
د.ضرغام الدباغ / برلين
نظرية انهيار وسقوط القوى العظمى
بين أعوام 1989 / 1990، وفي ظروف شخصية سيئة جداً، أقدمت على مغامرة، لمواصلة الصمود، تنطوي أمرين اثنين : الأول طلبت من صديق عزيز كان يواصل زيارتي في السجن، أن يأتي لي بكتاب (Geschichte der Araber: Von den Anfängen bis yur Gegenwart/ تاريخ العرب منذ البدايات وحتى العصر الحالي) وهو عمل موسوعي كبير ومهم، هذا العمل يرتقي إلى أهم الأعمال التي كتبت عن تاريخ العرب طراً. إذ يتناول الكتاب روهو عمل موسوعي، الذي ترجمته، عن اللغة الألمانية من 7 أجزاء أنجزت ترجمة الأجزاء 4 الأساسية منه من اللغة الألمانية يتناول تاريخ العرب منذ البدايات(قبل الإسلام) وحتى السبعينات، وما أنجزته هو حتى نهاية الحرب العالمية الثانية،
وترجمت منه 4 أجزاء (نحو 1380 صفحة) وأصاب العمل الكثير في صحتى، بصري بصفة خاصة، إذ ترجمت اعتماداً على قاموس جيد (شريغلة)، وموسوعة دودن (Duden) بسيطة، وكتبتها بيدي 3 مرات أي كتبت حوالي 4000 صفحة بيدي، وقد تركت آثارها على الأصبع الأوسط في يدي الأيمن. إضافة لصعوبات كثيرة ساذكرها للقراء ذات يوم.
كنت خلال دراساتي في التاريخ السياسي للعرب المسلمين، قد قرأت الكثير من الأعمال المهمة، لعلماء ومؤرخين، ألمان، روس، فرنسيين، إنكليز، تتفاوت أعمالهم في الدقة الموضوعية، والاستيعاب الصحيح للأحداث وتفسيرها، ولكنها تتفق جميعها في عدم القدرة على فهم هذا السؤال المهم: كيف أنتصر عرب البوادي، في جيوشهم البسيطة القليلة العدد على جيوش جرارة كثيفة العدد والعدة، ثقيلة التسليح، لإمبراطوريات كبيرة : الإمبراطورية الساسانية، الإمبراطورية البيزنطية ?.
والامر كان يعني أيضا مخالفة صريحة، لمبادئ استراتيجية يتجنبها القادة السياسيون والعسكريون، وهى تجنب الحرب على أكثر من جبهة واحدة، والموقف كان أشتباك مع قوتين عظميين : الساسانبة والرومانية، والأمر هنا يتعدى الفارق في مستوى التسليح والتدريب وحجم الجيوش (الساسانية والرومانية)، رغم أهمية هذا العامل. إلى حجم الدولة ونظامها السياسي والإداري والاقتصادي، فالعرب القادمون من وسط شبه الجزيرة العربية، كانوا حديثي العهد (في مرحلة الانتقال إلى العصور الميلادية) في تشكيل دولة كبيرة / امبراطورية تتعدى إطار الكيانات البسيطة، (اليمن، وسط شبه الجزيرة، البتراء، تدمر، الحضر، الحيرة) والتقاليد القبلية، وأنماط الإدارات البسيطة التي لا تتعدى مدينة أو أثنين وبعض القرى. ولكن الأسس النظرية للنظام السياسي بدا في جوهره عادلاً بدرجة كبيرة، ورؤى اجتماعية أكثر اشراقاً من قيم الامبراطوريتين والنظام المؤسس على نظم العبودية.
والتحليل الموضوعي الدقيق، يقودنا إلى نتائج مقبولة منطقياً، تتفق مع سياق التطورات التاريخية اللاحقة، وفي مقدمة تلك المعطيات :
1. أن الامبراطوريتان: الساسانية والرومانية، لم تكونا في أفضل حالتهما. فالفساد السياسي والإداري كان عميق الجذور والنتائج. والسلطة السياسية كانت مقسمة بين كهنة المعابد / الكنائس، وبين الملوك والقياصرة.
2. لم تتمكن الإدارتان(الساسانية والرومانية)، من التأقلم مع السكان العرب، وكإدارات اجنبية، كانت إرادة السكان مخالفة لهم في الذهن والمزاج، وتعاملوا معهم كسلطات احتلال.
3. في سورية ومصر حيث الإدارتان على الديانة المسيحية، إلا أن المواطنين العرب المسيحيون(كقبيلة الجراهمة مثلاً) قاتلوا مع اخوانهم العرب المسلمين، ضد الوجود الأجنبي. وفي ذلك أنتباه مبكر لأهمية العامل القومي.
4. كان القادة المسلمين العرب يقاتلون على ظهور الخيل مع جنودهم، ويشاركونهم طعامهم وظروفهم بصفة تامة.
5. أستفاد المحررون العرب من خبرات وخدمات الموظفين في الإدارات السابقة، ولكن مع إضفاء لمساتهم الاجتماعية المميزة، فأضافوا الكثير من المؤسسات الاقتصادية التي لم تكن موجودة، كالخراج(الضريبة على الأرض)، والجزية (بدل الخدمة العسكرية)، والزكاة (الضريبة على المال المنقول).
6. تملك الأمة العربية، قوى ذاتية كامنة وخصائص تتمثل بقدرتها على المطاولة، (Endurance/ ِAusdaur)وأستيعاب النكسات والهزائم، والنهوض مجدداً. فأنا مؤرخ وأعرف ما أقول، لقد تكالبت على هذه الأمة قوى رهيبة يوم كانت في أحط درجات الأنحطاط، لقد فعل المستعمرون الفرنسيون والإيطاليون والإنكليز أفعالاً يشيب لها الولدان وحين تأمروا قبل مئة عام على الدين واللغة والحرف، وصادروا الأرض وحرموا الناس من التعليم وأغلقوا المدارس التي تعلم بالعربية، وبثوا سموم الطائفية حيثما استطاعوا إلى ذلك سبيلا في العراق ولبنان ومصر والجزائر والمغرب وفي كل مكان حلوا فيه.
7. هناك فصول يصعب فهمها : كيف أنتصر خالد بن الوليد على جيش الروم الذي يفوقه بأضعاف مضاعفة، أقرأ عن معركة أنوال في المغرب، أقرأوا معارك عبد الكريم الخطابي، أقروا معارك في تاريخنا المعاصر، تحرير الجزائر، اليمن الجنوبي، النضال في سورية (الثورة السورية الكبرى)والعراق (ثورة العشرين ــ القادسية الثانية) ثم اسألوا أنفسكم لماذا كانت هذه الأرض وهذه الأمة مقبرة للغزاة، هنا أنتهت كل الأمبراطوريات التي حاولت أن تغزو بلادنا، أن تجعلنا خيوطا رفيعة في ثقافتها، وأين مصيرها ؟ فبعضها كف عن الوجود نهائياً (إمبراطورية أكسوم، إمبراطورية الفرس الساسانيين، الأغريق، الرومان، دول الديودوشان( Diadoschen /خلفاء الأسكندر)، وهنا أنتهت بريطانيا كقوة عظمى، وعندما حاولت أن تستعيد دورها الضائع ولو تحت كنف الولايات المتحدة وفرت لا تلوي على شيئ في المعارك اللاحقة(خسرت الدول المنتدبة، وشرقي السويس وعدن)، وفرنسا فقدت آخر كبريائها هنا في المغرب وتونس وأخيراً في الجزائر، وإيطاليا في ليبيا.لكنهم أخفقوا والأخفاق كان بداية الأنهيار.
8. على أبواب هذه الأمة تحطمت قبضات جيوش وإمبراطوريات (أكسوم الاثيوبية، الساسانيين، والروم) ومن يعش سيرى الكثير، جذور هذه الأمة عميقة، وقدرتها على المطاولة رهيبة، من يصدق لولا الصور الفوتغرافية لطفل في العاشرة يرتدي سرروالاً قصيراً ويحتذي صندلاً يقابل ديابة صهيو نية بحجارة .. والله لولا الصور لا يصدق أحد منا أبشروا بما بايعتم وطنكم وعروبتكم ودينكم عضوا عليها بالنواجذ، أنظروا إلى الأمام .. إلى الأمام ... قدر هذه الأمة أن تصارع الزمن وأنتم منتصرون حتماً .....!
9. الدول لن تكون عظمى إذا اسعت جغرفيتها، أو تعاظمت ثرواتها (بالاستيلاء ونهب ثروات شعوب أخرى، أو تكنولوجيتها العسكرية، أبتداء يجب أن ترتكز على مبادءئ أخلاقية تستحق التعميم، وعلى عدالة في مواقفها، وعلى صادرات مفيدة للإنسانية، وإلا فالكبير قد لا يبقى كبيرا إلى الابد، والفقير قد يصبح ثرياً، وينافس على المقاعد المتقدمة، الصين والهند تعطي الأمثلة ..
10. العرب أنتصروا في جميع معاركهم على قوى كبيرة: امبراطورية أكسوم / الحبشة، والامبراطورية الساسانية، الامبراطورية الرومانية، إيطاليا، بريطانيا، أسبانيا، فرنسا، وكل هذه الدول الكبرى حاول تدمير العرب،
11. العرب لم يحتلوا عواصمهم، ولكن وجودهم كقوى استعمارية ... وكدول عظمى أنتهى. وعلى الأرجح إلى غير رجعة، والأسباب الجوهرية التي لا يودون سماعها، هي أنهم فقدوا جوهرياً أسباب ومقومات تألقهم وتقدمهم، وإحدى أهم الساحات التي خسروا فيها كانت أقطار عربية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
اليوم يتبادل المستعمرون (الكولونياليون) القدامي الأوربيين يتهمون صراحة أو ضمناً المستعمرون الجد (الإمبرياليون / الإمبريالية الجديدة، العولمة): السياسية الأمريكية وعواقب طموحاتها، وعدم تقبلها نصائح الأوربيين الأكثر خبرة في إدارة الصراعات، ولكن أميركا ترفض هذه المزاعم، وتعتبر الأوربيين مشبعين بأفكار رجعية، وأنهم (Oldversion) يتعاملون مع القضايا بعقلية أستعمارية قديمة تنتمي للقرن الثامن والتاسع عشر، لا تمت لهذا العالم ولمعطياته وفق قاعدة (من شب على شيئ، شاب عليه).

760 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع