أ.د. سّيار الجميل
خفايا ودلالات- الحلقة 39 : نوري السعيد يوم 14 تموز / يوليو 1958
(1) الحقائق والاكاذيب من الكرادة والصالحية الى الكاظمية
أسئلة العقل عن جزئيات حدث تاريخي بشع عبثت به أكاذيب المدلسّين
أولاً : ما الذي يدعوني الى معالجة هذا " الموضوع " ؟
كان هذا " الحدث " بالذات ولم يزل هو الأشهر وهو الذي لم يزل يثير جملة اسئلة ، بل ويمنح الأجيال الاهتمام به والكتابة عنه مما يعني أهميته في الوجدان العراقي اولا وأهمية صاحبه وكبير شأنه في تاريخ العراق ابان القرن العشرين . ولكن ويا للاسف ، كثرت الاكاذيب عنه وتاهت الاقاويل فيه ، وازداد عدد المدلسيّن بشأنه وعظمت التلفيقات اذ ساعدت الانظمة الجمهورية الحاكمة في الترويج ضد هذه الشخصية التي مثّلت العراق لأكثر من سبع وثلاثين عاما 1921- 1958 ، وله أيضا تاريخ حافل لما قبل 1921 . كتبت عنه جملة واسعة من الكتابات من كتب ومقالات، وحكيت فيه الحكايا والاحاديث ودبجت الفيديوهات والمقابلات وكنت اتابعها باهتمام واسجل ملاحظاتي ..
لم يسأل اي مهتم بهذا الحدث حتى من المؤرخين والباحثين أنفسهم سؤالا : من أين مصدر المعلومات عن نهاية نوري السعيد والتي راجت منذ 14 تموز 1958 وحتى اليوم ؟ وما الوثائق الرسمية التي اعتمدت عنه ؟ وها قد تمّ التحقق من جملة واسعة من الاكاذيب والادعاءات التي شاعت في المجتمع سواء من قبل السلطات العسكرية الجديدة أم الخصوم السياسيين ؟ وكنت دائم التفكير في جزئيات عدة ، كما كنت أثير الاسئلة مع ذوي العلاقة او الاقرب للحدث سواء من المقربين او من الخصوم المخالفين واسجل واقارن المعلومات ، ثم ارجع لاسأل العقل عما يعقل وعن الذي لا يمكن تصديقه من اكاذيب واوهام واقرنه بما يمكن أن يقبله العقل ..
ان ما دفعني لكتابة هذا " المقال" مقابلة اجريت مع شخص عراقي مضطرب نفسيا ومهووس وسليط اللسان لا علاقة له بعلم التاريخ ولا معرفة له بتفاصيل تاريخ العراق المعاصر ، وعندما سئل عن هذا الحدث، أخذ يهذي باكاذيب لا أول لها ولا آخر ،ويقع في اخطاء لا تغتفر ، فتسمعه الناس وقد تصدقّه وهو يمزج الجد بالهزل ، واخشى ان تصّدق بما قال ! وذاك المهرج الآخر يوما مع هذا العهد ويوما مع عهد ذاك والذي جعل من نفسه مؤرخاً وكل ما كتبه ونشره مجموعة تدليسات ومزاعم واقاويل لا اساس لها من الصحة أبدا .
وعليه ، أوّد أن اذكر بعض أسماء من اعتمدت عليهم في تصحيح بعض المعلومات ممن كان لي فرصة اللقاء معهم في ازمنة شتى ، ومنهم : الاستاذ محمد الاسترابادي والاستاذ طالب خان والمذيع ناظم بطرس والاستاذ عماد مرجان ود. فاضل الجمالي وزوجته سارة باول جمالي و د. عصمت السعيد و الاستاذ نجدة فتحي صفوة والاستاذ عبد الغني الدلي و د. زينب الاسترابادي والاستاذ عطا عبد الوهاب و د. يوسف عز الدين و د. محمد رشيد الفيل ( نقلا عن اللواء الركن عبد العزيز العقيلي ) والمقدم صديق اسماعيل ( نقلا عن بهجت سعيد ) وغيرهم .
افجع مصرع لزعيم عراقي في التاريخ الحديث
يعد حدثا تاريخيا أساسيا ليومي 15 – 16 تموز / يوليو 1958 في تاريخ العراق ، واعتبر مصرع نوري باشا لغزا افعمه النظام الجمهورية منذ تأسيسه بجملة اكاذيب لا اساس لها من الصحة والمؤرخ الثبت يدرك عندما يكتب الحدث بايدي الخصوم مقارنة بما يكتبه وعاظ السلاطين ! كان مصرع رئيس الوزراء العراقي الاسبق نوري السعيد في منطقة البتاوين في بغداد في اليوم التالي للانقلاب العسكري الذي أنهى الحكم الملكي في العراق يوم 14 تموز / يوليو 1958 ومقتل نوري باشا في 15 تموز / يوليو ، وسحل جثته في الشوارع يوم 16 تموز / يوليو ، ولا أريد أن اكرر هنا حادثة مقتله وسحله لكثرة من دّون عن ذلك ، وكم لاكها هذا وذاك مرارا وتكرارا بحيث وثق سحله مهشما في صورة مقرفة، وقد رويت الحادثة بروايات شتى وجرت المزيد من الاخطاء ، والبست منذ يوم الحادثة حتى اليوم باكاذيب شتى وتلفيقات لا حصر لها ، خصوصا وان الرواية قد صيغت من الفها الى يائها على ايدي الخصوم – كما قلنا - ممن تولى السلطة او من قبل الشيوعيين وهم الأعداء الالداء للرجل الذي كان هو ايضا خصما لدودا لهم، بل وجرت تلفيقات رسمية منذ اللحظات الاولى للانقلاب فجر 14 تموز ، وهروب نوري باشا وتنقله من الكرخ الى الرصافة وانتهاء بقتله ونقل جثته الى وزارة الدفاع ليتأكد عبد الكريم قاسم وضباطه الأحرار منها ، ثم نقل الجثة ودفنها ومن ثم اخراجها وسحلها .. ان اكثر من ساهم في اكساء الصورة ضبابية وغشاوة كان على ايدي الشيوعيين العراقيين الذين كانوا وما زالوا يناصبون نوري السعيد العداء كونه كان خصماً لدودا ضدّهم . انني استثني ما كتبه أو قاله كل من صالح البصام وخليل كنه وعصمت السعيد وليث الزبيدي ومحمد مظفر الادهمي وآخرين .
فهل ثمة اضافات تمّ التأكد منها حول حدث مصرع نوري السعيد سنة 1958 ؟
1/ هجوم سرية بهجت سعيد وتواجد وصفي طاهر
عهد الى احدى السرايا التوجه فجر يوم 14 تموز/ يوليو 1958 بالتوجه الى بيت نوري السعيد لاعتقاله حيّا ، وكانت بأمرة الرئيس الأول ( = الرائد ) بهجت سعيد ثم قام المقدم وصفي طاهر بالالتحاق بتلك السرية بأوامر من قاسم ، ولكن المهمة باءت بالفشل، اذ تمّ اخبار نوري باشا بذلك بعد ان ايقظته من نومه العميق الخبازة وهنام من قال انها عمشة وهناك من قال انها فهيمة !! وكانت قد شرعت بعجن خبزها للباشا صباحا . هرب الباشا من دارة ببجامته الزرقاء مرتديا الروب على الساعة الخامسة والربع صباحاً قبل وصول السرية وكان كلّ من وصفي طاهر قد وصل مع سرية بهجت سعيد ، والكل يعلم ان وصفي طاهر قد عمل مرافقا عسكريا خاصا لنوري السعيد وكانت له معرفة بمداخل بيت الباشا ومخارجه ! ولا يمكن أن يكون وصفي وراء اخبار الباشا بالحدث كما يرّوج البعض ذلك بطريقة خفية لأنه كان من ضمن الضباط الأحرار، ولم يكن مخلصا لسيده الباشا بدليل انه لم يخبره بتفاصيل المؤامرة التي حاكتها جماعته قبل انفجار الحدث ! وعليه ، فمن الغباء تصديق من روّج ان وصفي طاهر كان وراء ايقاظ الباشا من نومه ومساعدته على الهرب ! ولكن السؤال : لماذا اطلق الرصاص بغزارة على بيت الباشا كما كان الرصاص يلعلع ويدوي في كل مكان .. ارى انه كان بدافع ايقاظ الناس من نومها عند الفجر .
2/ هروب الباشا وحكاية كاذبة بطلها حسون العيسى البلام
نزل الباشا الى حافة النهر باجتيازه حديقة داره المطل على دجلة في محلة الكرادة منطقة الصالحية ببجامته الزرقاء ونعاله الجلدي وبيديه مسدسين . وهنا يتبادر سؤال : هل كان القارب واقفاً عند حافة دجلة قرب شاطئ مسناة دار الباشا ينتظره أم كان بعيداً وسط النهر ، ولماذا كان قريبا ؟ واذا كان كذلك فلماذا يشهر الباشا مسدسه على من كان فيه ليأخذوه الى الجهة الاخرى من النهر ؟ ولماذا كان القارب قريباً من تلك الدار ان صحّت الرواية ؟ هل كان على القارب شخص واحد ام شخصان من صيادي الاسماك ؟ الم يعرفا من يكون ؟ واذا لم يعرفا بما حدث ، او على الاقل لعلة ازيز الرصاص فكيف لم يسمعا بذلك بعد ساعة او ساعتين والناس قد تجمهرت عند الشواطئ ؟ بالتأكيد عرفا من يكون وقد تركوه عند مسنّة شاطئ دار صالح مهدي البصام الكائن في كرادة مريم والقريب من منزله ان صدقت الرواية اليتيمة والتي يؤكدها البصام ، وما مدى مصداقية كل من الصيادين الاثنين حسن وحسين وليس البلام حسون العيسى كما ادعى ذلك حسن العلوي وادعّى ان حسون زوج عمته وان ابنه زوج اخته وأسهب في تلفيقاته وأكاذيبه ويتحدث عن حوار جرى بين الباشا والبلام وكأن الباشا في رحلة استجمام !! ثم يقول ذلك الملفق بأن نوري السعيد جلس في قعر القارب وقد غطوه بشباك السمك، فان كان ذلك صحيحا، فكيف جرى الحوار بين الباشا وحسون ؟؟ الى هذا الحد من الاسفاف جرى تدوين مثل هذا الحدث على ايدي أناس موتورين لا ضمير لهم، والرواية كلها يتيمة لا قرينة لها ، ذلك ان الصيادين حسن وحسين انكرا معرفتهما بالحدث وبنوري السعيد ، ولم يقبضا المكافأة المقدرة بعشرة الاف دينار ! ان مذكرات البصام شهادة تكذّب كل ما جاء به حسن العلوي ! ناهيكم عمن ادعى بأن البلام اسمه عبود !
3/ في دار صالح البصام في الصالحية
دخل الباشا الى بيت صالح البصام بعد ان استقبله المحامي مرتضى البصام شقيق صالح ودخل الباشا . وكم بقي عندهم ؟ هل سمع البيان رقم (1) عندهم ؟ ام ان البيان لم يذعه عبد السلام عارف بعد ؟ واذا كان البيان رقم (1) قد اذيع قرابة السادسة صباحا ، فهل يعقل ان يتم عبور دجلة وعودته الى الكرخ في غضون 40 دقيقة فقط ؟ وصل ابن عمهما المحامي صادق فاسرع باخذ نوري باشا معه تخلصا من منطقة الصالحية الخطيرة مع كرادة مريم التي امتلأت بالناس والمفارز ، فقاد السيارة السائق حسن وجلس الى جانبه صادق والبسوا الباشا العباءة مع البوشيه ، وجلست الى جانبه فهيمة مربية الاطفال بعباءتها في الحوض الخلفي واخترقت السيارة الجموع . وهي من نوع دوج اميركي سوداء وكان بيان منع التجول قد اعلن بعد مغادرتهم فمروا من امام دار الاذاعة بسرعة ولم يأبه السائق بالمفرزات المنشغلة بالتفتيش والتي لم تعلم ان نوري يخترقها امام الاذاعة التي تنادي بالقبض عليه وقد وصلوا الكاظمية .
4/ في دار صادق البصام في الكاظمية
يقول صالح البصام " وإستضافه إبن عمي – صادق - في غرفة خاصة مزودة بما يلزم لراحته وأحضر له جهاز راديو ليتابع الأخبار وكان كثير السؤال عن حياة الملك فيصل الثاني وكثير التطلع الى السماء منتظرا وصول الطائرات الحربية من جانب دول ميثاق بغداد لمساعدة النظام الملكي ونجدته من الأوضاع غير الطبيعية .. " وقد أبقى سيارته والسائق والمربية معه لخدمته طوال الليل بمعنى احتجازهما كيلا يفشيان سر وجود الباشا .
5/ الصياد حسن ينكر الحدث !
وباغتت مفرزة من الجيش بيت صالح البصام وبدأت بتفتيشه وباحثين عن ممر سري بين داره ودار نوري السعيد ، فلم يجدا ذلك وعند الغروب فوجئوا ببعض الشرطة تقتاد الصياد المسن حسن وابنه حسين ليبدأ التحقيق ونفى الصياد معرفته بالاخوين صالح ومرتضى البصام ، كما انكر معرفته بالباشا او السماع به . ان انكار الصياد له معاني عدة خصوصا وان الثمن عشرة الاف دينار عراقي وقت ذاك كان كبيرا جدا ، وقد الحّ المحقق عليه السؤال ، ولكن البلام حسن انكر معرفته بما نسب اليه ! واذا اعتقد البصام بغنى نفس الصياد وابائه، لكن المؤرخ يرى بأن مسألة الصياد والقارب لا اساس لها من الصحة ، وان نوري باشا قد مشى على حافة النهر باتجاه مسناة دار البصام ودخل من هناك الى حديقة الدار !
6/ زكية البصّام ومهمتها الخطيرة
وخشى صالح البصام من بقاء الباشا في دار ابن عمه صادق ، والاتصالات مقطوعة فكلف اخته زكية ليلا لتبليغ الرسالة من اجل انقاذ نوري ، وقد مشت من الكرادة الى الكاظمية ووصلت فجرا !! وابلغت الرسالة كي ينتقل الباشا بسيارته مع السائق الى دار مريحة في مزرعة آل البصام في هور عكركوف قريبا من الكاظمية وسيجد هناك وكيلا في المزرعة من الدليم وبامكانه تهريب الباشا الى الاردن كونه لم يزل رئيس وزراء الاتحاد الهاشمي ، ولمّا هم مع اخت صالح زكية بالخروج وجدوا في بداية الشارع مفرزة عسكرية حولها الناس ، فغيروا اتجاههم الى بيت آل الاسترابادي .
7/مناقشة الرواية وتناقض المعلومات
ان هذه " الرواية " يتيمة ليس هناك من ذكرها سابقا ، فمعلومات آل الاسترابادي تقول بأن نوري بات في دارهم ، ولكن معلومات آل البصام تقول بأن نوري بات عندهم . ورواية صالح البصام تقول بأن نوري قد جلس في المقعد الخلفي لسيارة الدوج الاميركية السوداء في حين تواترت الروايات ان نوري السعيد قد تمّ تهريبه الى الكاظمية بوضعه في صندوق السيارة !! وهناك من قال بأن السيارة هي مرسيدس حمراء يقودها مرتضى ! وسواء هرب بسيارة صادق السوداء او سيارة مرتضى الحمراء . نسأل : هل من العقل ان يبقى رجل مسن مثل نوري السعيد في صندوق سيارة لاكثر من نصف ساعة ومع اجواء بغداد الصيفية اللافحة ؟ وهل كان عاقلا كل من اختلق هذه الافتراءات ؟
8/ تساؤلات مثيرة
ولكن من قال انه وضعه واخفاه في صندوق السيارة الخلفي قاصداً دار محمود الاستربادي في الكاظمية ؟ واذا افترضنا انه انتقل وهو بصندوق السيارة ، فمن كان برفقة مرتضى . وكانت للاخوين علاقة صداقة بالباشا، ان رواية صالح هي التي يتقبلها العقل ، فاخترق الكرخ بسيارته الاميركية اذ كان الباشا كما أكدّ لي اكثر من مصدر أنه كان يجلس في المقعد الخلفي وهو لم يزل ببجامته والروب وبيده مسدسيه وقد تنكر بعباية نساء مع بوشيه ! وقد عادت زكية البصام بعد ايصاله الى دارها في كرادة مريم
والسؤال الأخير : هل يعقل ان تمشي امرأة اسمها زكية البصام من كرادة مريم الى الكاظمية ليلا لوحدها في شواع بغداد ، وفي أول ليلة حرجة من عهد جديد وقد سحلت في الشوارع قبل ساعات جثث القتلى !! ؟؟؟ كي تصل بيت أخيها في الكاظمية وقت الفجر ؟ اليس هناك من سائق يوصلها الى الكاظمية ؟ لم هذه المبالغة ؟ وعند وصولها طرقت الباب وهي منهكة متعبة لتخبرهم ان التفتيش سيبدأ صباحا فعلى الباشا الخروج حالا . السؤال : الآخر : الا يعتقد السيد صالح البصام انه قد حمّل الحدث اكثر مما يجب ، وانه تأخر في اصدار مذكراته ؟ اذا كانت السلطة تفتش عن شخص باهمية نوري السعيد ، فهل لديها فرق بين ليل ونهار؟ حتى تبدأ التفتيش في الصباح لبيوت آل البصام ؟ وورد أيضا ان نوري السعيد اقترح ان توصله السيارة الى مقر الفرقة الرابعة التي يتولى قيادتها رفيق عارف اخو وفيق عارف ، فلم يتحقق ذلك.
السؤال الأخير لهذه الحلقة : لماذا يريد البعض ان يتنطّع ويكذب كي يصنع له بطولة واهية وهنا لا اقصد آل البصام الكرام، فلقد اوضحت مذكرات صالح البصام حقائق اسكتت افواه الكذابين والملفقين ! واذا انكر الصياد حسن وولده حسين دورهما ، فمن اين خلقت شخصية اسمها حسون العيسى لتمثل دورا تاريخيا لا اساس له من الصحة ؟
- للبحث بقية مهمة لاحقة من المعلومات والاسئلة والمساءلات
نشرت في يوم 20 سبتمبر / ايلول 2023 على الموقع الرسمي للدكتور سيّار الجميل
1277 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع