بقلم: فيصل عبدالحسن
النايات ـــــ قصة قصيرة
كتبتُ القصة سنة 1980 ونشرتها في مجموعتي القصصية "العروس" سنة 1986 عن دار الشؤون الثقافية /بغداد
النايات هي من جمع "ناي" وهو آلة موسيقية تصنع من أعواد القصب في جنوب العراق.
النايات....
--------------
دقق الرجل الشيخ بورقة أمامه قدمها الشاب الحليق الرأس له، وقال:
- "أنكما تزوجتما اليوم!"
وحاول أن يتطلع من فوق كتف الشاب إلى الفتاة الواقفة خلفه، استطاع الشاب أن يلاحظ أن فم الشيخ خال تماماً من الأسنان:
-"أجل ،اليوم تزوجنا"
ردد الشيخ من جديد، بعد أن تأكد أنه لن يستطيع أن يرى وجه الفتاة، لطول الشاب ولكون الفتاة مطرقة إلى الأرض. بدت على وجه الشيخ أمارات التعجب:
- "زواج من دون زغاريد، واستعدادات؟!!"
تمتم الشاب بما يشبه الاعتذار:
- " سألتحق غدا بالجيش ولا وقت لدينا للشكليات !"
أعاد الشيخ نظارتيه فوق عينيه، وعاد من جديد يدقق بورقة "عقد الزواج":
- "من فضلك أعطني بطاقتيكما الشخصيتين."
ارتبك الشاب، لكنه التفت إلى الفتاة، كانت بعمر طالبات الاعداية، يكاد الخجل أن يقتلها، ولأول مرة لاحظ الشاب "النمش" يزداد فوق وجه فتاته، ويزيدها ذلك النمش فتنة في عينيه، ارتبك وهي تفتح محفظتها الحائلة اللون، لتعطي زوجها بطاقتها الشخصية:
- "هذه هي أوراقنا الشخصية."
أخذ الشيخ يدقق في الأوراق التي أمامه، وعندما نظر الشاب إلى فتاته رآها كأنما توشك على مغادرة الفندق من شدة الخجل والإحراج، وأنها بانتظار كلمة واحدة من هذا الشيخ لتهرب دون أن تلوي على شيء أبداً. ومن جديد استطاع أن يلاحظ الشاب فم الشيخ الخالي من الأسنان عندما قال:
- "أوراقكما أصولية. أنني أسف لإزعاجكما."
ثم أكمل:
- "لدينا غرفة في الطابق الأول. ساصحبكما لترياها."
ترك الشيخ مكانه واتجه صوب السلم الحجري، كان السلم يغرق بالظلام، واستطاعت الفتاة أن تلاحظ الدرجات الحجرية المتآكلة، لم يكن الدرج عالياً كثيراً، بضعة درجات وبعدها وجدا نفسيهما يجوسان في دهليز مظلم، وبصعوبة استطاع الشاب أن يميز باب الغرفة الخشبي، وبعد أن اعتادت عيونهما الظلام، رأى أن أكرة الباب ساقطة، ومكانها ثقبان، قال الشيخ بصوت أجش:
-"كم ستمكثان؟"
أجاب الشاب وهو يتنهد للجهد الذي بذله في الصعود:
- " الليلة فقط !!"
كانت الفتاة خلفه. دفع الشيخ باب الخشب، فأصدر أزيزاً عالياً، وتنشق الشاب عفونة الغرفة، أضاء الرجل مصباح الغرفة:
ــ "أنها أفضل غرفة لدينا.. أنه فندق قديم كما تريان على أية حال!!"
ــ "سنبقى ليلة واحدة فقط ."
وفي عيني الشاب الملتمعتين ارتسمت أشياء الغرفة القديمة، المبقعة بزيت حائل اللون، كأنما كل قماشات الغرفة قد طليت بهذا اللون. عندما أصبح الشيخ في منتصف الغرفة، قال وهو يضحك:
ــ "يقولون يا أبني أن البخور يثير التصوف في الإنسان!! والعنبر يثير فيه الشهوات، وأزهار البنفسج تثير فيه ذكريات الغرام القديمة، والشنبق يشوش الذاكرة، والمسك يربك العقل... وأنا سأجلب لكما البخور!!"
دفع الشيخ ستارة النافذة وفتح درفتيها الخشبيتين، فاستطاع الشاب أن يرى زقاقاً ضيقاً و"شناشيل"* لا تبعد نوافذها عن فندقهما سوى ذراعين:
ـــ "فتحت لكما النافذة ليتجدد الهواء، بإمكانكما إغلاقهما. "
انتبه الشيخ للفتاة التي لم تزل واقفة إزاء باب الغرفة، ولا تجرؤ على دخولها:
ـــ "أدخلي يا أبنتي. لا تبقي واقفة هكذا. "
التفت الشيخ للشاب كأنما يكمل حواراً سابقاً معه:
ـــ "هناك مثل عربي قديم يقول: الأجداد دائما مخطئون فيما يخص طريقة حياة أولادهم وأحفادهم! "
قال الشاب، وهو يضع كيساً كان يحمله في يده على السرير، وقال ملاطفاً:
ـــ " أنهم يثيرون المتاعب بشكوكهم!!"
ـــ "لهم كل الحق يا أبني.الدنيا تغيرت كثيراً! !!"
دخلت الفتاة الغرفة متوجسة، ووضعت حقيبتها الصغيرة على السرير، مثلما فعل زوجها بكيسه، أحس الشاب أن العجوز يهم بمغادرة الغرفة، نكت يديه:
ـــ "سأجلب لكما شراشف جديدة، وبخوراً، أنكم ضيوفي لهذه الليلة، أنها ليلة مباركة في حياتكما!! "
ـــ " شكراً." قال الفتى.
ترك العجوز الغرفة فأغلق الشاب باب الخشب وراءه، ومن وراء الباب سمع الشيخ يقول:
- "لا أتذكر من قال أنه أفضل للرجل أن يتزوج من أن يحترق! "
وسمع وقع خطوات الشيخ البطيئة على درجات السلم المثلمة، وتخيله سيسقط من أعلى الدرج. وأخذ ينصت كأنما سيسمع صرخة الشيخ الواهنة بعد لحظة، لكنه لم يسمع شيئاً، سوى الخطوات البطيئة، الحذرة، كأنما كانت قادمة من أعماق بئر عميقة، ثم تلاشت، ابتسم الشاب لزوجته:
ــ "أنه شيخ طيب. تفضلي أجلسي على السرير. "
قالت الفتاة:
ــ " سيجيء من جديد !!"
جلست الفتاة على طرف السرير بخجل. وخيم الصمت على الغرفة، وسمعا أصواتاً صادرة من السقف:
- "سألبس "دشداشتي" التي جلبتها في الكيس. "
كأنما كان الشاب يشجع زوجته على أن تفعل كما يفعل. فبدأ ينضو عنه ملابسه، وحذاءه، وارتدى ثوبه، الذي كان منكمشاً عند الظهر، لاحظت الفتاة ذلك، وهو يعلق سرواله وقميصه وسترته بواسطة مسامير مغروزة في الحائط. دفع الشيخ الباب حاملاً شراشف بيضاء وعود بخور:
- "لقد عدت بسرعة، أليس كذلك؟ لست شيخاً جداً كما تظنان! "
كان رأسه قد أشتعل شيباً فغدا لونه كلون الفضة، ولم يكن شاربه الكث خيراً من شعر رأسه، قال مخاطباً الفتاة:
ــ "هلا تسمحين- يا عروستنا الجميلة- أن يرتب لك جدك السرير!! "
خجلت الفتاة جداً، وابتسمت وتركت السرير مرتبكة. قال الشيخ وهو يرتب الأغطية قبل أن يفرشها بعناية واهتمام لتكون لائقة في نظر العروسين، وهمس لهما:
ــ " في الغرفة التي يفصلها عنكما الدرج، جندي جريح حرب خرج من المستشفى قبل أيام واستأجر هذه الغرفة ليمضي بقية أيام إجازته ليلتحق بعد انقضائها بجبهة الحرب من جديد!! لقد سألته عن عائلته، قال لي أن ليس له عائلة، وأنا بيني وبينكم، لا أصدقه! "
أخذ يرتب أنكماشات الشراشف فوق السرير:
ــ " الشيء المهم، الذي أريد أن أقوله قبل أن أنسى، أنه قبل منتصف الليل يعود إلى غرفته من تجوال طويل في المدينة، وقبل أن ينام سيغني بصوت حزين إلى أن ينهد من التعب وينام، أنه بهذا يتبع قانون الجندية القديم، ألا وهو افعل ما تريد أن تفعله قبل أن يمنعك أحدهم من ذلك! وأنا لا أستطيع أن أمنعه أبداً. أريد أن أتركه يشعر أنه في بيته. وأرجو أن تتحملاه، أنتما أيضا لهذه الليلة! !! "
التمعت عينا الشاب الحليق الرأس. أكمل الشيخ تنظيم الأغطية البيضاء ثم شرع بتثبيت عود البخور في أحد ثقوب الجدار، فلاحظ الشاب بقايا أعواد بخور سابقة كثيرة في الثقب. أكمل الشيخ:
ــ "وأغرب سؤال طرحه عليَّ هذا الجندي هو: هل إنني سمعت صفير نايات صنعت من عظام البشر؟!! بربكما هل سمعتما بنايات تصنع من عظام البشر؟!! "
هز الشاب رأسه نفياً، وبقيت الفتاة مذهولة لا تجيب، عاد الشيخ من جديد يهتم بعود البخور، ويعيد تثبيته وأشعل طرفه بعود ثقاب، وبعد ذلك نفخ العودين، فتصاعدت حلقات الدخان المعطرة. أكمل الشيخ:
- "قبل أن أترككما، إذا حدثت غارة جوية، أطفئا المصباح، وأبقيا في الغرفة لأن الملجأ الوحيد بعيد جداً عن الفندق! ! "
قال الشاب:" شكراً " وتبع الشيخ، وأغلق باب الغرفة وراءه وأخرج منديلاً من جيبه يسد به ثقبي أكرة الباب!! قالت الفتاة بعد أن أعادت من جديد لتجلس على طرف السرير:
ــ "هذا الشيخ يعرف الكثير من الحكايات المشوقة! "
اتجه الشاب صوب نافذة الغرفة وسحب الستارة، وأغلق النافذة الخشبية، فأصدرت صوتاً مكتوماً:
ــ "يمكنك الآن أن تلبسي ثوب النوم"
ــ " اطفىء الضوء من فضلك!! "
ــ " ما أشد خجلك! "
أطفأ المصباح، فغطت العتمة أشياء الغرفة، ثم بدأ ضوء الزقاق والبنايات القريبة ينسل من شق النافذة ويتشربه قماش الستارة، أحس بحركة زوجته أثناء خلعها تنورتها، وقميصها وارتداء ثوب النوم. قال الفتى في نفسه: "إذا مت في هذه الحرب .. كيف تستطيع مواجهة أهلها وحدها وتعلن لهم زواجنا؟!"
أقترب منها، مسها بيده، أحس بليونة لحم كتفها ودفئه. ثم بحث عن شفتيها في الظلام ، سمعها تقول:
- " لم ألبس ثوبي بعد!! "
لم يجبها بشيء، لكنه أحس أنه اهتدى للفم، الذي حلم بتقبيله طويلاً ....
******
قبل منتصف الليل بقليل أيقظهما صوت غناء ريفي حزين، قالت الفتاة:
ــ "أنه يغني، كما أخبرنا صاحب الفندق!! "
أحس الفتى أن إغفاءته القصيرة قد أعادت إليه نشاطه، وأن عليه أن يتمتع مع زوجته بهذه الليلة الرائعة، قال الفتى:
ــ " له صوت عذب ..لكنه حزين جداً. "
قالت الفتاة:
ــ " سأغسل طرف الشرشف" ونستمتع بهذا الغناء الليلي!! "
تركت الفتاة السرير وأضاءت المصباح، توقف الغناء المبحوح، لكن علا صوت وتر حزين. أزاح الفتى"الشرشف" من تحته رأى على طرفه قطرات دم قليلة، تشربتها أنسجة القماش، وأخذ من جديد ينصت للصوت، الذي عاد من جديد يسمع من خلال تشظي الماء في المغسلة، قال الفتى:
ــ "عندما أعود في أجازة ولا أجدك، سأغني مثله!!"
أجابته هامسة :
- " اتصل بي في القسم الداخلي للطالبات وسأجيء. "
صمت الفتى، لكنه قال بعد قليل بحزن:
- "قد تكونين في ذلك اليوم عند أهلك. "
توقفت الفتاة عن غسل طرف الشرشف لتفكر، ثم قالت:
- " سأذهب إلى أهلي لمدة يومين من كل شهر كالعادة. "
قال في نفسه:"سأغني طوال الليل، إذا كان اليومان ضمن أجازتي. "وعلى حين غرة عاد صوت رنين الوتر الحزين مثيراً أنغاماً شجية في كل أرجاء غرف الفندق القديم:
-"متى سنخبر أهلنا بأننا تزوجنا لنضعهم بذلك أمام الأمر الواقع ؟!! "
توقفت عن الغسل، وبدأت تعصر أطراف الشرشف تمهيداً لنشر الجزء المبلل منه ليجف:
ــ "ألم نتفق على أن أكمل تعليمي أولاً، وأنت تنهي خدمتك العسكرية!! "
نظر الفتى إلى سقف الغرفة، ومن جديد علا صوت مذبوح بالغناء. أحس بأنه بحاجة إلى أن يضم زوجته إلى صدره. قال لها متوتراً:
ــ "تعالي يا حلوتي !!"
أطفأت المصباح، وأحس بأنفاسها قريبة منه. ثم أخذ الغناء بالخفوت كلما تقدم الوقت، كأنما الحنجرة التي تردد المقاطع الريفية قد تقطعت أوتارها من شدة الحزن والتعب، ثم صمتت كأنما صمتها سيستمر طويلاً، وإلى الأبد، وبانتظار الصوت المجهول، الذي سيتردد من جديد لا محالة بقيا ينتظران وعيونهما معلقة بأنتفاخات السقف، متلاصقين خداً بخد، وكفاً فوق كف، وعلى حين غرة علت أصوات نايات، ولكن هذه المرة من صفارات الإنذار معلنة عن غارة جوية، كأنما صنعت تلك الصفارات من عظام البشر، مخيفة، هادرة، شملت كل غرف الفندق، والمدينة، وترددت فوق القماشات المدهونة بالتراب على مرّ الزمن.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الشناشيل: طراز معماري قديم لشكل النوافذ في البيوت القديمة في مدينة البصرة.
1186 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع