سلام توفيق
انا افهم مغزى دعوة سيادة المطران ساكو للمغتربين للعودة الى الوطن .. يشدنا الحنين كثيرا وخصوصا عندما تعرج امام ناظرينا صورا تحمل ذكريات لمناسبات جميلة عشناها مع احلى الاهل واعز الاصدقاء فتاخذنا النشوة في غفوة نسرح فيها وكاننا نعود لنعيش تلك اللحظات الرائعة ..
ونصحوا فجاة ليذهب ذلك الغشى عن عينينا فنرى الحال قد تبدلت وتلك اللحظات الساحرة لم تعد موجودة الا في شعاع قصير نعيشه حينما تسدل جفوننا على مقلتينا لتمسح الحاضر وتطير بك الى زمن جميل ولى وانتهى ولم يعد له مكانا الا في خانة الذكريات .. فالحال لم يعد هو الحال ومصيرنا لم يعد قرارا نقرره في لحظة نشوة او انفعال
لكل منا وحتى يوم وصوله الى ارض احلامه في المهجر حتى وان لم تكن هي خياره يوما .. قصصا مؤلمة .. ايام تعيسة .. كوابيس سوداء .. كنا فيه اقرب الى الموت منه الى الحياة .. ساسرد باختصار بضع سطور علقت في مسار رحلتي يوم هاجرت تاركا ارضي وبلدي واصدقائي متوجها نحو المجهول ..
في ذلك اليوم قبل 14 عاما وحين كانت السيارة تقلنا من الموصل نحو عمان محطتنا الاولى في رحلة الاغتراب توقف السائق على الطريق العام قبل ان نصل الى طريبيل لتناول بعض الطعام الذي اصطحبناه (لوداعية الوطن) .. فردنا الجريدة على صندوق السيارة الخلفي كانت والدتي رحمها الله قد اعدت كما من لحم العجل المسلوق يكفي لعدة اشخاص .. كان معنا سيدة عجوز بقت في المقعد الخلفي تتناول بعض الطعام مما اعدته بنفسها .. لم تنزلق لقمتي الى معدتي ورفض بلعومي تمريرها .. فانسحبت من الوليمة .. بينما كان السائق ياتي على قطع اللحم واحدة بعد الاخرى وهو يقول
اترى هذا اللحم .. والله ستبقى بحسرة طعمه ولذته .. وانت في الاردن .. وكان كلامه صحيحا لايرتقى للشك ..
اولى محاطتنا كانت في الاردن الشقيق او هكذا كانوا يسمونه في العراق .. ولكن شتان بين صفة تطلق وبين تعامل تلمسه .. لم نحس ابدا اننا بين اشقاء .. حينما ذهبت الى احد اقسام الاقامة لاسجل عندهم استقبلتنا سيدة برتبة ملازم اول بنظرة (اخوية ) قل نظيرها !!! رمت الجواز في وجهي بعد ان اطلعت على المعلومات وهي (تدردم) مع نفسها بصوت مفهوم يعبر عن مدى ترحيبهم باقامتي في (بلدي الثاني) وحين غادرت الاردن ابى ضباط الجوازات الا ان يعبروا لنا عن (مشاعرهم القومية الجياشة تجاهنا) فاتهمونا قبل ان يفتحوا الجوازات بان الفيزا مزورة وكانت معركة اعصاب حاولوا فيها ان يراقبوا انفعالاتنا ليحكموا على صحة فيزنا ولكن النصر كان لنا بعد ان فشل النقيب الاردني في استفزازي ولم يبقى الا ان يعطونا جوازاتنا لنترك اقذر بقعة يمكن للبشر ان يدفن فيها جزء من عمره ..طبعا لن اعرج على الاشهر الاربعة التي قضيتها هناك وتفاصيل الحياة فيها لانها ماساة بحد ذاتها
تركيا كانت الخطوة التالية ..وصلنا الى انقرة كانت الثلوج تغطيها ..هدفنا هو اسطنبول ..صعدنا بالباص لنصف يوم كامل ..شاء القدر ان نختبر (الجيرة) فحقنا عليهم لانهم الجار الاول وليس السابع.. اردنا الدخول للحمامات في احد المطاعم التي توقف عندها الباص .. لم يكن عندنا نقد تركي .. كان رجل عجوز قاسي الملامح يجلس على (الدخل) ابرزت له ورقة 10 دولار فانتفض غاضبا no--no ..نعم لقد رفض ان ندخل لنتبول لان ليس معنا نقد تركي ..تدخل شاب يتحدث قليلا من الانكليزية ودفع لثلاثة اشخاص وقال هذا مبلغ كبير في تركيا .. مادفعته لايساوي 30 سنتا فقط !!!! ايها الظالم من اجل 30 سنتا ..ياجار السوء
عشنا في احياء شعبية وسط مافيات التهريب والنصب والاحتيال ..بانتظار ان نتوجه الى بلدا نشم فيه رائحة الحرية .. اتفقنا مع (القجخجي) على ان يعبرنا الى اليونان مقابل حوالي 3000 دولار .. جاؤنا عصرا وحشرونا في باص صغير (دولمش)
يتسع في احسن الاحوال ل 7-8 اشخاص .. اما نحن فكنا قرابة 25 كتلة لحمية تسمى في الايام العادية (بشرا) وحين وصلنا الى مكان الانطلاق كان عددنا بين 40-50 شخصا بضمنهم عدد من العوائل وكان لدى بعضها اطفالا رضع !!!
قادنا (طاهر) وهو اسم المهرب في طرقات ملتوية وكان يمشي بخطوات سريعة ولايلتفت الى ما ورائه فعلى الاخرين اقتفاء اثره وعدم اضاعته لان ذلك معناه التيهان .. الارض كانت موحلة بفعل الامطار واجتزنا عدة سواقي وقناطر ..مررنا بجوار قرى تركية صغيرة كانت تتعالى من حولها نباح الكلاب وكانوا احيانا يصبحون قريبون جدا منا ويتحينون الفرصة للانفراد بفريسة من بيننا ..اجتزنا احدى القرى من داخلها عبر جسر طوله حوالي 15 مترا ..مرت سيارة شرطة بقربنا وكان يغضون النظر عن حركتنا وكانهم يقولون ..هيا بسرعة اجتازوا الجسر !!
قبل الفجر وصلنا الى مجرى مائي عرضه حوالي 40-50 مترا والتيار فيه شديد بعض الشيء .. ربطنا طرف الحبل وبدئنا ننفخ قاربين مطاطين صغيرين يكفي كل واحد ل 4 افراد ..عبر احدهم الى الضفة الثانية وربط الحبل من الجهة الاخرى ثم بدئنا بالعبور بمسك الحبل حتى الضفة الثانية لمقاومة تيار الماء الشديد القوة ..عبرنا جميعا او لنقول باقي من وصل بسلام الى تلك النقطة ..علينا ان نمشي بسرعة ونصل الى نقطة محددة داخل الحدود اليونانية حيث ستنتظرنا - او هكذا كان مفترضا- شاحنة تقلنا الى احدى المدن الكبيرة - تسالونيكي- لكن الامنية شيء والواقع شيء اخر ..وصلنا متاخرين وانبلج الفجر واصبحنا مكشوفين ..ارشدنا طاهر الى احدى الفتحات الكونكريتية لجسر قديم او ماشابه .. قال انتظروا هنا ..كان عدد الباقين لايتجاوز نصف العدد الذي بدئنا معه ..لم اجد اثرا للعوائل ..لا ادري ماحل بهم للاسف
كانت ملابسنا تحمل من الماء والاطيان ما جعل وزننا مضاعفا ..كنا نرتجف بردا ..دقائق ثقيلة اعقبتها اصوات متعالية بالخارج فهمنا بسرعة انهم شرطة الحدود اليونانية يامروننا بالخروج مرفوعي الايدي ..لقد فعلها طاهر وزملائه ..فشلت الصفقة فروا هاربين عبر الحدود التي حفظوها عن ظهر قلب ولهم في كل قرية معاونون ومرشدون وادلاء ..وابلغوا علينا الشرطة لكي لانموت هناك من البرد !!!
يتبع الجزء الثاني لاحقا
1388 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع