عوني القلمجي
مجالس المحافظات فرهود فلكي قادم
ان اجراء الانتخابات في العراق او أي بلد اخر، سواء كانت برلمانية او رئاسية او مجلس محافظة، وسواء استوفت شروطها ومواصفاتها او نزاهتها وصحة نتائجها، لا تمنحه صفة نظام ديمقراطي. حيث يؤكد المفهوم الغربي، وعلى وجه الخصوص المفهوم اليوناني، بان الانتخابات لا تمثل سوى ركنا واحد من اركان النظم الديمقراطية، التي اهمها الفصل بين السلطات الثلاثة، التشريعية والتنفيذية والقضائية، وسيادة القانون، والمساواة بين الناس، بصرف النظر عن الجنس والقومية والدين والمذهب واللغة. إضافة الى الاستقلال والسيادة الوطنية والوحدة المجتمعية ورفض التدخلات الأجنبية، وهذه بمجموعها غير متوفرة في العراق ابدا.
والانتخابات في العراق، بالإضافة الى قانونها المعوج، ومفوضيتها المرتشية وصناديقها المزورة وشراء المقاعد، وبيع المناصب، اعتمدت نظام سانت ليغو. الذي تم الغاءه، تحت ضغط ثوار تشرين بموجب قانون رقم 9 لسنة 2020. حيث اثبتت التجربة بان هذا النظام يخدم مصالح الكتل السياسية الكبيرة الأكثر ثقلًا وتمويلًا، ويتيح لها الفوز بأغلبية مقاعد البرلمان.
والانتخابات في العراق لا شبيه لها في البلدان الاخرى. ففي النظم الديمقراطية، يكلف الحزب الفائز بالانتخابات بتشكيل الحكومة، او بالتحالف مع حزب اخر، ويكتفي الخاسرون بموقع المعارضة، في حين يتم تشكيل الحكومة في العراق، بالتوافق وتوزيع المناصب على أساس المحاصصة الطائفية تارة، وبالاتفاق بين متزعمي الأحزاب تارة أخرى. وفي اغلب الأحيان تشكل الحكومة من قبل السفيرين الأمريكي والإيراني في بغداد، لتكون المزبلة مصير نتائج الانتخابات. بمعنى اخر، الانتخابات في العراق، هي اجراء يراد به خداع الشعب وتضليله، لما لهذه المفردة من وقع في نفوس العراقيين، جراء حرمانهم منها طيلة عقود طويلة من الزمن.
ولكي يحمي الدستور السجل الأسود للانتخابات، منحها الصفة القانونية. حيث تبنى في بعض مواده، وبطرق ملتوية، نظام المحاصصة الطائفية والعرقية، وتحديد المناصب السيادية مسبقا. فمنصب رئيس الجمهورية للكرد، ورئاسة البرلمان للسنة، ورئاسة الحكومة للشيعة. يضاف الى ذلك، لا شرعية للانتخابات في العراق في ظل الاحتلال، ولا تغيير الدستور او تبديل شكل النظام السياسي او الاقتصادي، وفق القانون الدولي ومواثيق الأمم المتحدة. ومن الجدير بالذكر، ان هذا الدستور كتبه امريكي يهودي صهيوني، يدعى نوح فلدمان من المحافظين الجدد، الذين روجوا لاحتلال العراق، وترجمته لجنة عراقية، سموها زورا لجنة صياغة الدستور، واضافت له خمس مواد، تضمن مكاسب غير مشروعة لهذه الجهة او تلك، وديباجة تضع المراجع العظام فوق الدستور.
بالمقابل، فان المرشحين للانتخابات، هم أيضا لا شبيه لهم في البلدان الديمقراطية. حيث لا يعتمد المرشح للفوز بمقعد او منصب وزاري، برنامجا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وانما عن طريق شراء المقعد النيابي او الوزاري بملايين الدولارات، اما سرا او في بعض الأحيان على طريقة المزاد العلني، كما حدث مع حكومة عادل عبد المهدي. الذي اعترف علنا بهذه الحقيقة. ومن المعروف للقاصي والداني، ان استرداد مبلغ الشراء واضعاف اضعافه يتم في صفقة مشبوهة واحدة. اما الشاهد الاخر وهو من أهلها أيضا، فقد صرح حيدر حنون رئيس هيئة النزاهة الاتحادية، في مؤتمر صحفي عقده في بغداد بتاريخ 14 من هذا الشهر، أيلول / سبتمبر، "نطلق حملة من أين لك هذا للإبلاغ عن التضخم والكسب غير المشروع لدى مرشحي الانتخابات المحلية، هم وازواجهم واولادهم، وكل من مشترك معهم. مؤكدا أن هذه الحملة تشكل الكشف عن الذمة للموظفين والمسؤولين التي بحاجة الى التحقيق".
اطرق هذا الباب مبكرا، لان هؤلاء الأشرار سعوا مبكرا، لنيل حصة الأسد من هذه المجالس، التي هي بمثابة الكنز الثمين الذي يسيل له لعاب اللصوص. وقد تمثل ذلك بإطلاق الحملات الإعلامية الضخمة، لأقناع العراقيين بالمشاركة في الانتخابات، وبذخ الأموال الطائلة للدعاية، وشراء الذمم والاستعانة بالفتاوى الدينية، الى جانب استخدام لغة التهديد بحرمان الممتنع عن المشاركة في الانتخابات من الحصة التموينية، او الحصول على وظيفة او الفصل من الدوائر.
وللغاية نفسها، ادعى هؤلاء الأشرار باشتراك وجوه جديدة من المستقلين، ومن مختلف الاتجاهات من أكاديميين وكتاب ومثقفين وحملة الشهادات العاطلين عن العمل وفئات أخرى، على امل اقناع العراقيين بالمشاركة في الانتخابات المحلية. ظنا منهم بان كذبة كهذه ستنطلي على الشارع العراقي الذي سئم من رؤية هذه الوجوه الكالحة، ومحاولات تبييضها وتسويق هؤلاء الأشرار، واضفاء صفة الوطنية والاستقلال عليهم. وخاصة تبرئة ارتباطهم المكشوف بملالي طهران. حيث افتعل أطراف الإطار التنسيقي، الذي يقوده نوري المالكي، خلافات بينه وبين الملالي. حيث أعلن اطرافه رفضهم النزول للانتخابات بقائمة موحدة، والنزول بقوائم منفردة. ومن المضحك ان يعلن قائد فيلق القدس الإيراني إسماعيل قاأني الذي يدير شؤون هؤلاء الأشرار، عجز إيران عن توحيد أطراف الإطار التنسيقي لخوض الانتخابات بقائمة موحدة! في حين يعرف القاصي والداني بولاء قادة هؤلاء الأشرار المطلق للولي الفقيه علي خامنئي. وخاصة نوري المالكي وهادي العامري وقيس الخزعلي.
ان محاولة تجميل هذا السجل الأسود، وتسويق النظام اللامركزي لمجالس المحافظات وتعداد فوائده، بقصد استدراج العراقيين لم تعد سهلة كالسابق. فالوعي الجمعي العراقي متمثلا في نخبه خاصة، يميز بين فوائد النظام اللامركزي في الدول الديمقراطية، الذي يتيح فعلا لمجالس المحافظات حرية العمل في تنفيذ المشاريع الإصلاحية والخدمية للمحافظة، بعيدا عن قيود الروتين الحديدية والهيمنة الحكومية، وبين النظام اللامركزي في العراق، الذي يخضع للمحتل والمحاصصة الطائفية والعرقية وسطوة المليشيات المسلحة وتغول منظومة الفساد وهيمنة خبراء سرقة المال العام وخضوع السلطة الفاسدة للمحتل الأمريكي ووصيفه الايراني.
امر اخر ينبغي الانتباه له، الا وهو ما يصدر عن الواهمين من الوطنيين المعادين للعملية السياسية، من مقولات هي في أفضل الأحوال ساذجة. فمقولة تأسيس قوة ناعمة تشترك في العملية السياسية، تحت مسمى الحراك السياسي المعارض، الى درجة تسمح بالتعاون مع قوى النظام السياسي بطريقة غير مباشرة، من خلال شخصيات مدنية ورجال غرف مظلمة على حد تعبيرهم. مقولة مشينة تضر من جهة، بالتوجه النضالي لأحداث تغيير فعلي وواقعي، ومن جهة اخرى يعطي الشرعية لهؤلاء الأشرار. ومن المفيد هنا ان لا يتناسى هؤلاء الواهمون درس الانتخابات الأخيرة وبطلان الرهان على مقولة القوة الناعمة. فقد فاز 60 نائبا بانتحالهم صفة ثوار تشرين، والنتيجة معروفة للجميع. فقد اختفى أثرهم باندماجهم بالعملية السياسية مع القتلة واللصوص والمرتزقة. وان افترضنا ان يحدث عكس ذلك مع القادمين الجدد، فليس بمقدورهم الوقوف بوجه حيتان الفساد الذي امتدت جذوره في كل وزارة ومؤسسة ودائرة.
ومع كل ذلك، ذهبت هذه المحاولات والجهود الحثيثة لتمرير هذه الانتخابات واقناع العراقيين بالمشاركة فيها ادراج الرياح. فمن بين 29 مليون ناخب عراقي لم يبادر، لحد كتابة هذه السطور، سوى اقل من نصف مليون لتجديد هوية الانتخابات. هذا العزوف ليس وليد الصدفة، او بتأثير جهات معينة، او بسبب سوء تقدير، وانما وليد قناعة رسختها التجربة المرة مع هؤلاء الأشرار، وسجل الانتخابات الشديد السواد.
ضمن هذا السياق، فان الانتخابات المرتقبة لمجالس المحافظات، لن تكون خارج إطار هذا السجل الأسود للانتخابات، وانما هي صفحة من صفحاته. بل هي اشد اسودادا. لأنها ان جرت ستسفر عن مجالس محافظات، تدير أضخم عملية للسطو على المال العام والتمتع بحرية أوسع في ممارسة السرقة والفساد، مما يتمتع به مجلس النواب، او مجلس الوزراء. حيث منحها الدستور في المادة 122، صندوقا ماليا مستقلا وصلاحيات غير محدودة لوضع خطط التنمية المحلية وانتخاب حكام الأقاليم وإجراء التعيينات الخاصة، وكذلك صلاحيات إدارية ومالية واسعة، بما يمكنها من إدارة السرقات تحت ذريعة اللامركزية الإدارية، التي لا تخضع لسيطرة أو إشراف أية وزارة أو أية جهة غير مرتبطة بوزارة.
بمعنى اخر، فان السرقات في هذه المجالس تتم في جنح الظلام وبعيدا عن المراقبة والاعلام، إضافة الى انها محمية من المحاسبة والعقاب. والأكثر من ذلك، فان توزيع مجالس المحافظات على هؤلاء الأشرار يتم قبل بدء الانتخابات، وليس بعدها كما اجري في الانتخابات التشريعية. ولضمان الهيمنة الكاملة على هذه المجالس، أجري البرلمان في شهر مايس الماضي، عدة تعديلات على قانون مجالس المحافظات والأقضية رقم 12 لسنة 2018، كان اخرها التعديل الثالث ليصبح قانون رقم 4 لسنة 2023. والذي يضع العقبات امام فوز أي مرشح مستقل او خارج سيطرة هؤلاء الأشرار.
لا نمل من تكرار القول، بان انقاذ العراق من المحتل، والعصابات الحاكمة والمليشيات المسلحة، لا يتحقق الا عبر اسقاط العملية السياسية بكل أركانها، من حكومة وبرلمان ودستور، وما ينضوي تحت عباءتها، من عملاء وخونة وفاسدين. ومن حسن حظ العراقيين ان تقود هذه المهمة النبيلة، الفئات الشبابية والمتنورة من طلاب المدارس والجامعات والأكاديميين من المحامين والأطباء والمهندسين. وكذلك من العمال الفلاحين، بقيادة ثورة تشرين العظيمة، التي وقف وراءها شعب قادر على تحقيق استعادة الوطن المنهوب، وطرد المحتلين، والاتيان بحكومة وطنية مستقلة فعلا عاجلا ام اجلا.
17/9/2020
2189 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع