصبة الأمم الموفدة سنة 1925 إلى ولاية الموصل (كوردستان العراق) للبت في تقرير مصيرها (لجنة تقصي الحقائق) وأكدت على كوردستانية الولاية (الموصل) بما فيها كركوك وغيرها ووصت بتشكيل دولة كوردية فيها على ما سبق حتى اعتبر (مؤتمر القاهرة أذارسنة 1921) كركوك ضمن كوردستان الجنوبية وخارجة عن الأراضي العراق العربية ووصى مراراً رئيس وزراء بريطانيا ونستن جرجل عدم إدخال كركوك الكوردية في العراق العربي كما سيأتي في كتاب (مؤتمر القاهرة) راجع (كتاب مؤتمر القاهرة أذار 1921م للدكتور عبدالعزيز المفتي).
واعتبر أيضاً مؤلفو كتاب (كوردستان) كركوك ومنطقتها جزءً من كوردستان الجنوبية وقد ألفت هذا الكتاب بالإنجليزية في فلسطين سنة 1923 لجنة من الخبراء والضباط السياسيين البريطانيين فجاء فيه بعد ذكر موقع ووصف مدينة كركوك الكوردية: أن سكانها يتكونون من الكورد والعرب والترك وأن أكثريتهم تتكلم الكوردية
والعربية وبصورة عامة يفهمون التركية وأن لهجتهم الكوردية فرع من اللهجة الكوردية( ).
قال (لونكريك) المفتش الإداري البريطاني في العراق في كتابه أربعة قرون
من تاريخ العراق الحديث ص23، وقد أعجب الرحالون بكركوك فوصفوها بأنها
"مدينة جميلة رائعة كان لغة النطق السائد الكوردية الشهرزورية والتركية المفككة"
علماً أن (لونكَريك) كان في سنة 1921 معاون الضابط السياسي البريطاني للواء كركوك.
حقيقة كركوك في الوثائق الحكومية
كانت هوية مدينة كركوك الكوردية مركز منطقة (باكرما- بيت كرماى) التي كانت تمتد من نهر دجلة غرباً إلى سلسلة جبل بازيان (جبل لارب) وسلسلة جبل سكَرمه (جبل شنعار) شرقاً وذلك بطول (158 كم) ومن نهر ديالى جنوباً إلى نهر الزاب الصغير شمالاً وكانت المدينة فوق تل أثري كبير مساحته (200) أو (250) ألف متر مربع وقد ورد اسمها بصيغة (أرابخا Arrapha) في الكتابات المسمارية منها ما ورد في (51) كتابة مسمارية من منتصف الألف الثاني قبل الميلاد وعثر عليها صدفة في القلعة عام 1923 وأطلق الاسم على حي العمال في عهد الحكومة العراقية بصيغة (آرفا- عرفه) بصورة محرفة وفي بعض المصادر الإغريقية جاء اسمها بصيغة (اريخيوس) وذكرها المؤرخ اليوناني بلوتارخ (نحو 50- 125 م) باسم (كوركورا) بينما ذكرها بطليموس (نحو 90- 168م) باسم (كورخورا) وفي المصادر الآرامية جاءت باسم (كرخا- د- بيت سلوخ) و (كرخ سلوخ) أي مدينة السلوقيين حيث أن سلوقس (311- 381ق.م) مؤسس الدولة السلوقية في القسم الآسيوي من إمبراطورية اسكندر المقدوني بنى سوراً للقلعة وأنشاً فيها عمارات. وقد اهتم بإعمارها الملك الآشوري (آشور بانيبال). أما المصادر الإسلامية فذكرتها باسم (كرخينى) ولعل أقدم ذكر للاسم الحالي "كركوك" كان من قبل علي اليزدي في كتابه (ظفر نامه) وذلك في القرن التاسع الهجري (القرن الخامس عشر الميلادي) ويرى طه باقر وفؤاد سفر احتمال كون الاسم الحالي (كركوك) مشتقاً من (كرخ سلوخ) مع احتمال صلته بكلمة "كركر" وهو اسم بقعة النار الملتهبة خارج مدينة كركوك( ) وهما يقصدان كَوركَور- بابا كَوركَور) الذي يطلقه الأكراد على الجزء النفطي وعلى ضريح لأحد الصالحين هناك أيضاً يقع بجانب القسم الغربي من المدينة حالياً. أطلق الأكراد هذا الاسم على هذا الجزء لما كانت النار تشتعل من الغازات النفطية منذ أزمان وقد ذكر اسم ((كركوك)) الغياثي في القرن الخامس عشر على ما في ص189 من (تاريخ الغياثي) تحقيق طارق نافع الحمداني ولعل الغياثي أخذ الاسم من علي اليزدي ويحتمل أن الاسم استقر وشاع في القرن المذكور. ويرى الدكتور جمال رشيد أن الاسم الحالي جاء من (كوركورا) أي (كَوركَورا) الذي ذكره (بلوتارخ) وأن الميديين الكورد أضافوا إليه اللاحقة الزاكَروسية (ak-uk) فأصبح (كوركورك) أو (كوركورك) ثم تحول إلى (كركوك) ولا علاقة بالصيغة الآرامية( ) وأضاف أن اسم كركوك في أواسط الألف الثاني ق.م كان (ديمتو كرخى شيلواخو) أي قلعة مدينة بني شيلوا.
لقد أطلق اسم (بت كرماي وباكرما) على منطقة كركوك في المصادر السريانية المسيحية وفي المصادر العربية بالدرجة الثانية وكذلك باجرما وباجرمق تعريباً لباكرما في المصادر العربية وبهذا الخصوص جاء في المصادر الأخيرة أن (جرمق) كان قوماً سكنوا منطقة الجزيرة الكوردية وفي دائرة المعارف الإسلامية أنه يظن أن اسم باجرما مشتق من كرمكان الذي كان يطلق على هذا الإقليم في لغة فارس الوسطى وهذه الصيغة نفسها مشتقة من اسم كرمو (GURUMU) وهو اسم قوم رحل ورد ذكره في النقوش المسمارية لذا سميت بباكرما وبيت كرماى أي موطن كَرمو وفي تاريخ الموصل ج1 ص22 (لسعيد الديوه جى) وكما في مصادر أخرى أن الجرامقه من الفرس او الكورد وقد أجلى الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور في (145هـ/ 782م) الجرامقة من المنطقة على ما جاء في (تاريخ ميخائيل الكبير) ( ) وجرمق إذن هو تعريب كَرمو ولهذا أرى أن الاسم الكوردي (كَرميان- كَه رميان) الذي يطلقه الأكراد كاسم جغرافي على منطقة كركوك جاء من باكرما وكَرمو وليس من (كَه رم) بمعنى الحار أي المنطقة الحارة التي هي بعكس لفظ (كويستان- زوزان) الذي يطلق على المناطق الباردة أي المعتدلة صيفاً والتي كانت القبائل الكوردية الرحل تذهب إليها بمواشيها صيفاً وإلا فلماذا لا يستعمل الأكراد دوماً اسم (كَه رميان) للسهول الكوردية الحارة مثل سهول أربيل ومخمور أيضاً المتاخمة لمنطقة كركوك كاسم جغرافي.
أخيراً إن كون كركوك مركزاً للمنطقة الكوردية كان قبل العهد الإسلامي أو قبل العهد العباسي على أقل تقدير لما أن مركزها كانت (دقوقا) في العهد العباسي ماعدا فترة الإمارة القفجاقية.
تاريخ وجغرافية كركوك الكوردية في الماضي والحاضر
كثيراً ما تردد صفحات الإنترنيت وبعض الصحف العربية والتركية فضلاً عن القنوات الفضائية العربية أخباراً وتقارير صحفية مشوهة وبعيدة عن الواقع عن كركوك المدينة والمحافظة. وكثيرا ما تتجاوز هذه التقارير الأوضاع الحالية التي تعيش في ظلها المحافظة لتتناول الجوانب التاريخية والسكانية والثقافية المتعلقة بهذه المنطقة.
يبدو أن قدر سكان هذه المحافظة (كركوك) الذين عانوا الأمرين على أيدي الحكومات العراقية السابقة وحكومة حزب البعث خلال العقود الأربعة الماضية عدا بعض الصالحين منهم، يأبى أن يتركهم لشأنهم دون أن يريهم (نعم!) حكومة حزب البعث ورفاقهم من الجزارين (عدا الخيرين) القادمين من أشد زوايا التاريخ عتمة. لعل من أغرب الأمور أن يحيط بهؤلاء الكائنات الخرافية شلة من الأفاقين والمغامرين السياسيين ممن يزعمون أنهم يناضلون من أجل حقوق هذه الفئة أو تلك من المكونات الرئيسية لسكان كركوك. ويعمل هؤلاء إلى جانب قيامهم بتوفير الدعم اللوجستي للإرهابيين على صعيد آخر وهو نشر الأخبار الملفقة والتحليلات السطحية الساذجة في وسائل الأعلام العربية المستعدة دوما لنشر كل ما هو غير واقعي وعقلاني عن العراق عموما والكورد على وجه الخصوص. لقد حاولت جهات عديدة داخلية وخارجية زرع بذور الفتنة بين سكان هذه المحافظة الكوردية (كركوك). ولعبت القنوات الفضائية الشوفينية والطائفية دورا تحريضيا كبيرا في تعقيد أوضاع المدينة (كركوك) وبث الأخبار الملفقة والتقارير الصحفية البعيدة عن الواقع. من المفرح حقا أن هذه المخططات الشريرة إصطدمت بجدار متين من روح التسامح والتسامي التي تطبع بها وتربى عليها سكان كركوك الأصليين.
ولعل من أكثر القضايا التي أثيرت حولها الكثير من المزاعم ونشرت بصددها الأخبار والتقارير الملفقة هي مأساة الكورد المرحلين من المدينة أو المحافظة (كركوك) على أيدي سلطات حكومة العراق ونظام حزب البعث السابق وعودة بعضهم (من الاكراد) إليها بعد سقوط النظام السابق. فمن مزاعم عن تكريد المدينة كركوك) الكوردية والتحكم بالإدارة فيها إلى الحديث عن وجود مخططات لدى القيادات الكوردية لدفع عشرات الآلاف من الكورد من غير أبناء المدينة والمحافظة (كركوك) إليها وشراء الأراضي والعقارات، بل وصل الخيال بالبعض إلى الحديث عن جلب عدد كبير من الكورد من البلدان المجاورة للسكن في كركوك( ).
ولكن حبل الكذب قصير كما يقول المثل المأثور إذ أظهرت الحقائق على الأرض بأن عدد صغير جدا من المرحلين الكورد عادوا إلى كركوك ويعيشون حياة بائسة تحت الخيام لا يحسدهم عليها أحد. وأظهرت الإحصائيات المنشورة في أكثر من موقع بأن الموظفين الكورد لازالوا يشكلون نسبة صغيرة جدا في الدوائر والمؤسسات الرسمية في كركوك. والأنكى من ذلك أن التعيينات متوقفة في كركوك نفسها، في حين ترسل الوزارات العراقية بصورة مستمرة قوائم بالموظفين الجدد من غير أبناء المحافظة (كركوك) للعمل في دوائرها. ويحق للكورد أن يشكوا في نوايا الدوائر الحكومية التي تنفذ مثل هذه السياسات (التعريب). لقد دشن البريطانيون أسس هذه السياسة في العشرينيات من القرن الماضي وسارت عليها الحكومات العراقية المتعاقبة لتصل إلى سياسة التطهير العرقي للكورد في كركوك على أيدي حكومة العراق السابق ونظام حزب البعث. هل يعني هذا أن حكامنا الجدد يمارسون السياسة نفسها ولكن بأسلوب آخر بعيداً عن العنف والأساليب القسرية؟
بقيت ردود فعل القيادات الكوردية على التصرفات الحكومية هذه في إطار التصريحات الصحفية التي تهدف إلى تهدئة الأمور. ووصل الأمر بها أن تجامل القوى القومية غير الديمقراطية في العراق وتتخلى حتى عن تسمية السياسات حكومة العراق (حزب البعث) بأسمائها الحقيقة. فبدلا من التمسك بمبدأ إزالة آثار سياسات التطهير العرقي والتعريب وافقت على تعبير (تطبيع الأوضاع) المطاطي الذي لا يعبر أبداً عن حجم الجرائم التي قام بها النظام السابق والحكومات السابقة وخاصة في الحكم (نظام البعثي) ضد كورد كركوك والمناطق الكوردستانية الأخرى. الغريب أن شخصا كعلي حسن المجيد لم يكن يتردد في تسمية تلك السياسات بالتعريب في ندوات موسعة لكوادر حزب البعث الحاكم ومسؤولي الأمن والجيش في كركوك. أعود إلى موضوع المرحلين الكورد من كركوك. هناك أطنان من الوثائق الحكومية التي تظهر حقيقة هذه المأساة الإنسانية. وهناك المئات من القوانين والقرارات الصادرة من قبل ما كان يسمى بـ (مجلس قيادة الثورة) منشورة في جريدة الوقائع العراقية الرسمية والتي توضح بشكل لا لبس فيه حجم هذه الكارثة. لذلك فإن لجوء البعض إلى نشر المزاعم بصدد المرحلين الكورد هنا وهناك لن يستطيع أن يغير شيئاً من الحقيقة.
كان بإمكان القيادات الكوردية تبني فكرة فتح مراكز متخصصة لجمع وأرشفة ودراسة الوثائق المتعلقة بسياسات التعريب والتطهير العرقي والإبادة الجماعية والتهجير القسري في كوردستان العراق. لقد إنشغلت هذه القيادات بدلا من ذلك وكما هو ديدن القيادات السياسية في الشرق الأوسط بتنظيم المهرجانات والمؤتمرات الإعلامية الصاخبة التي لم تسفر عن شيء يذكر.
لقد وقعت عيناي مرات عديدة وتطرق إلى سمعي أيضا بعض الأرقام عن المرحلين والمسفرين الكورد يبثها هنا وهناك أناس ينتمون إلى بعض الدكاكين السياسية التي ظهرت بعد سقوط نظام صدام حسين. فمنهم من حدد الرقم بأكثر من عشرة آلاف شخص بقليل ومنهم من تكرم علينا بعدة آلاف أخرى. وكالعادة لا يستندون في مزاعمهم على أية معطيات إحصائية أو وثائق رسمية. لا بد أن ليس هؤلاء على علم بأن (779) قرية وقصبة كوردية تابعة لمحافظة كركوك الكوردية جرى تدميرها وإزالتها وفق الوثائق الحكومية، وأصبح سكانها بين مرحل إلى خارج المحافظة أو مؤنفل سكن القبور الجماعية. كما أنهم يعرفون حتما بأن سياسات الترحيل والتهجير القسري لحزب البعث للكورد من كركوك الكوردية بدأت منذ عام 1963 ولم تتوقف إلا في 9نيسان من عام 2003. ولا يمكنني حتى التصور بأن أحداً من هؤلاء لا يعرف شخصياً عدداً من الكورد الذين جرى ترحيلهم وتهجيرهم قسرا أمام عينيه. الغريب في الأمر أن هؤلاء لا يترددون، عندما يتعلق بالأمر بغير الكورد، في الحديث عن ترحيل آلاف المواطنين من قرية واحدة فقط.
لست ممن يؤمنون بأن مثل هذا الكلام يمكن أن يعيد هؤلاء إلى تحكيم عقولهم وضمائرهم عندما يتحدثون عن مثل هذه الأمور. لأنهم يقومون بنشر هذه المزاعم بدوافع سياسية وخدمة لقوى إقليمية يتلقون منها لقاء عملهم هذا الدعم المادي والمعنوي. لذلك فإن العودة إلى الوثائق الحكومية أفضل لتتحدث عن نفسها وتدحض تلك المزاعم وتظهر الحقائق لمن يود حقا الإطلاع عليها. ومن المؤسف أن لا تدرك هذه الفئة بأنها بتعاملها بهذه الطريقة الظالمة مع مآسي وآلام المنكوبين من الشعب الكوردي والكورد لا يمكن إلا أن تثير نقمة وغضب الأخيرين وتتسبب في إحداث شروخ عميقة بين أبناء المدينة الواحدة، ستحتاج الأجيال القادمة إلى سنين طويلة لردمها وإزالة آثارها.
سنشير إلى وثيقة واحدة تغطي فترة شهرين من عام 1998 وتظهر بأن عدد المرحلين والمهجرين قسرا من كورد كركوك خلال تلك الفترة القصيرة يتجاوز الرقم الذي يشير إليه هؤلاء. تشير الوثيقة الصادرة من ديوان محافظة (التأميم) تحت عدد: (301433) وبتاريخ 12/1/1998 إلى كتاب ديوان الرئاسة الخاص بالتقسيمات الجغرافية وقطاعاتها وقوانين السكن. كما تشير إلى الظروف الأمنية البالغة الأهمية والموقع الجغرافي المهم لكركوك. وتطالب الوثيقة مؤسسات الدولة العراقية وحزب البعث في كركوك بالتطبيق الحرفي لفقرات كتاب ديوان الرئاسة. يبدو أن كتاب ديوان الرئاسة قد نص على التعليمات الواجب تنفيذها للتعامل مع المواطنين الكورد من أبناء المحافظة (كركوك) الكوردية مثل: حجز شخص من كل عائلة كوردية مرحلة وحجز دورهم وبطاقاتهم التموينية وكذلك قسائم الأشتراكات في الدوائر الرسمية. ونصت الوثيقة على ضرورة إعلام مسؤولي أمن المنطقة وحزب البعث للقطاع المشمول ومختار المنطقة بكتب رسمية مع إتباع النظام المنصوص عليه في كتاب ديوان الرئاسة. وأرسلت نسخ من الكتاب إلى المحافظة، مسؤول أمن المنطقة، مختار المنطقة والمسؤول الحزبي(لحزب البعث) فيها. "راجع الجزء العاشر من موسوعة (الأكراد حقائق ووقائع عبر التاريخ) للدكتور عبدالعزيز المفتي".
الأهم من هذا وذاك تورد الوثيقة معلومات مفصلة عن هذه الوجبة من المرحلين الكورد من كركوك خلال الفترة (15/4/1998 - 15/6/1998 البالغ عددهم (1468) عائلة مع ذكر عدد العوائل المرحلة من كل حي من أحياء المدينة.(كركوك) وبحسابات بسيطة لعدد أفراد هذه المجموعة مع أخذ حجم العائلة الكوردية بنظر الأعتبار سنجد بأن عدد أفراد هذه الوجبة لوحدها تتجاوز الأرقام التي تتداولها تلك الجهات المشبوهة.
تشير الوثيقة إلى الأحياء التي جرى ترحيل هؤلاء منها والتي تسميها بالقواطع، وهي تسمية نابعة من عسكرة المجتمع التي فرضتها حكومة حزب البعث السابق على البلاد وحولت الأحياء إلى قواطع عسكرية والمواطنين إلى مجندين في صفوف القطعات العسكرية أو عناصر في صفوف القوى المعادية لها.
لقد جرى ترحيل هؤلاء الكورد من الأحياء الكوردية (القواطع) التالية: حي العسكري (2)/143 عائلة. طريق بغداد / 12 عائلة. حي الإسكان (جرى بناء هذا الحي في عهد عبدالكريم قاسم لإسكان العمال وصغار الموظفين فيها وتحول إلى حي كبير سكنه الكورد بالدرجة الأساسية (150) عائلة، الحرية /234 عائلة. المصلى / 3 عائلة (كذا في الوثيقة). القورية /32 عائلة. شورجة / 321 عائلة. الأندلس (لقد تذكر حزب البعث في كركوك فقدان العرب للأندلس وأراد أن يعوض ذلك بإطلاق إسم الأندلس على حي رحيم ئاوا الكوردي) / 401 عائلة. إمام قاسم (١) / 74 عائلة. إمام قاسم (2) / 66 عائلة. آخي حسين/2 عائلة. صاري كهية / 22 عائلة. حي الخضراء / 2 عائلة. حي العسكري (١) / 6 عائلة. تظهر هذه الوثيقة وبجلاء االمديات المرعبة لسياسات الترحيل والتهجير القسري لنظام البعث بحق الكورد في كركوك وغيرها. ولا يمكن للمزاعم التي تتداولها تلك التجمعات السياسية ووسائل الأعلام المعادية لتطلعات الكورد المشروعة أن تحجب الحقائق عن الناس.
وكانت سياسات الترحيل والتطهير العرقي والتهجير القسري يومية تقريبا على مدى سنوات الحكم السابق لحزب البعث. فقد وردت في برقية سرية وفورية صادرة من وزارة الداخلية / الأستخبارات بعدد (18640) بتاريخ 22/6/2001 إلى محافظة التأميم / الأستخبارات ما نصه (تنسب قيامكم بالأشراف المباشر على عمليات الترحيل في المحافظة وبالأخص العوائل الكوردية التي عليها مؤشر أمني فقط وإرسال موقف يومي بكل حالة ترحيل ليتسنى لنا عرضها أمام السيد الوزير المحترم. للتنفيذ وبكل دقة وإعلامنا إجراءاتكم. إنتهت. المرسل هادي جوحي / الداخلية. المستلم / محمد عباس / التأميم. الوقت / 1650. الوسيلة السايكروفون المجفر). أرادت وزارة الداخلية أن تشرف الأستخبارات دون غيرها على ترحيل العوائل التي عليها (مؤشرات أمنية) وبإطلاع مباشر من وزير الداخلية شخصيا.
وتشير وثيقة أخرى (عدد 589 بتاريخ 16/8/1997) مذيلة بتوقيع الفريق الأول الركن أياد فتيح خليفة الراوي (محافظ التأميم) إلى حصول موافقة نائب رئيس الجمهورية ورئيس لجنة شؤون الشمال طه ياسين رمضان على تسجيل الدور المبينة أرقامها وأسماء أصحابها المرحلين الكورد بأسماء المستفيدين (العرب الوافدين من وسط وجنوب العراق إلى كركوك). وتتضمن القائمة المرفقة بهذا الكتاب الرسمي أسماء (29) كورديا مرحلا مع أرقام الدور المسجلة بأسمائهم مع أسماء الوافدين العرب الذين وزعت عليهم هذه البيوت دون أي وجه حق( ).
ووصل الأمر بحزب البعث ونظام السابق إلى منع إستخدام اللغة الكوردية واللغات المحلية الأخرى في كركوك، فقد أصدرت محافظة كركوك تعليماتها تحت رقم (145) م ع بتاريخ 21 أيلول 1999 بالأستناد إلى توجيهات ديوان الرئاسة ابلغ إليها بالكتاب السري للغاية المرقم (13721) في 8 آب 1998 وكتاب مجلس الوزراء / هيئة التخطيط والمتابعة 4/5/14302 حول ما سمتها بـ (الأوضاع الشاذة في مدارس محافظة التأميم)، ومن أجل (إزالة بعض الظواهر السلبية لنجاح العملية التربوية على المسالك القومية، وتوحيد الصفوف وعدم فسح المجال للأجنبي بالتدخل من الثغرات الضيقة للتدخل والتلاعب بذقون الجيل الصاعد بالشعارات العنصرية). المقصود بالأوضاع الشاذة هنا هو حديث التلاميذ فيما بينهم خلال الفرص بين الدروس بالكوردية أو التركمانية أو السريانية. لم تجد سلطات حزب البعث في كركوك من منع الصغار من التحدث بلغاتهم وقيامها بتطبيق أسوأ أشكال سياسات التطهير العرقي ضد الكورد وغيرهم في هذه المحافظة أية عنصرية، بينما اعتبرت نزوع الأطفال الطبيعي للتحدث بلغاتهم الأم تمسكا بالشعارات العنصرية.
من هنا ألزمت محافظة كركوك الكوردية طلاب المدارس بتطبيق التعليمات التالية:
أ- يمنع منعاً باتاً استعمال اللغات المحلية - الكوردية والتركمانية والآثورية والكلدانية - من قبل الهيئة التعليمية والتدريسية لإلقاء المحاضرات أو مفردات الجمل المستعصية بغير اللغة العربية أثناء الدوام الرسمي.
ب- منعا باتا استعمال اللغات المشار إليها أعلاه في الفقرة أولا من كتابنا من قبل الهيئة التعليمية والتدريسية مع الطلبة في فترة الاستراحة.
ج- يمنع منعا باتا استخدام اللغات المحلية(الكوردية والتركمانية) عدا العربية من قبل طلاب المدارس فيما بينهم( ).
كان النظام السابق مستمرا وحتى يوم سقوطه مستمرا في التخطيط لتطهير الكورد كليا من محافظة كركوك. فقد طلب محافظ كركوك اللواء الركن نوفل إسماعيل خضر استنادا إلى كتاب الشؤون الأمنية بوزارة الداخلية المرقم (563) في 10 كانون الثاني 2000 (إرسال قائمة بأسماء (300) عائلة كوردية وتركمانية من الساكنين في حدود مركز المحافظة بغية ترحيلهم خلال عام 2000)، وحدد المحافظ الفئات المشمولة بهذا القرار العنصري وفق التوجيهات المركزية بـ:
أ- المواطنين الكورد والتركمان الذين امتنعوا عن تصحيح قومياتهم إلى العربية مع التركيز على الذّين لهم ممتلكات خاصة كالدور والعقارات.
ب- المواطنين الذين لهم أقارب من الدرجة الأولى والثانية في صفوف الحركات التخريبية (الكوردية والتركمانية) في منطقة الحكم الذاتي، باستثناء العناصر الخاصة الموجهة والمرسلة من قبل الأجهزة الأمنية والأستخباراتية والمخابراتية لأداء واجبات ومهمات خاصة في صفوف الحركات التخريبية.
ج- المواطنين الذين لهم أقارب من الدرجة الأولى غادروا العراق بعد أحداث عام 1991 .
وأجملت دائرة الشؤون الداخلية في محافظة كركوك في كتاب لها إلى المكتب الخاص/ الديوان تحت رقم 9/9/713 في 24/1/2000 ما سمتها بالخطة الخمسية للترحيل قائلة (نود أن نعلم سيادتكم الموقر بتنفيذ الخطة الخمسية الصادرة من وزارة الداخلية - الشؤون الأمنية، والتعديلات اللاحقة بالخطة والخاص بترحيل المواطنين الكورد من غير العرب إلى خارج المحافظة(كركوك). ومن خلال (35) وجبة خلال خمسة أعوام ابتداء من 1/1/1995 لغاية 331/12/1999). وتضمن الجدول الملحق بهذا الكتاب عدد الذين جرى ترحيلهم من كركوك خلال سبعة أشهر من عام 1999 الذي بلغ حوالي (500) شخص. وهكذا تجسدت النتائج الباهرة لخطط حزب البعث الخمسية في قوائم المرحلين والمهجرين من موطنهم الاصلي (كركوك) بدلا من شق الطرق وبناء المصانع والمدارس والمستشفيات.
وتضمنت قائمة الأوامر القرقوشية للنظام والحكومة السابقة وحزب البعث منع الكورد من ممارسة النشاط الأقتصادي، فقد حصرت وزارة التجارة (مزاولة التجارة حصرا على أبناء القومية العربية - المتميزين - وفق الشروط الخاصة). وخول قرار مجلس قيادة الثورة المرقم (76) والمؤرخ 7 شباط 2000 مدير شركة نفط الشمال بإحالة (المنتسبين من أبناء الأقليات الغير عربية - الكورد والتركمان إلى التقاعد لما تستوجبه الظروف الأمنية). الغريب أن هذا الأمر شمل حتى الذين أقدموا على (تصحيح) قومياتهم من كوردية إلى عربية على ضوء التوجيهات المركزية. ويحمل القرار توقيع صدام حسين( ).
إن من يطلع على الوثائق المنشورة حتى الآن عن سياسات التطهير العرقي
في كركوك وغيرها يصاب بالغثيان من سياسة التمييز العنصري التي انتهجتها حكومة
صدام حسين وحزب البعث ضد المواطنين الكورد عموما وكورد كركوك على وجه الخصوص.
فقد استثنى صدام حسين السكان الكورد وأبناء القوميات الأخرى التركمان والاثوريين في كركوك وغيرها حتى من إعانات الرعاية الأجتماعية لأنها لم تشمل (العوائل الغير العربية والمشمولة بتصحيح القومية).
من المؤسف حقا أن نرى بعد كل هذا من بين العراقيين من يتطوع للدفاع عن هذا الظلم التأريخي من خلال الزعم بأن من حق المواطن أن يعيش ويسكن أينما يرغب في العراق. وهذه كلمة حق يراد بها باطل. لا يمكن دعوة الناس إلى القبول بالظلم عبر الحديث عن الأخوة والمواطنة. العدالة تقضي بإعادة الحقوق إلى أصحابها ومن ثم دعوة الناس إلى التصافي والمحبة.
--------------
() د. خليل إسماعيل محمد، المناطق المتنازع عليها، دراسة في الجغرافية السياسية، مؤسسة موكرياني للبحوث والنشر، أربيل، ص42-47.
( ) د. خليل إسماعيل محمد، المناطق المتنازع عليها، مؤسسة موكرياني للنشر، ص42-47.
طه باقر، مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة، الجزء الأول، مطبعة الحوادث، بغداد، 1989، ص190.
( ) طه الهاشمي، مفصل جغرافية العراق، مطبعة دار المعارف، بغداد، 1930، ص26-27.
( ) جرجي زيدان، تاريخ العرب قبل الإسلام، بيروت، 1978، ص41.
( ) صالح أحمد العلي، معالم العراق العمرانية، دار الشؤون الثقافة العامة، بغداد، 1989، ص310.
( ) نوري خليل البرازي، البداوة والاستقرار في العراق، القاهرة، 1969، ص122.
( ) لونكريك، أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث، ترجمة: جعفر الخياط، بغداد، 1986.
( ) انظر: نوري البرازي، المصدر السابق، ص127.
( ) وزارة التخطيط، الحصر الأولى للسكان سنة 1970، مطبعة الوزارة، بغداد، 1973.
( ) إحصاءات سكان العراق للسنوات 1957، 1977، 1987.
( ) Shorsh, M.R. statisles of Atrociees in Iraq Kurdistan, V.S. A. 1990, p. 33.
( ) إحصاء سكان العراق لسنتي 1957 و 1977.
( ) راجع د. جمال رشيد، كركوك في العصور القديمة ص25 وهو بحث علمي قديم.
( ) المرجع السابق، كركوك في العصور القديمة ص35.
( ) أخذ هذا النص العربي لعبارة قاموس الأعلام من كركوك في العصور القديمة ص49 وقد أدرج المؤلف الدكتور جمال رشيد النص التركي في ص49 علماً أن (دبستان) هي المدرسة الابتدائية و (الرشيدية) هي المتوسطة ويقصد شمس الدين سامي بمدارس الصبيان الكتاتيب الدينية لتعليم الصبيان ويقصد بالمدارس المدارس الدينية كما يقصد (بالمحلات) الأحياء السكنية التي حول القلعة وليست (الأزقة).
( ) كورد وكوردستان ص24 طبع سنة 2002 ترجم هذا الكتاب إلى الكردية السيدان حسين ميركَسه جَارى وحسين جاف.
( ) طه باقر وفؤاد سفر، المرشد إلى مواطن الآثار والحضارة- المرحلة الرابعة ص7-8، حيث أخذنا منه معظم معلوماتنا المذكورة، انظر الأستاذ عبد الرقيب يوسف المصدر السابق ص280.
( ) الدكتور جمال رشيد، كركوك في العصور القديمة ص42 و ص35.
( ) نقل ذلك من تاريخ ميخائيل الكبير الأب يوحنا جولاع في مقال له منشور في مجلة مجمع اللغة السريانية ببغداد المجلد الثالث سنة 1976.
( ) د. جبار قادر، قضايا كوردية معاصرة، دار ئارس للطباعة والنشر، أربيل، العراق.
( ) يمكن الاطلاع على الصور الأصلية لهذه الوثائق وعشرات غيرها في كتاب شورش حاجي، تعريب كركوك في ثنايا ثمانين وثيقة، دار الحكمة، لندن، 2004، (باللغة الكوردية). لقد نشر الباحث صورا مستنسخة عن هذه الوثائق بلغتها الأصلية أي العربية.
( ) انظر نص هذه التعليمات وعشرات القرارات الحكومية الأخرى في كتيب: التطهير العرقي (تغيير القومية) للكورد والتركمان في كركوك - 50 وثيقة، إعداد المحامي طارق جمباز، ط3، أربيل، 2004، ص43.
( ) للإطلاع على هذه الوثائق وعشرات غيرها انظر: نفس المصدر السابق، ص53، 64، 67-71.
الفريق الركن
الدكتور عبد العزيز المفتي
1949 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع